الشورى بين تراثنا وبين مفكري العصر الحديث 2/2
23 صفر 1434
د. إسماعيل محمد عيسى شاهين

الفصل الثاني: الحكم الشرعي للشورى
المبحث الأول: وجوب الشورى في تراثنا السياسي
أولاً: وجوب الشورى عند المعتزلة
أوجبت المعتزلة الأخذ بمبدأ الشورى في كل الأمور العامة التي تتعلق بمصالح الأمة خاصة اختيار الإمام ويستدل على ذلك من رفض المعتزلة لفكرة النص على الإمامة بجميع صورها، أي التي تقول بالنص سواء لأبي بكر وهي البكرية، أو للعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الراوندية، أو لعلي بن أبي طالب وهم الشيعة؛ ولذلك أجازت المعتزلة "أن يصير الإمام إماماً بعهد الإمام إليه إذا وقع برضا الجماعة"(78).
ومما يدل على وجوب الشورى عند المعتزلة أنهم أوجبوا على أهل الحل والعقد مشاورة سائر المسلمين، لكنهم لم يوجبوا بيعة الجميع، فالمطلوب الجمهور الأعظم من المسلمين. وفي هذا يقول القاضي عبد الجبار: "إن العاقدين يستشيرون سائر المسلمين، ولا يجب أن تعتبر بيعة جميعهم"(79).
والزمخشري عندما تناول قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [صّ: من الآية26]، قال في تفسيرها: فإن قلت: لأي غرض أخبرهم بذلك؟ قلت: "ليعلم عباده المشاروة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة"(80)، ويتضح مما سبق أن المعتزلة توجب الشورى في كل أمر مهم يتصل بشؤون الأمة بخلاف الفلاسفة وبخاصة الفارابي وإخوان الصفا.
ثانياً: موقف فلاسفة المسلمين من وجوب الشورى
1 – الفارابي: لم أجد فيما أعلم كلاماً عن وجوب الشورى عند الفارابي، أما بقية الفلاسفة فقد كانت لهم آراؤهم الواضحة في هذا الشأن.
2 – أما ابن أبي الربيع: فيتضح أنه يوجب الشورى على الحاكم ويشترط في المستشار الأمانة، وأوجب على الحاكم بعض الأمور قدمها في شكل نصائح هي:
من استشار غير أمين، أعان على ملكه.
ومن ضيع عاقلاً، دل على ضعف عقله(81).
ويستدل ابن أبي الربيع على وجوب الشورى بالنسبة للحاكم بقوله: "لو استغنى أحد عن المؤازرة والمعاضدة برأيه وتدبيره، لاستغنى نبينا محمد وموسى صلوات الله عليهم، فالوزير هو الشريك في الملك، المشير"(82).
3 – وأما ابن سينا: فيلاحظ أنه جعل إجماع أهل السابقة على من تتوافر فيه شروط الإمامة طريقاً للوصول للحكم؛ إذ يقول: "يجب أن يفرض السان طاعة من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف إلا من جهته، أو بإجماع من أهل السابقة"(83).
ويفهم من النص السابق أهمية الشورى ووجوبها في نظام الحكم عند ابن سينا ويلاحظ أن قول ابن سينا: فرض السان طاعة من يخلفه عبارة تحتاج إلى تحرير، فالطاعة لا تكون إلا في المعروف وفي حدود الاستطاعة، فكيف يفرض السان طاعة من يخلفه بإطلاق؟
4 – أبو حامد الغزالي: فأوجب الشورى في كل ما يتعلق بشؤون الأمة، فعلى سبيل المثال نجده يرد على الإمامية الذين قالوا: إن الإمامة واجبة بالنص ويشهد لذلك قوله: "لو كان واجباً لنص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينص هو، ... بل ثبتت إمامة أبي بكر وإمامة عثمان وإمامة علي بالتفويض"(84).
ويتضح مما سبق أن ابن أبي الربيع، وابن سينا والغزالي قد اعتمدوا مبدأ الشورى وأوجبوه، واعتبروه أمراً جوهرياً في نظام الحكم، وهم بذلك قد اتفقوا مع المعتزلة الذين يوجبون على الحاكم مشاورة أهل العلم والخبرة في كل ما يخص شؤون الأمة الإسلامية.
المبحث الثاني: وجوب الشورى في الفكر السياسي الحديث
أولاً: من يرون وجوب الشورى ويرون أنها ملزمة للحاكم
1 – عند "رواد مدرسة الإصلاح": أما عن رواد مدرسة الإصلاح أو تيار الوسطية فيجمعون على أن الشورى واجبة وملزمة للحاكم فالأفغاني يرى أن الأمة التي لا تشارك في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العامة، فهذه أمة لا تثبت ولا تستقر على حال واحدة، بل ولا ينضبط لها سير، ويرفض الأفغاني أن تخضع الأمة لحاكم واحد: إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم بما يشاء، ويفعل ما يريد(86).
ويؤكد محمد عبده وجوب الشورى وإلزام الحاكم بنتيجتها وذلك بقوله: "مناصحة الأمراء أمر واجب على الرعية كما تدل عليه الأحاديث والآيات الشريفة، ووجب على ولاة الأمر أن لا يمنعوهم من قضاء هذا الواجب، فدل ذلك على أن الأمر في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية159] للوجوب لا الندب"(87).
وفي موضع آخر يقرر محمد عبده أن الإنسان خلق محاطاً بالشهوات، مقيداً بالأغراض، فهو أسيرها، تدفعه إلى مقتضياتها، وتجذبه إلى لوازمها، ولما كانت هذه الجواذب والدوافع قوية لدى أولي الأمر لاقتدارهم على مقتضياتهم كانوا مضطرين إلى مغالبتها حتى يتمكنوا من النهوض بما وسد إليهم من مصالح العباد، ويبين محمد عبده الوسيلة لتحقيق ذلك في قوله: "ليس من وسيلة إلى ذلك إلا مشاورة العارفين العالمين بطرقها، فإن للرأي العام في مغالبة الأهواء ما لا يخفى من القوة... ومن هذا يتبين وجوب الشورى على الحاكم"(88).
وكما أوجب محمد عبده الشورى على الرعية أوجبها أيضاً على الولاة، فعليهم أن يستشيروا ذوي الرأي في مصالح البلاد ومنافع العباد، وأوضح أن الشورى من الأمور الشرعية الواجبة التي قضت بها الشريعة، وحتمته على الحاكم والمحكوم جميعاً، وأكد أنه إذا تخلى الحاكم والمحكوم عن الشورى فقد اكتسبا بذلك إثماً مبيناً(89).
ويرى محمد عبده أن أقوى آية في الدلالة على إلزام الحاكم بنتيجة الشورى هي قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فهذه الآية عنده أقوى في الدلالة على إلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى من قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية159]، ويستدل محمد عبده على ذلك بأن الآية الأخيرة وصف خبري لحال طائفة مخصوصة أكثر ما يدل عليه أن هذا الشيء ممدوح في نفسه، ومحمود عند الله، وأقوى من دلالة قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} فإن أمر الرئيس بالمشاورة يقتضي وجوبها عليه، ولكن إذا لم يكن هناك ضامن يضمن امتثاله للأمر فماذا يكون إذا هو تركه؟ وأما هذه الآية فإنها تفرض أن يكون في الناس جماعة متحدون أقوياء يتولون الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو عام في الحكام والمحكومين، ولا معروف أعرف في العدل، ولا منكر أنكر من الظلم(90).
ويبدو عند التحقيق أن قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} واضحة الدلالة أيضاً في إلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى، وهذه الآية لا تمنع من وجود الضامن الذي يلزم الحاكم بما انتهت إليه نتيجة المشاورة، أما الآية التي توجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طائفة منا، فالظاهر من الآية أنها تلفت أنظار الأمة إلى ضرورة وجود مؤسسات للشورى لها فعالية لحراسة المجتمع من البغي والظلم والعدوان وإقرار العدل فيهم، والله تعالى أعلم بالصواب وما يُريد بقوله.
2 – عند رشيد رضا وعبد الرزاق السنهوري: يعتبر كل من رشيد رضا وعبد الرزاق السنهوري امتداداً للمدرسة الإصلاحية أو الاتجاه الإصلاحي أو تيار الوسطية، ويريان وجوب الشورى على الحاكم، ومما يدل على ذلك قول رشيد رضا: "أهم ما يجب على الإمام المشاورة"(91)، بل جعل رشيد رضا مبدأ الشورى هو الأصل الذي يبنى عليه مؤسسات الحكومة الإسلامية؛ إذ يقول: "إن الحكومة الإسلامية مبنية على أصل الشورى"(92).
أما الدكتور عبد الرزاق السنهوري فيرى وجوب الشورى وضرورة التزام الحاكم بما تنتهي إليه؛ ولذلك جعل السنهوري مبدأ الشورى وإلزام الحكام بها باعتباره تأكيداً لسلطان الأمة وسيادة الشعب – من أهم المبادئ التي تقوم عليها فقه الخلافة(93).
كما يرى السنهوري أن التزام الحاكم بالشورى من الأمور التي لا تقبل الجدال، ويشهد لذلك قوله: "مما لا جدال فيه إذن أن الحاكم ملتزم شرعاً بالشورى... وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين نجد أنهم كانوا يلتزمون بالنصائح الموجهة لهم من المسلمين دائماً"(94).
وأشار السنهوري إلى أن القرآن لم يستثن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه من واجب الاستشارة والالتزام بالشورى بنص صريح.
ويأتي التساؤل: هل يلزم الحاكم باتباع الرأي الذي يشار به عليه؟ وفي الإجابة على هذا التساؤل نجد السنهوري يتخذ موقفاً وسطاً، ويتمثل ذلك الموقف في قوله: "إن الأصل هو أن يكون الخليفة ملتزماً باتباع النصح الموجه من المسلمين إلا إذا كان لديه سبب خطير يدعوه لمخالفته، والخليفة هو الذي يقرر ما إذا كان هناك سبب يدعوه ليتخذ قراراً يتحمل وحده المسؤولية عنه مخالفاً النصح الموجه إليه، كما أن من الواضح أن يرى الأقلية لا يقيد الخليفة إلا في الحالات التي يرى الخليفة أنه من الحكمة اتابعه"(95).
ويبدو أن الذي دعا السنهوري إلى أن ينحو هذا المنحى استناده إلى موقف أبي بكر رضي الله عنه حينما أصر على قراره في محاربة المرتدين دليلاً لما ذهب إليه.
ويرى الباحث أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه لم ينفذ قراره رغماً عن جماهير الصحابة، بل قدم الحجة الشرعية لما ذهب إليه، فاقتنع عمر رضي الله عنه والصحابة معه برأيه، وبالتالي فتنفيذ القرار كان بموافقة الأغلبية إن لم يكن جميعهم، فعلى الحاكم إذا رأى أن رأيه يخالف جماعة أهل الشورى فعليه أن يذكر لهم السبب والأدلة التي تدعوه لمخالفتهم، فإذا اقتنعوا برأيه المبني على الحجة الشرعية والعقلية فيها، وإلا نزل على رأي أهل الحل والعقد، وإلا لصارت الشورى غير ملزمة.
والقول السابق بتفق مع ما فعله سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم ينفذ ما رآه صواباً مع مخالفة الصحابة له، وليس تحمل الخليفة وحده المسؤولية مبرراً له لتنفيذ رأيه الذي يخالف ما استقرت عليه الجماعة كما يرى الدكتور عبد الرزاق السنهوري؛ لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين يعتبر هضماً لحق الأمة، وإخلالاً بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله(96).
3 – عند "تلاميذ مدرسة الإصلاح": يكاد يجمع جمهور تلاميذ مدرسة الإصلاح على وجوب الشورى وإلزام الحاكم بنتيجتها، والنزول إلى رأي الأغلبية، ولا يعرف عن أحدهم من يخالف ذلك، ومن هؤلاء: - على سبيل المثال – كل من: عبد القادر عودة وحسن البنا وسيد قطب ومحمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي... إلخ.
يذهب عبد القادر عودة إلى أن الشورى فرض على الحاكم، وفرض على الجماعة، ويشهد لذلك قوله: "فرض على الحاكم أن يستشير في كل ما يمس الجماعة، وفرض على الجماعة أن تبدي رأيها في كل أمورها، فليس للحاكم أن يستبد برأيه في الشؤون العامة، وليس للجماعة أن تسكت فيما يمس مصالح الجماعة"(97).
ومن الجدير بالذكر أن حسن البنا يرى أن الشورى واجبة على الحاكم وهذا ما أكده الدكتور يوسف القرضاوي حيث ذهب إلى أن حسن البنا – من الناحية النظرية على الأقل – لم يكن يرى أن الشورى مزلمة على الإمام، وإن كانت واجبة عليه(98). ومما يشهد أن حسن البنا يرى أن الشورى واجبة قوله: "من حق الأمة الإسلامية أن تراقب الحاكم أدق مراقبة، وأن تشير عليه بما ترى فيه الخير، وعليه أن يشاورها، وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ بالصالح من آرائها، وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية159](99).
ويتضح من النص السابق أنه لا معنى لمراقبة الأمة للحاكم أدق مراقبة، ولا معنى لمطالبة الأمة بأن تشير على الحاكم، ومطالبة الحاكم بأن يستشير أهل الحل والعقد، وأن يحترم إرادة الأمة إن لم تكن الشورى واجبة عليه.
أما الأستاذ سيد قطب: فيرى أن الشورى من أهم صفات الجماعة المسلمة، ويشهد لذلك قوله: "إن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاماً سياسياً للدولة، فهو طابع أساسي للجماعة كلها، يقوم عليه أمرها كجماعة، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة بوصفها إفرازاً طبيعياً للجماعة"(100).
ورفض سيد قطب دعوى من يقول: إن وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون، وضرب مثلاً على ذلك بغزوة أحد، فبالرغم من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الوحي الإلهي، ووقوع تلك الأحداث لم يلغ النبي صلى الله عليه وسلم حق الأمة في إبداء رأيها والنزول على رأي الأغلبية(101).
وقد قرر القرآن الكريم حق الأمة في الشورى مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهل النتائج في غزوة أحد التي تنتظر المسلمين من جراء خروجهم من المدينة، ويستدل سيد قطب على ذلك بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم "كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها. وقد تأولها قتيلاً من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول المدينة درعاً حصينة، وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة الشورى، ولكنه أمضاها... لأن إقرار المبدأ وتعليم الجماعة وتربية الأمة أكبر من الخسائر الوقتية"(102).
ويتبين مما سبق أن الشورى أصل من أصول الحياة الإسلامية في الإسلام، وأنها أوسع مدى من دائرة الحكم؛ لأنها قاعدة حياة الأمة الإسلامية(103).
أما عن محمد الغزالي فكان حرباً على الاستبداد، وسخر من الذين يزعمون أن الشورى غير واجبة وغير ملزمة للحاكم، ولفت الأنظار إلى أن العالم الآن يحكم بالشورى؛ إذ إن هناك مجالس (لوردات)، ومجالس عموم، ومجالس (كونجرس)، ومجالس نواب، وهؤلاء لهم في الشورى أنظمة يضبطون بها أمورهم، ويحكمون بها سياستهم، ويوقفون نزوات الحاكم من أن تمضي على هواها، ووجدنا محمد الغزالي يسخر من الذين يرون أن الشورى معلمة وغير ملزمة، ويدل على ذلك قوله: "في هذا الوقت يخرج مرتزق في عالمنا يقول: إن الشورى غير ملزمة!! لحساب من تقال هذه الكلمة؟ لحساب من يقال: إن الشورى في الإسلام صورة"؟(104).
والباحث يخالف الشيخ محمد الغزالي فيما ذهب إليه من وصف القائلين بأن الشورى ليست ملزمة بالمرتزقة، فهناك من علماء السلف من ذهبوا إلى هذا الرأي.
ويؤكد محمد الغزالي في موضع آخر من كتبه أن الشورى ملزمة حيث يقول: إن قواعد الإسلام توجب على الحاكم أن يستشير، وتوجب على كل فرد في الأمة أن ينصح ويعلن ما يرى أنه الحق، وعلى الحاكم أن يقرع الحجة بالحجة، وأن يؤيد وجهة نظره بالعقل لا بالسوط"(105)، ومن تلاميذ مدرسة الإصلاح الذين يرون وجوب الشورى على الحاكم الدكتور يوسف القرضاوي، بل يرى أن الحاكم يقام على أساس البيعة والاختيار ثم على التشاور والتفاهم، موجباً المشاورة على الحاكم، والنصيحة على الأمة(106).
ويتبين مما سبق أن الشورى واجبة على الحاكم عند "تلاميذ مدرسة الإصلاح" ما دامت صادرة من أهلها، وحسب الأمة الإسلامية ما لاقت من الحكام المستبدين.
أما قول البعض: إن الشرق لا ينهض إلا بالمستبد العادل، فهذا قول مرفوض؛ إذ لا يجتمع النقيضان، فكيف يكون الحاكم مستبداً وعادلاً في الوقت ذاته، وبخاصة أن المستبد يرى نفسه عالماً بكل قضايا الحكم، ومعروف أن الإسلام يرفض الاستبداد بالرأي، ومهما يكن ذكاء الفرد وحكمته لا يمكن أن يحيط علماً بكل شؤون الحياة.
ويبدو أن عدم وجوب الشورى وفكرة المستبد العادل فلسفة لواقع بعيد كل البعد عن الشورى، فجاءت فكرة المستبد العادل لتبرير وتسويغ البعد عن الديمقراطية والأخذ بمبدأ الشورى.
وخلاصة ما سبق هو وجوب الشورى عند علماء الإسلام في العصر الحديث وإلزام الحاكم بما تنتهي إليه المشاورة وذلك في الأمور العامة التي تخص الأمة وتمس مصالحها. ولو ترك الحاكم المشاورة في مثل هذه الأمور كان على الأمة أن تطالب بها، وهم بذلك يتفقون مع علماء التراث السياسي سواء أكانوا من فلاسفة الإسلام، أم كانوا من المعتزلة، أم كانوا من أهل السنة والجماعة.
4 – عند مفكري الشام والمغرب: لم يقتصر وجوب الشورى على علماء مصر وحدها، وإنما امتد تأثير المدرسة الإصلاحية إلى علماء بلاد الشام والمغرب؛ ولذلك وجدنا تشابهاً كبيراً بين فكر المدرسة الإصلاحية في مصر، وبين آراء علماء السياسة في الشام والمغرب. فممن يرون وجوب الشورى على الحاكم – على سبيل المثال – كل من: عبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وظافر القاسمي ومحمد عبد الله دروزة وأبو بكر القادري... إلخ.
يعتبر عبد الرحمن الكواكبي من القائلين بوجوب الشورى على الحاكم؛ ويشهد لذلك الحملة التي حملها على الاستبداد وأهله وبخاصة استبداد الحكومات، وعن ذلك يقول: "إن أشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش الحائز على سلطة دينية"(107).
وأما عن شكيب أرسلان فإنه صرح أن الشورى فرض أوجبه الله عز وجل، وشهد لذلك قوله: "أما المشاورة فإلى اليوم لا يعمل أمير من أمراء العرب، ولا شيخ من مشايخ القبائل العربية عملاً إلا برأي شيوخ القبيلة، وهو أمر مشروع، بل فرض أوجبه الله في كتابه... ولذلك فجميع الحكومات الإسلامية هي شورية ديمقراطية فطرة وخلقة، والاستبداد فيها عارض"(108).
ويرى محمد عبد الله دروزة عدم جواز انفراد الأفراد بالأعمال والاجتهادات التي تتصل بشؤون الدولة وأمنها وسياستها، ويرى أن على الأفراد "أن يرفعوا ما يصل إليه علمهم من أحداث إلى أولي الأمر ليبتوا فيه بما هو الأصلح والأفضل بعد المشاورة مع أهل الحل والعقد والعلم والخبرة في استنباط الأمور... والمشورة من أهل الحل والعقد والعلم والخبرة مما هو بديهي"(109).
أما ظافر القاسمي فيقرر أنه لا يعرف قانوناً أساسياً في العالم على مختلف أنظمته قد أهمل الشورى، أو تنكر لها، فكل قد وصل إليها بعد جهاد طويل وشاق ممزوج بالدماء والدموع والآلام، وأشار القاسمي إلى أن الشورى في الإسلام لم تكن نتيجة حاجة ولدتها ظروف المجتمع الذي عاش فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما الشورى كما يقول القاسمي: "كانت نتيجة حكم إلهي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم"(110).
وأوضح أبو بكر القادري أن المسلمين ليس لديهم عداء للديمقراطية سواء أجاءت هذه الديمقراطية عن طريق الغرب، أو عن طريق الشرق، ويؤكد ذلك بقوله: إن الإسلام يرفض الرفض القاطع الأكيد الحكم الاستبدادي والتسيير الاستبدادي... وإذا ما كانت في بعض البلاد الإسلامية تصرفات تناهض مبدأ الشورى "الديمقراطية" فإننا مع الشورى ضد تلك التصرفات، ولا نعتبرها تصرفات إسلامية"(111).
وممن ذهب إلى وجوب الشورى على الحاكم الدكتور مصطفى الزرقا وأكد ما ذهب إليه بقوله: "إن الحكم في دولة الإسلام يجب أن يقوم على أساس الشورى... فلا يجوز أن يكون الحكم استبدادياً"(112).
ويبدو مما سبق اتفاق الغالبية العظمى من مفكري مصر وبلاد الشام والمغرب على أن الشورى واجبة على الحاكم حتى لا يستبد برأيه في الشؤون الخطيرة للأمة.
ثانياً: من يرون الشورى واجبة ولكنها مُعلمة للحاكم
ذهب بعض مفكري السياسة في العصر الحديث إلى أن الشورى ليست ملزمة للحاكم، وإنما هي معلمة له، فله أن يأخذ برأي الأغلبية من أهل الحل والعقد، وله أن ينفذ ما يراه صواباً، وذهب إلى هذا الرأي – على سبيل المثال – كل من: المودودي في كتاباته الأولى والدكتور محمد يوسف موسى والشيخ محمد متولي الشعراوي والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
فالمودودي في كتاباته الأولى قبل استقلال باكستان كان لا يعبأ برأي الجماهير ولا مبدأ الشورى؛ وربما يرجع السبب في ذلك أن الأكثرية كانت هندوسية، لكنه بعد استقلال باكستان نحا منحى مختلفاً(113).
ويشهد لذلك قول المودودي: "لا بد وأن يتم عمل الدولة كله ابتداءً بتأسيس وتشكيل أول لبنة فيها، ثم انتخاب رئيس الدولة وأولي الأمر، وانتهاءً بالأمور التشريعية، والمسائل التنفيذية على أساس تشاور المؤمنين فيما بينهم بصرف النظر عما إذا تمت الشورى مباشرة أم عن طريق نواب منتخبين انتخاباً صحيحاً"(114).
وبين المودودي في موضع آخر أن الخلفاء الأربعة لم يكونوا يبرمون أمراً يتعلق بضبط الحكومة، أو التشريع ونحوه دون مشورة أهل الرأي من المسلمين(115).
كما يستدل على إلزام الشورى بالنسبة للحاكم عند المودودي قوله: "يجب التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم".
ويبدو أن الدكتور محمد يوسف موسى ممن ذهبوا إلى أن الشورى معلمة للحاكم وليست ملزمة له، ويدل على ذلك قوله: "إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستشارة للمعاني التي عرفناها، وإن كان مؤيداً بوحي الله سبحانه وتسديده، ولكن كان له أيضاً بلا ريب أن يمضي فيما يعزم عليه من رأي، وإن خالف رأي الصحابة، وربما كان ذلك أيضاً للإمام الذي توافرت فيه الشروط اللازمة لتوليته شرعاً، فإنه هو المسؤول الأول عن الأمة وسياستها أمام الله والأمة والتاريخ"(116).
ويبدو أن مجرد توافر الشروط اللازمة في الإمام، وكونه هو المسؤول الأول عن الأمة وسياستها لا يجعلان الإمام في حل من الالتزام بما تنتهي إليه الشورى، فلا بد من الالتزام برأي الأغلبية من أهل الحل والعقد؛ لأنه إن توافرت فيه شروط الخلافة وقت البيعة فربما يأتيه عارض يغير من نفسه الأهلية لأخذ قرار ما من شؤون الحكم، وسبق الحديث عن غزوة أحد، وتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على رأي الأغلبية مع أنه كان يعلم أن رأيهم مجانب للصواب؛ إذ كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة التي رآها، وقد تأولها قتيلاً من أهل بيته وقتلى من صحابته.
ويجدر التنويه في هذا المقام أن الشيخ محمد متولي الشعراوي من القائلين بأن الشورى معلمة للحاكم وليست ملزمة له، فالحاكم عنده عندما يستشير أهل الحل والعقد إنما يستشيرهم ليضع أمامه الآراء المتعددة، والحاكم بحكم كونه إماماً يستطيع التوصل للحكم الصائب، ويشهد لرأي الشيخ محمد متولي الشعراوي قوله: "المشورة في أحد كانت نتيجتها كما علمتم، وكأن الله يقول لرسوله: إياك أن تأخذ من سابق المشورة أن المشورة لا تنفع، فتقاطعهم ولا تشاورهم؛ لأنك لن تظل حياً فيهم، وسيأتي وقت يحكمهم بشر مثلهم، وما دام يحكمهم بشر مثلهم فلا تحرمه أن يأخذ آراء غيره، وعندما يأخذ الآراء وتكون أمامه آراء متعددة فهو يستطيع أن يتوصل إلى الحكم الصحيح بحكم الولاية، وبحكم أنه الإمام يستطيع أن يفاضل ويقول: هذه كذا وهذا كذا، إلا أن يفوض غيره"(117).
ويفهم من النص السابق أن دور الإمام هو الترجيح بين آراء عديدة واختيار الرأي الصائب، ويبدو أن هذا الأمر قد يصلح إذا كانت المشورة في أمر يدخل تحت اختصاص علم الإمام، فإذا كان الإمام متخصصاً في العلوم العسكرية – مثلاً – فإنه يستطيع أن يختار الرأي الصائب إذا كانت المشورة في نطاق العلم العسكري، لكن الإمام قد لا يستطيع الترجيح بين الأمور في جميع المجالات وكل التخصصات، وبخاصة مع تفريع العلوم وكثرتها في العصر الحديث، ومن هنا فالحاكم بحكم كونه إماماً وبحكم الولاية لا يستطيع أن يرجح في كل ما يعرض عليه من أمور.
ومن المفكرين المعاصرين الذين صرحوا بأن الشورى في الإسلام غير ملزمة الدكتور/ محمد سعيد رمضان البوطي، ويشهد لذلك قوله: "إن الشورى في الشريعة الإسلامية مشروعة، ولكنها ليست ملزمة، وإنما الحكمة منها استخراج وجوه الرأي عند المسلمين، والبحث عن مصلحة قد يختص بعلمها بعضهم دون بعض، أو استطابة نفوسهم، فإذا وجد الحاكم في آرائهم ما سكنت نفسه إليه على ضوء دلائل الشريعة الإسلامية وأحكامها أخذ به، وإلا كان له أن يأخذ بما شاء بشرط ألا يخالف نصاً في كتاب الله ولا سنته ولا إجماعاً للمسلمين"(118).
واستدل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حيث أشار عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله: "إنك يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه" ولقد وافقه النبي صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر، ومضى مع أصحابه متجهاً إلى مكة حتى إذا بركت الناقة، وعلم أنها ممنوعة ترك الرأي الذي كان قد أشير به عليه، وحينئذ تحول العمل عن ذلك الرأي الذي أبداه أبو بكر رضي الله عنه إلى أمر الصلح والموافقة على شرط المشركين، دون أن يستشير في ذلك أحداً(119).
ويبدو أن هذا قياساً جانبه الصواب؛ وذلك أن صلح الحديبية لم يكن ليتم لولا وحي الله سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وما كان كذلك لا يعد قاعدة يقاس عليها؛ إذ لا مشورة مع وجود الوحي، والله تعالى قد نسب صلح الحديبية إلى نفسه وسماه في محكم كتابه: فتحاً مبيناً(120).
ومع وجود آيات القرآن لا يكون صلح الحديبية محلاً للتشاور.
ويعد الدكتور أحمد الموصلي من الذين يرون أن الشورى استشارية وغير ملزمة للحاكم، ويرى أن هناك فرقاً بين الحكم الدستوري في الغرب وبين الشورى، ويشهد لذلك قوله: "لا تجوز المقاربة كما فعل البنا وغيره بين المفهومين، فالحكم الدستوري ملزم بينما الشورى هي استشارية غير ملزمة"(121).
ولا شك أن هذا فهم خاطئ للشورى في الإسلام حيث اعتمد على بعض أقوال العلماء وترك رأي الأغلبية منهم في القديم والحديث، فمن العدل أن تذكر الآراء ثم يختار الرأي الراجح منها، فهذا خير من أن يتبنى أحد الباحثين رأياً مرجوحاً.
الشورى مُعْلِمةٌ عند قدامى الشيعة: ترفض الشيعة بصفة عامة القول بأن نظام الحكم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم على أساس الشورى؛ إذ تبنى الشيعة القول بأن الحكم كان بالنص والتعيين من الله والرسول صلى الله عليه وسلم ومنه للأئمة من بعده حتى الإمام الثاني عشر، ومن هنا فإن كان بالإمكان أن يتصور نظاماً للشوري عند الشيعة، فليس ذلك إلا في عصر الغيبة الكبرى، ووجهة نظر الشيعة أن الإمام "هو القائم على الشريعة، والحافظ لها، المعصوم عن الخطأ سهواً أو عمداً، وهو الذي يوحى إليه، والموصى له بالولاية، ولا يستمد سلطته من الناس، وبذلك يكون غير محتاج لمشورتهم"(122).
ويتبين من النص السابق أن الشيعة ترى في الآيات التي ورد فيها الأمر بالشورى أن الحاكم يشاور أفراد الأمة للاستنارة بآرائهم وأفكارهم، فالشورى عندهم لا تلزم الحاكم بشيء.
الشورى ملزمة عند الشيعة المعاصرين: إن الدارس لموقف الشيعة المعاصرين تجاه الشورى يجد أنهم اتخذوا موقفاً متعاطفاً تجاه الشورى، ولعل ما دفعهم إلى ذلك ظروف العصر الحديث وسيادة روح الديمقراطية التي فرضت عليهم تعديل موقفهم من الشورى؛ ولذلك يرى بعض الباحثين "أن الشيعة مع طرحهم لنظرية ولاية الفقيه أساساً لنظام الحكم يجوزون إلى جانبها الأخذ بمبدأ الشورى، بمعنى الاستفادة من خبرات الآخرين والاستنارة بها؛ لكون ذلك ضرورياً لمصلحة الأمة"(123).
الشورى واجبة وملزمة للحاكم عند أهل السنة والجماعة: ويستدل على هذه النتيجة بالقرآن والسنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أولاً: القرآن الكريم: يوجد في القرآن الكريم آيات تدل على إلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى، فالله عز وجل فرض على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، وأن ينزل على رأيهم، وقد حدث هذا في غزوة أحدن ومن هذه الآيات قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
والراجح عند جمهور العلماء هو القول بإلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى في أي مجال من المجالات التي تمس مصلحة الأمة، وليس أدل على ذلك من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في كثرة مشاورته لأصحابه؛ ولذلك فطن الفقهاء والمفسرون لهذا المعنى، فنقل القرطبي عن ابن عطية قوله: "والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ فمن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ما لا خلاف فيه"(124).
ويلاحظ من النص السابق أن ابن عطية جعل عزل الحاكم أمراً واجباً إن لم يستشر أهل العلم والدين، فلو كانت الشورى معلمة لما كانت هناك مشكلة، فبإمكان الحاكم أن يستشير أهل العلم والدين ثم يفعل ما يحلو له، دون أن يعرض نفسه للعزل.
ونقل الزمخشري عن الحسن رضي الله عنه قوله: "قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة، ولكنه أراد أن يستن به من بعده"(125)، والذي يستن من الحكام برسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك أنه يلتزم بما تنتهي إليه نتيجة الشورى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، وفي أسرى بدر، وفي كثير من المواقف التي مرت به مع أصحابه.
ويتصل بأمر الشورى قول الزمخشري لتفسير قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [صّ: من الآية26]. فيقول الزمخشري: "فإن قلت لأي غرض أخبرهم بذلك؟ قلت: ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة"(126).
ويؤكد إلزام الحاكم بما تنتهي إليه المشاورة ما ذكره ابن كثير في تفسيره نقلاً عن ابن مردويه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزم في قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: من الآية159]، فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم"(127).
ثانياً: السنة: فالسنة النبوية ذاخرة بالأمثلة العملية لاستشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)(128).
ومن ذلك استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الخروج يوم بدر وفي المنزل الذي ينزله عنده وفي الخروج أو البقاء في المدينة يوم أحد، ... وغير ذلك كثير.
ويوجد العديد من الأحاديث التي توجب أخذ الحاكم للشورى، فقد ثبت في الحديث النبوي التنويه (بالسواد الأعظم) والأمر باتباعه، والسواد الأعظم يعنى به عامة الناس وجمهورهم والعدد الأكثر منهم، ويشهد لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، أو قال اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستزيد عليهم فرقة، كلها في النار إلا السواد الأعظم"(129).
ولا شك أن هذا الحديث يؤيد اعتداد العلماء برأي الأغلبية في الأمور الخلافية، ويعتبرون ذلك من أسباب الترجيح بين الأمرين، والسنة النبوية ذاخرة بالأمثلة العملية التي استشار فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"(130).
ثالثاً: عمل الصحابة رضي الله عنهم: يعتبر عمل الصحابة رضي الله عنهم من الأدلة التي تدل على إلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعوا سنته، حتى وصف أحد كبار التابعين – ميمون بن مهران – الحكم في هدي الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله سبحانه، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضي به قضى بها، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر رضي الله عنه قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر رضي الله عنه قضاء قضى به، وإلا جمع الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به"(131).
ومما يؤكد ما ذهب إليه الباحث من إلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى أن أهل الشورى في التراث الإسلامي يسمون أهل الحل والعقد، فإذا لم يكن رأيهم ملزماً للحاكم، فماذا يحلون وماذا يعقدون إذن؟
ومن مفكري العصر الحديث الذين ذهبوا إلى إلزام الحاكم بنتيجة الشورى عباس محمود العقاد، ومما يدل على ذلك قوله: "وأهم من الشورى في مبايعة الخليفة فرض الشورى في ولاية أمر الرعية، وليست وسيلة الشورى بعد ذلك إلا مسألة تطبيق وتنفيذ"(132).
ويجدر التنويه إلى أن هناك من الناخبين – عبد الله بن عمر الدميجي – من يتهم أكثر الكتاب المحدثين بالتساهل وتتبع الرخص، وغض الطرف عن كثير من المسائل الإلزامية الواجبة بالنصوص الصريحة، وفي الوقت نفسه يتشددون في إلزام الحاكم بنتيجة الشورى، ويرون ذلك واجباً(133).
وقد أرجع الباحث عبد الله عمر الدميجي أسباب هذا التشدد إلى أحد أمور ثلاثة:
1- بسب ما ابتلي به مفكرو العصر الحديث من حكام جهلة وظلمة لا علم سديد عندهم يدلهم على الخير والصواب، ولا خوف عندهم يجعلهم يحرصون على إصابة الحق، ويجعلهم يرفعون الظلم والاستبداد والتعسف عمن تحت أيديهم؛ ولذلك يحاول المفكرون الحد من ذلك بإيجاب الشورى على الحاكم.
2- من دوافع بعض الكتاب إلى التشدد في إلزام الحاكم بنتيجة الشورى هو التأثر والانبهار بديمقراطيات الغرب الوثنية، فهم يحاولون إثبات ديمقراطية الإسلام، ومن ثم فلا فرق بيننا وبين الغرب، وشتان بين الشورى في الإسلام والديمقراطية عند الغراب.
3- من أسباب التشدد في إيجاب الشورى هو الرد على اتهام المستشرقين للإسلام بأنه دين الاستبداد والتعسف(134).
فهذه هي الأسباب التي دفعت بعضاً من مفكري السياسة في العصر الحديث إلى التشدد وبالتالي القول بإيجاب الشورى على الحكام من وجهة نظر الدميجي.
ويبدو عند التحقيق أن هذه الأسباب ليست هي الدافع الوحيد – وإن كان لها دخل في القول بإلزام الحاكم بنتيجة الشورى؛ لأن القول بإلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى يستند إلى الأدلة الصريحة الشرعية، وأقوى دليل على إلزام الحاكم بما تنتهي إليه الشورى عند من قال بالإلزام هو قول الحق سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية159]، فهذا أمر ظاهر يفيد الإلزام، وليس هناك ما يصرفه عن الإلزام إلى الندب.
ومما يدل على الإلزام بالشورى والأخذ بما تنتهي إليه مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على جلالة قدره وعظيم منزلته، وبخاصة أنه لم يترك الأخذ بالشورى حتى بعد غزوة أحد التي أخذ فيها برأي أصحابه رضي الله عنهم كان الصواب فيما عزم عليه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً.
وهناك من يزعم أن مفهوم الشورى إنما نشأ لمساندة الحكم المطلق، ويؤكد هذا الزعم ما ذهب إليه الدكتور أحمد الموصلي؛ إذ يقول: "إن الحكم الدستوري هو مبدأ نشأ في الغرب في مواجهة الاستبداد المطلق للملوك، بينما نشأ مفهوم الشورى لدعم الحكم المطلق للخلفاء"(135).
ولا شك أن مثل هذا الزعم لا منطق له ولا دليل عليه، فما كان حكم الخلفاء يوماً ما مطلقاً من نصوص الشريعة الداعية إلى إلزام الشورى والأخذ بما تنتهي إليه عملية الشورى، وما كانت الشورى لتدعم الحكم المطلق وإلا فما الفائدة منها.
قول مردود عليه:
وقبل ختام هذا المبحث يكون من الواجب الرد على الأستاذ محمد فريد وجدي حيث ذهب إلى القول: "إن الصحابة رضي الله عنهم تنازلوا عن حق هو أكبر حقوقهم، انتخبوا رجلاً منهم ليحكمهم ثم تركوه يحكم بينهم بما يرى حكماً مطلقاً غير متقيد مع أنهم هم الذين أعطوه تلك السلطة"(136).
فما كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ليحكم حكماً مطلقاً، إنما كان ملتزماً بالقرآن والسنة، أما موقفه من حرب الردة فالذي جعله يصمم على رأيه إيمانه القوى أنه على الحق، وربما كان يعلم أن الصحابة عندما يرونه مصمماً على رأيه أنهم سينزلون على رأيه، وهذا ما حدث بالفعل، أما لو أصرت الصحابة على رأيهم فكيف لسيدنا أبي بكر أن ينفذ جيش أسامة؟
المبحث الثالث: صفات أهل الشورى
لم نجد عند فلاسفة الإسلام تفصيلاً عن هذا الجانب وبخاصة الفارابي وابن سينا، أما بقية الفلاسفة فلم يتناولوها بشيء من التفصيل على النحو الذي وجدناه عند مفكري العصر الحديث، ولذلك سينصب الحديث على صفات أهل الشورى عند مفكري السياسة في العصر الحديث.
يقرر الإمام محمد عبده أنه لكي تحصل المنفعة المقصودة من الشورى بالفعل فلا بد من انتخاب النواب على وجه يضمن حصول المنفعة ويكفل تحققها؛ ولذلك يشترط الإمام محمد عبده "ألا يخلو المنتخبون من أن يكون غالبهم من أهل الدراية والمعرفة وأرباب النظر والفكر الذين يعرفون ما هي الشورى، وما هو المقصود منها، وما هي المنفعة للبلاد، وما هو الطريق الموصل إليها"(137).
ويلاحظ على النص السابق تعرض الإمام محمد عبده لشروط أهل الشورى على وجه الإجمال، وركز على جانب الدراية والمعرفة والتحلي بالفكر ودقة النظر.
أما الشيخ محمد رشيد رضا، والدكتور عبد الرزاق السنهوري، وعبد القادر عوده، وغيرهم،... فقد اعتمدوا علا الماوردي في تحديده لصفات أهل الشورى، وذكروا أن من صفات أهل الشورى: العدالة، والعلم، وأن يكونوا من أهل الرأي والحكمة.
أولاً: العدالة بشروطها الجامعة
والعدالة تعني عند الفقهاء التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، وعما يخل بالمروءة أيضاً.
وحدد الماوردي العدالة في موضع آخر بقوله: "أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم متوقياً المآثم، بعيداً عن الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه"(138).
وخلص الدكتور محمد ضياء الدين الريس من النص السابق أن العدالة في الفقه الإسلامي ليست الامتناع عن المحرمات فحسب بل هي فوق ذلك، فهي تعني البعد عن الشهوات، وعلى حد قوله: "يقصد بالعدالة الاستقامة والأمانة والورع، أو كما يصح أن نقول اليوم: التقوى والأخلاق الفاضلة"(139).
ثانياً: العلم
ويعنون به علم الدين والعلم بمصالح الأمة وسياستها، وإذا أطلق كان المراد به الاجتهاد، وينبغي أن تتوفر صفة الاجتهاد في الشرع في مجموع أهل الشورى، لا في كل فرد منهم، ولا شك أن استحقاق الإمامة في هذا العصر يتوقف على علوم لم يكن يتوقف عليها في العصور القديمة.
واشترط الشيخ محمد رشيد رضا في أهل الحل والعقد (جماعة الشورى) العلم بالقوانين الدولية والمعاهدات العامة،وأحوال الأمم والدول المجاورة لبلاد الإسلام(140).
ويبدو أن المقصود بالعلم: العلم بمعناه الواسع، حيث يشمل علم الدين وعلم السياسة والعلوم العسكرية، وعلوم الهندسة والطب... إلخ، فكل علم يفيد المجتمع لا بد أن يكون من أصحاب هذا العلم ممثلون من جماعة أهل الحل والعقد حتى يؤخذ رأيهم في مجال تخصصهم، بل ذهب عبد القادر عودة إلى أبعد من ذلك فقال: "ولا بأس أن يكون ذا ثقافة تؤهله لأن يدرك ما يعرض عليه إدراكاً يمكنه من الحكم عليه وإبداء الرأي فيه"(141).
ثالثاً: الرأي والحكمة
المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوى وأعرف، ولا يشترط فيه أن يكون من ذوي العصبية؛ لأن أساس الشورى هو الرأي الصحيح المتفق مع الشرع المجرد من الهوى والعصبية.
ويراد بالحكمة أيضاً أن يكون عند الناخب الكفاءة التي تمكنه من اختيار الأصلح للقيام بأعباء الحكم، وتكتسب هذه الكفاءة من خلال الخبرة بالحياة العامة وشؤون الحكم، ويستلزم بالتالي معرفة صفات كل مرشح، وأن يكون الناخب متصلاً بالشعب ليكون على علم بالظروف الاجتماعية والسياسية حتى يختار الأصلح والمناسب لاحتياجات العصر(142).
هذه هي شروط أهل الاختيار (الشورى)، وهي شروط تندرج تحت الأخلاق الفاضلة والعلم بالأحكام التي تناط بأهل الشورى، ولا بد من توافر الثقافة والخبرة السياسية التي تعين أهل الشورى على أداء واجبهم على أكمل وجه.
ويلاحظ من الشرطين الأخيرين (العلم – الحكمة) أن الجاهل أو غير المثقف ثقافة سياسية تتصل بشؤون الحكم والحياة العامة لا يعتد برأيه، وبالتالي لا يمكن أن يكون من أهل الشورى؛ لأنه غير قادر على الاختيار، خاصة في الأمور التي تتصل بمصالح الأمة ككل، كما يلاحظ أنه ليس هناك شروط تتصل بالحالة المادية للفرد كأن يكون غنياً مثلاً كما تشترط بعض النظم.
الخلط بين أهل الشورى وأهل التشريع
ويلاحظ أن هناك من خلط بين أهل الشورى وأهل التشريع فيرى أن الاثنين بمعنى واحد، فالذين وقعوا في هذا الخلط فاعتبروا الشورى والتشريع أمراً واحداً، قد ضيقوا من أهل الشورى فرأوا أنهم أهل الحل والعقد(143).
ومع ذلك فقد اتجه الشيخ محمد رشيد رضا ناحية أخرى، فذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام الشورى في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم في مسجد واحد في زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة، وكان يستشير السواد الأعظم منهم، وهم الذين يكونون معه، ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضر إفشاؤها(144)، فكان صلى الله عليه وسلم يستشير جمهور المسلمين فيما لهم به علاقة عامة، ويعمل برأي الأكثرية، وإن خالف رأيه كاستشارتهم في غزوة أحُد في أحَد الأمرين: الحصار في المدينة أو الخروج إلى "أحد" للقاء المشركين فيه، وكان رأيه ورأي كبار الأمة الأول، ورأي الجمهور الثاني؛ فنفذ رأي الأكثر، ولكنه استشار في مسألة أسرى "بدر" خواص أولي الأمر وعمل برأي أبي بكر(145).
فكأن الشيخ محمد رشيد رضا يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفرق بين أهل الشورى حسب موضوع الشورى، فإن كان أمراً عاماً يهم المسلمين كلهم، استشار فيه جمهور المسلمين، وأما إذا كان أمراً من الأمور التي تضر إفشاؤها، استشار فيه أهل الرأي والمكانة، أو خواص أولي الأمر كما قرر في موضع آخر، واستشهد على ذلك بموضوع أسرى بدر.
ويؤخذ عليه أن هذه التفرقة التي أتى بها لا يوجد عليها أي دليل.
فليس هناك ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم – بالنسبة لأسرى بدر – قد استشار خواص أولي الأمر فقط، دون جمهور المسلمين، بل إن صاحب الرأي نفسه قد نفى ذلك في موضع آخر حيث قال: "قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر الفداء برأي أكثر المؤمنين بعد استشارتهم"(146).
ويضيف في موضع آخر: "والذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الروايات أبو بكر؛ لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أول من استشارهم، كما أنه أكبرهم مقاماً ويوضحه ما رواه ابن المنذر عن قتادة قال في تفسير الآية: أراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداء فقادوهم بأربعة آلاف، ومثله ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم بإسناد صحيح"(147).
وحتى إن صح أنه عليه الصلاة والسلام قد استشار في أسرى بدر خواص أولي الأمر دون جميع المسلمين، فإنه يمكننا القول بأن ذلك إنما تم قبل أن تنزل آية الأمر له بالمشاورة؛ إذ من المعروف أن الآية المذكورة إنما نزلت في غزوة "أحد".
أما المودودي فقد تناول صفات أهل الشورى على وجه الإجمال فذكر منها: ثقة الأمة في علم أهل الشورى، وتقواهم، وأمانتهم، وسداد رأيهم، ويشهد لذلك قوله: "ما كانت تؤخذ المشورة إلا ممن تشق الأمة في علمهم وتقواهم وأمانتهم وسداد رأيهم"(148).
ويلاحظ اتفاق المودودي مع كل من رشيد رضا، والسنهوري، وعبد القادر عودة، على أن صفات أهل الشورى ينبغي أن تتركز في الأخلاق الفاضلة والعلم الذي يؤهلهم لاختيار الأمر الصائب والذي يكون فيه مصلحة الأمة.
أما ظافر القاسمي فاعتبر أهل الشورى أعلى هيئة سياسية واستشهد على ذلك بأن سيدنا عمر رضي الله عنه قد أناط بهم وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ولم يعارض واحد من أهل الشورى هذا القرار الذي اتخذه سيدنا عمر رضي الله عنه ولم يثر أي اعتراض عليه، إنما رضي الناس كافة هذا التدبير ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين"(149).
ويجدر بالذكر أن من المعاصرين الذين أسهبوا في تفصيل الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها أهل الشورى الأستاذ سعيد حوى وذكر منها على سبيل المثال:
أ – العقل الكامل بطول التجربة مع الفطنة والذكاء.
ب – الدين والتقوى.
ج – المحبة العاملة على خلوص النصيحة.
د – سلامة الفكر من المكدرات، والبراءة من الهوى والغرض.
هـ - الجمع بين العلم بالمستشار فيه والعمل به... إلخ(150).
وخلاصة القول: أنه لا يجوز لمن لم يكن عالماً في الأمور المعروضة للشورى أن يبدي رأيه، ويشهد لذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43]، فإن القواعد العامة في الشريعة تجعل الأمر دائراً في تحصيل المنفعة عن طريق الشورى، ومشورة الجهال لا تفيد مصلحة وبالتالي لا يجوز أن يكون الفرد عضواً في مجلس الشورى إلا إذا كان أهلاً لإبداء النصح والرأي(151).
وأخيراً ينبه الباحث إلى أمر له أهميته، وهو جواز أن يكون من بين أهل الشورى من هم على غير ديننا من إخواننا من أهل الكتاب ما داموا مستوفين للشروط الأخرى وذلك لأسباب، أهمها:
أ – أن منهم أهل خبرة وتخصص في كثير من نشاطات الحياة المختلفة كغيرهم من إخوانهم المسلمين.
ب – أنهم يمثلون نسبة من المواطنين لهم ما لنا وعليهم ما علي.
الخاتمة
وتتضمن نتائج البحث مع التوصيات التي يرى الباحث أهمية العمل بها.
نتائج البحث والتوصيات
تبين من خلال البحث أن الشورى فريضة إسلامية، أمر بها القرآن الكريم، والتزمها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم من بعده، ويوصي البحث أن يلتزم كل حاكم مسلم بما تنتهي إليه مشاورة أهل العلم والخبرة، كما يوصي البحث لأن يلتزم بالشورى كل مسؤول، حتى على مستوى الأسرة، كما يجب اعتبار الشورى نظرية عامة شاملة تقوم عليها حرية الأفراد، وحقوق الشعوب وتضامن المجتمع.
ثبت وجوب الشورى عند علماء الإسلام في العصر الحديث وإلزام الحاكم بما تنتهي إليه المشاورة وذلك في الأمور العامة التي تخص الأمة وتمس مصالحها، ولو ترك الحاكم المشاورة في مثل هذه الأمور كان على الأمة أن تطالب بها، وهم بذلك يتفقون مع علماء التراث السياسي سواء أكانوا من فلاسفة الإسلام، أم كانوا من المعتزلة، أم كانوا من أهل السنة والجماعة.
ولذلك يوصي الباحث بضرورة الأخذ بمبدأ الشورى في كل المجالات وبخاصة في حرية الفكر والرأي والكتابة والنشر والإعلام، وهذا يستلزم القضاء على احتكار الدولة ومؤسساتها للصحافة والإعلام بوسائله المتعددة.
يوصي الباحث بضرورة أن تخصص الدولة مؤسسات للشورى، وتكون وظائفها محددة تحديداً قاطعاً، ويكون رأي الأكثرية ملزماً للجميع؛ لأن هذه مسائل تنظيمية متروكة للاجتهاد، فتخصيص مؤسسات للشورى وإن كانت مهمة في كل العصور إلا أنها ألزم في العصر الحديث.
تبين أن الإسلام إنما جاء بمبادئ عامة في الشورى، وترك المجال رحباً أمام اختلاف الزمان والمكان، بحيث تتخذ كل أمة ما يناسبها من أساليب ونظم لممارسة الشورى بما يحقق المقاصد الشرعية، والمبادئ الإسلامية.
ثبت أن مفهوم أهل الشورى يتسع في بعض الأحيان ليشمل كل المكلفين، ويضيق في أحيان أخرى ليشمل ذوي الرأي والكفاءة.
رسمت الشريعة الإسلامية حدوداً للشورى ليس لها أن تتجاوزها، وهي حدود ثابتة خالدة طالما بقي الإسلام وبقيت شريعته، بخلاف الديمقراطية فإنها لا تعرف الحدود الثابتة.
ثبت ضعف تناول فلاسفة الإسلام – باستثناء أبي حامد الغزالي – لقضايا الشورى مقارنة بالمعتزلة أو أهل السنة والجماعة، وكذلك مفكري العصر الحديث.
يجوز أن يكون من بين أهل الشورى من هم على غير ديننا من إخواننا من أهل الكتاب ما داموا مستوفين للشروط الأخرى وذلك لأسباب، أهمها:
أ – أن منهم أهل خبرة وتخصص في كثير من نشاطات الحياة المختلفة كغيرهم من إخوانهم المسلمين.
ب – أنهم يمثلون نسبة من المواطنين لهم ما لنا وعليهم ما علينا.

_________________
(78) المغني في أبواب العدل والتوحيد: القاضي عبد الجبار المعتزلي: 20/5، ق2، تحقيق: د. عبد الحليم محمود و د. سليمان دنيا، مطبعة الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م.
(79) السابق: ص261، ق1.
(80) الكشاف للزمخشري مج 1/154.
(81) ابن أبي الربيع: سلوك المالك في تدبير الممالك، ص 185، تحقيق وتعليق وترجمة: د.حامد عبد الله ربيع، مطابع دار الشعب بالقاهرة، 1403هـ/1983م.
(82) السابق: ص 193.
(83) الشفاء: ص 451.
(84) الاقتصاد في الاعتقاد: ص 201، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا، مكتبة الجندي بالقاهرة (د.ت).
(85) فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي، ص 175، ط1، دار البشير للنشر والتوزيع للطباعة بالقاهرة، 1413هـ/1993م.
(86) العروة الوثقى والثورة التحريرية الكبرى: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ص 104، ط3، تحقيق: صلاح الدين البستاني، دار العرب للبستاني بالقاهرة، 1993م.
(87) الأعمال الكاملة لمحمد عبده: مقال: في الشورى والاستبداد 1/385.
(88) تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده: رشيد رضا 2/197-198.
(89) المرجع السابق 2/198.
(90) تفسير المنار: رشيد رضا 4/45.
(91) مجلة المنار 23/10/750. وانظر: الخلافة: رشيد رضا ص 38.
(92) تفسير المنار 4/45.
(93) مقدمة فقه الخلافة: د. توفيق الشاوي ص 17.
(94) فقه الخلافة وتطورها...: د. السنهوري ص 183.
(95) المرجع السابق ص 183-184.
(96) تفسير المنار 4/98.
(97) الإسلام وأوضاعنا السياسية: عبد القادر عودة، ص 92.
(98) السياسية الشرعية...: د. يوسف القرضاوي ص 114.
(99) رسائل البنا: رسالة نظام الحكم.. ص 213.
(100) في ظلال القرآن: سيد قطب، مج/25/3160.
(101) المرجع السابق مج1/4/502.
(102) المرجع السابق ص 501.
(103) العدالة الاجتماعية في الإسلام: سيد قطب ص 83.
(104) محاضرات محمد الغزالي في إصلاح الفرد والمجتمع: جمع وإعداد: قطب عبد الحميد قطب، ص 52، دار البشير بالقاهرة، 1989م.
(105) مائة سؤال عن الإسلام: محمد الغزالي، ص 274، ط5، دار ثابت بالقاهرة، 1417هـ/1996م.
(106) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي: د. يوسف القرضاوي، ص79، ط1، دار الصحوة للنشر والتوزيع بالقاهرة، 1408هـ/1988م.
(107) طبائع الاستبداد: عبد الرحمن الكواكبي، ص 24.
(108) تعليقات شكيب أرسلان على حاضر العالم الإسلامي: 2/73.
(109) الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة: محمد عبد الله دروزة 1/92، ط2، مطبعة عسير البابلي الحبلي وشركاه، 1386هـ/1966م.
(110) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي: ظافر القاسمي ص 64-66، ط5، دار النفائس، لبنان 1405هـ/1985م.
(111) المجتمع الإسلامي في مواجهة التحديات الحضارية الحديثة: أبو بكر القادري ص97، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء 1418هـ/1998م.
(112) المدخل الفقهي العام: د. مصطفى الزرقا 1/44.
(113) الشرعية الإسلامية والشرعية الدستورية: د. إبراهيم دعيج الصباح ص 304، ط1، دار الشروق بالقاهرة، 1421هـ/2000م.
(114) الملك والخلافة: المودودي، ص22 وانظر: تدوين الدستور الإسلامي: المودودي، ص41، الدار السعودية 1405هـ.
(115) الحكومة الإسلامية: المودودي، ص 396، ط1، الدار السعودية بالرياض، 1404هـ/1984م.
(116) نظام الحكم في الإسلام: د. محمد يوسف موسى، ص 144، دار الفكر العربي بالقاهرة (د.ت).
(117) تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي: مج 3/1840، أخبار اليوم بالقاهرة 1991م.
(118) فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة: د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص 237، ط1، دار السلام بالقاهرة، 1414هـ/1994م.
(119) المرجع السابق ص237.
(120) انظر الآيات الثلاث الأولى من سورة الفتح.
(121) قراءة نظرية تأسيسية في الخطاب الإسلامي: د. أحمد الموصلي، ص 106، ط1، الناشر للطباعة والنشر والتوزيع، 1413هـ/1993م.
(122) النظرية السياسية المعاصرة للشيعة الإمامية الإثنى عشر: محمد عبد الكريم عتوم: ص135، ط1، دار البشير، عمان، 1409هـ/1988م.
(123) المرجع السابق ص 137.
(124) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي مج 2/4/161.
(125) الكشاف عن حقائق التنزيل: الزمخشري مج 1/3/459.
(126) المرجع السابق مج 1/153-154.
(127) تفسير القرآن: ابن كثير مج 1/63، تحقيق: حسين بن إبراهيم زهران، ط2، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1408ه/1988م.
(128) رواه الترمذي: 4/185-186، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة، والحديث رقم 1714.
(129) رواه الطبراني مرفوعاً عن أبي أمامة في المعجم الكبير ج8، والحديث رقم 8035.
(130) رواه الترمذي: 4/185، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة، والحديث رقم 1714.
(131) إعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن قيم الجوزية 1/64-65، ط3، تحقيق وتعليق: عصام الدين الصبابطي، دار الحديث بالقاهرة، 1417هـ.
(132) الديمقراطية في الإسلام: عباس محمود العقاد، ص 78، ط6، دار المعارف بالقاهرة، 1981م.
(133) الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة: عبد الله عمر سليمان الدميجي، ص 452، ط1، دار طيبة بالرياض، 1407هـ/1987م.
(134) المرجع السابق، ص 453-454.
(135) قراءة نظرية تأسيسية في الخطاب الإسلامي: د. أحمد الموصلي، ص 106.
(136) دائرة معارف القرن العشرين: محمد فريد وجدي: 2/323، دار المعارف، بيروت (د.ت).
(137) الأعمال الكاملة لمحمد عبده: 1/392-393.
وانظر: الوقائع المصرية مقال: في الشورى عدد 1280 في 13/12/1881م، 21 محرم 1299هـ.
(138) الأحكام السلطانية للماوردي ص66، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة، ط3، 1973م.
(139) النظريات السياسية الإسلامية: د. ضياء الدين الريس، ص 223، مكتبة دار التراث بالقاهرة، ط7، 1976م.
(140) الخلافة: رشيد رضا، ص 24.
(141) الإسلام وأوضاعنا السياسية: ص 210.
(142) فقه الخلافة وتطورها... د. عبد الرزاق السنهوري، ص 96، الخلافة: رشيد رضا: 23-24.
(143) السنهوري: فقه الخلافة.. ص 182-183، والمودودي: تدوين الدستور الإسلامي، ص 41-42، وعبد القادر عودة: الإسلام وأوضاعنا السياسية، م س، ص 154-156.
(144) تفسير المنار: ج4 ص199-292.
(145) محمد رشيد رضا: الوحي المحمدي، م س، ص 298-299.
(146) تفسير المنار: ج10، ص85-88.
(147) المرجع السابق: ج10، ص 88.
(148) الخلافة والملك: المودودي، ص 108.
(149) نظام الحكم في الشريعة...: ظافر القاسمي، ص 227.
(150) فصول في الإمرة والأمير: سعيد حوى، ص 124-125.
(151) خصائص التشريع الإسلامي: د. فتحي الدريني، ص 427.