د. محمد العمرو: التغريب تسلل إلى مناهجنا عبر مداخل عدّة..فقط الشريعة الإسلامية أولت الأيتام عناية خاصة
29 محرم 1434
محمد لافي

حذر خبير المناهج الدراسية ومؤلف كتاب "تربية اليتيم في الإسلام"  الدكتور محمد ياسر العمر, من تسلل التغريب إلى مناهجنا من خلال الاستيراد المطلق للمنهاج الغربية, وترجمتها دون مراعاة الأبعاد الثقافية والقيمة, والاعتماد الكامل على الخبراء الأجانب, داعياً إلى بناء المناهج العربية وفق أحدث نظريات بناء المناهج وأشملها بما تحقيق سمات الشَّخصيَّة الإسلاميَّة.
وقد كان لـ"المسلم" لقاء مع الدكتور العمرو والذي كشف من خلاله عن بعض النواحي التربوية في التعامل مع اليتيم في الإسلام كما تطرق إلى بعض التحديات التي تواجه تطوير المناهج العربية وكيفية تجاوزها.

 

ما السَّبب الذي دعاكم لاختيار البحث في مجال تربية اليتيم في الإسلام؟.
السَّبب في اختياري لهذا التَّخصُّص بالذَّات، أنَّ دراستي كانت في إحدى الثَّانويَّات الشَّرعيَّة، وقد خصَّصت المدرسة العدد الأكبر من مقاعدها للأيتام، فعشت بينهم في سنٍّ مبكر، وتواصلت معهم وأحببتهم، واطلعت على النُّصوص الشَّرعيَّة حول الأيتام، وأثَّر قوله تعالى:  (فأمَّا اليتيم فلا تقهر) الضُّحى: 9. في نفسي، ونقش في قلبي محبَّة للأيتام، ولما بدأت أفكر بموضوع لرسالة الماجستير تخصُّص التَّربية في الإسلام، بدأت بالبحث؛ فوجدت خلو المكتبة التَّربويَّة من أيِّ دراسة شاملة، أو سفْر قيّم يتحدَّث عن الأيتام، وبدوره مشرفي الدكتور: فاروق السَّامرّائي  أقرَّ التوجّه وشجعه.

 

أين تكمن أزمة تربية اليتيم في الوقت الحاضر؟.
نعاني في العصر الحاضر من أزمة تربوية عامَّة، رغم الوعي التَّربوي، والمؤسَّسات التي تتبنى نشر الثَّقافة التَّربويَّة، إلا أنَّ اليتيم أزمته مركبة، فإضافة إلى كونه فقد الحاني الودود " الأب " إلا أنَّ المشكلة تزداد مع ضعف أمِّ اليتيم تربويًّا, وما قد يتبع ذلك من إهمال اليتيم، وتزوُّج أمَّه، أو إيداعه في أحد ملاجئ الأيتام، أو إحدى دور الرِّعاية.
ولعلَّ إعادة تأهيل أمَّهات الأيتام، وتدريب مشرفي ومربي الأيتام، وفق رؤية ثاقبة من الحلول النَّاجحة لهذه الأزمات.

 

هل من تجارب سابقة في بيئات أخرى من غير المسلمين في تربية اليتيم يمكن الاستفادة منها؟.
لا توجد أيُّ أدبيَّات غربيَّة تدعو لخصوصيَّة تربويَّة للأيتام أو حقوقهم، إنَّما يتمُّ تناول فقط الأطفال المشرَّدين، أو اللُّقطاء، أو أبناء الشَّوارع، أو فاقدي الأبوين, ولا خصوصية لليتيم – وأعني باليتيم فاقد الأب-، والشَّريعة الإسلاميَّة هي التي لفتت الأنظار للأيتام، وأولتهم رعاية ماديَّة ومعنويَّة خاصَّة، ففي القرآن الكريم ذكر اليتيم في ثلاث وعشرين آية، تحدَّث عنهم منفردين، مثل قوله تعالى: (فأمَّا اليتيم فلا تقهر) الضحى: 9. أو شملتهم بالدَّعوة للرِّعاية مع فئات أخرى من المجتمع، مثل قوله تعالى: (ويطعمون الطَّعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) الإنسان: 8.

 

هذا إضافة إلى العديد من الأحاديث النَّبويَّة التي تشرع لتربية الأيتام وتوجيههم، وبهذا تسجِّل التَّربية الإسلامَّية مكانة متقدِّمة على كلِّ التَّربويَّات الغربيَّة والحديثة باهتمامها بفئة مهمَّة، وشريحة واسعة من المجتمع.
هل ترون أنَّ اليتيمة لا بدَّ أن تفرد بنهج تربوي مختلف عن أخيها اليتيم؟.

تندرج تربية اليتيمة تحت تربية الفتاة المسلمة، فكلُّ التَّوجيهات الخاصَّة بالفتيات، تدخل اليتيمة في عمومها، وكلُّ النُّصوص التي تحدَّثت عن الأيتام، شملت اليتيم واليتيمة، ولكن! التَّربية الإسلاميَّة خصَّتها في مسألتين:
الأولى: تحدَّث العلماء عن كيفيَّة ابتلاء اليتيمة لإدارة أمور حياتها، معتبرين أنَّ النَّصَّ موجَّه لليتيم واليتيمة، ولا أعرف خلافًا في ذلك، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) النساء: 6.

 

الثَّانية: أنَّ التَّربية الإسلاميَّة راعت قضية زواج اليتيمة، حتى لا تكون سلاحاً أهوج يضرُّ بمصلحة أنثى، لا تملك من أمرها شيئاً، فقد سأل عروة بن الزبير – رضي الله عنه – عن عائشة - رضي الله عنها – عن قوله تعالى: (وإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أن لا تَعُولُوا) النساء: 3.  فقالت: يا ابن أختي.. هذه اليتيمة تكون في حجر وليِّها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها. فيريد وليُّها أن يتزوَّجها بغير أن يقسط في صداقها، فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنَّ، ويُبلِغوا لهنّ على سنتهنّ في الصّداق، فأُمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النِّساء سواهنّ.

 

ننتقل للحديث عن المناهج العربيَّة، بحكم تخصُّصكم في هذا المجال، فهل ترون أنَّ صراع الكم والكيف قائماً في المناهج العربيَّة أم أنَّه حُسم لصالح أحد الطَّرفين؟.
هنالك تجارب جادّة للتَّوازن بين الكم والكيف في الوطن العربي، وقدِّمت بعض المناهج في بعض الدُّول، مراعية البعد الكيفي بشكل جيد، لكن! رغم ذلك ما زالت الانتقادات مقدَّمة للمناهج العربية في المناحي التَّالية:
- طغيان الجانب المعرفي على الجانب التَّربوي.
- عدم مشاركة كلّ الأطراف المعنية بالمناهج، لتقتصر في بعض الأحيان على أخصائي المناهج وخبراء المعرفة، وهذا غير كافٍ في صناعة مناهج ذات جودة عالية، فظهر تضخُّم في بعض المناحي على حساب مناحٍ أخرى، فظهرت مناهج منحازة للمعرفة، وأخرى منحازة لاستراتيجيَّات التَّقديم، وللخروج من هذا المأزق، لا بدَّ من معايير واضحة، وتشمل كلَّ الجوانب.

 

من خلال معايشتكم لمسيرة تطوير التَّعليم, كيف تسلَّل التَّغريب إلى مناهجنا ؟.
تسلَّل التَّغريب لمناهجنا من خلال الاستيراد المطلق للمنهاج، دون الأخذ بعين الاعتبار أنَّ المنهاج ابن بيئته، فترجمت المناهج دون مراعاة البعد المحلِّي، والثَّقافي، والقيمي، في كثير من البيئات، كما أنَّ اختيار مناهج اللُّغة الانجليزية في كثير من البيئات، فيه تجاوز قيمي وأخلاقي في كثير من الأحيان, وممَّا ساعد على تسلُّل التَّغريب أيضاً، الاستعانة بالخبراء الأجانب، دون رقابة أو متابعة، واشتغال خبراء من جلدتنا بثقافة وقيم غربية، وثنائهم وتعظيمهم للمناهج  الغربية، وتقديمهم لها بقالب الرِّيادة والتَّفوُّق والإبداع الشَّامل دون تفصيل.

 

بعد أن وقعت عمليَّة التَّغيير على المناهج, فكيف يمكن تلافي التَّغيير السِّلبي؟. وكيف يمكن صياغة المناهج في العالم الإسلامي لتأهيل أبناء الأمَّة في قيادة أمَّتهم إلى مستويات رائدة؟.
الأصل في المناهج أن تعمل على صياغة وبناء الجيل المثقف الواعي المنتمي لأمَّته، ويكون ذلك من خلال:
بناء المناهج وفق أحدث نظريات بناء المناهج وأشملها, وتحديد سمات الشَّخصيَّة التي تعمل المناهج على بنائها، واختيار المحتوى الذي يسهم في تلك الغاية، ومن ثمَّ تقديم الخبرات، وتنظيمها بطريقة متكاملة ومتماسكة، لتحقيق سمات الشَّخصيَّة الإسلاميَّة.

 

كما لا بدَّ من  اختيار فريق البناء بعناية مطلقة، ويشمل كلّ الفئات المستفيدة من المنهاج، وهنا يدعو جوزيف شواب – صاحب أقوى النَّماذج المنهاجي- في نموذجه المسمَّى المنحى العملي لمشاركة كل من خبير المعرفة، وخبير التصميم، وخبير الطُّفولة، وخصائص النُّمو، وخبير البيئات الاجتماعية، ولا مانع من حضور الطَّالب، وولي أمره، جلسات التَّأمُّل لبناء المنهاج، وكلُّ ذلك بمرجعيَّة قيميَّة أو عقديَّة " فلسفة المنهاج ", و لا بدَّ من مراعاة  أن يلبي المنهاج الحاجات الثَّلاث التالية: حاجة الطَّالب، حاجة المجتمع، حاجة المعرفة, كما لا بدَّ للمنهاج من عقيدة " أيدولوجية " تكمن خلفه، ومخطئ من ظنَّ أنَّ المنهاج مجرَّد من الأيدولوجيَّة، فتجريد المنهاج من الأيدولوجيَّة هو في حدِّ ذاته أيدولوجية، وكثير من المناهج العلمانيَّة تحوي في ثناياها فكرًا أيدولوجيًا، من خلال المنهاج الخفي، والمنهاج المحذوف.

 

هل ترون أنَّ التَّأثير الذي طال شتى معالم الحياة بعد الرَّبيع العربي سوف يطال المناهج الدراسيَّة أيضاً؟.
يرى المنظِّرون أنَّ المنهاج في عمليَّة تغيير دائمة، فمنذ اللَّحظة التي يتأسَّس فيها المنهاج، تبدأ عمليَّة التَّأمُّل لمنهاج جديد، وما هي إلا سنوات قليلة حتَّى يرى المنهاج التَّطوير، وهو كما يقال في عمليَّة تطوير مستمر، والأمر يغدو أكثر إلحاحاً في ظلِّ التَّغيير المتسارع في الرَّبيع العربي، وسيكون التَّغيير هنا حتمي، يشمل الشَّكل والمضمون، كما أنَّ هنالك دعوات لتدريس التَّجارب التَّحررية في الثَّورات العربيَّة، وتقديمها للدَّارسين لتغدو ثقافة ونمط حياة، ولكن! لا بَّد من الإشارة أنَّ عمليَّة التَّغيير قائمة على حالة من الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، ويقولون أكبر دافع للتَّغيير هو الحاجة، ولا أعلم حاجة أكثر من التَّغيير في ظلِّ الثَّورات العربيَّة.