المعصم الحر
15 ربيع الأول 1434
د. خالد رُوشه

تسيطر على المربين مشاعر الرغبة في طاعة الولد , والرغبة في امتثاله لكل أمر يؤمر به وتنفيذه لكل طلب يطلب منه , فورا وبلا تفكير أو إمعان ذهن ..

وعادة ما يكون اقرب الابناء هو أكثرهم طاعة واكثرهم سرعة في تنفيذ مرادات الوالدين , ويسعى الوالدان لذلك بكل وسيلة , ومنهم من يخطىء الطريق فيقهر الابن قهرا على الطاعة .

وليست القضية التي اريدها خاصة بطاعة الوالدين – فطاعتهما أمر واجب يجب أن يدرب الولد عليه , لكن القضية ههنا في إرغامه في بعض الأحيان إرغاما على فعل ما قد يكره باستخدام العنف تارة والإضرار تارة والضغط تارة أخرى

لتصير بعض بيوتنا مع الاسف في بعض الأحيان سجنا لبعض أبنائنا , وليكون الآباء سجانين في بعض الأحيان , برغم نيتهم الحسنة ..وكذلك الحال في المجتمعات سواء أكان مجتمعا محليا أو مجتمعا كبيرا , فلا قدرة على الإصلاح في ذلك المجتمع ولا إمكانية للإنجاز فيه بلا حرية وقدرة واختيار .

ولا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قدرات وإمكانات أن يقوم بدوره في بناء حياته ومجتمعه دون أن يكون طيب النفس مستطيعا أن يعبر عن ذاته , ممتلكا لحقوقه , يستشعر الأمن الذاتي والمجتمعي , غير خائف ولا قلق ولا مهدد , وإلا ظهر منه التراجع والضعف , والتخاذل عن المواقف الإيجابية , وبدا منه النكوص عند تقاطعات الطموح والتقدم .

الحرية إذن هي ذلك المعنى الذي أتحدث عنه لكي يكون أحدنا إيجابيا صالحا , ولكي يستطيع أن يمد ساعدا ليدفع عجلة البناء لأمته , إنها القلب الخافق للمجتمعات الحية المنجزة , وهي البيئة المثلى لنمو الإمكانات الناشئة , وإنبات الإبداعات الخفية , وإعداد القادة والعلماء والمفكرين .

الإنجازات لا يمكن أن تبرز بينما المرء لا يشعر بذاته ولا يتمتع باستنشاق هواء نقي حر , فالإنجازات ناتج جهد وعطاء وابتكار ومثابرة وكلها معان تعتمد على الثقة في النفس ووضوح الهدف والشعور بالقدرة على الوصول إليه وتحقيقه .

وإنجازات الأفراد لبلادهم وأممهم لايمكن أن تحدث مادام الأفق أمامهم مسدودا فلا يستشعرون بقدرتهم على تأمين إنجازاتهم ولا نشرها كما يريدون ولا أن ينفعوا بها شعوبهم ومجتمعاتهم , فالقيد أمام النفس البشرية يحبطها ويخمد طاقتها , وكم من اختراعات وابتكارات وغبداعات سكنت في الأدراج وخيم عليها العنكبوت بخيوطه نتيجة عدم رضا مسئول ما عنها أو تحفظه على شخصية المبتكر أو رجاء انتفاع شخصي من ذلك المسئول , ما كان من نتيجته أمران الأول هجرة العقول البابغة إلى بلاد يسمونها بلاد الحرية والثاني قتل طموحهم ورغبتهم في الإبداع .

إسلامنا له موقف واضح من الحرية , حرص عليها كل الحرص , وأبداها في تعليماته الكريمة وعلى لسان نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم .
أحاديث كثيرة وتوجيهات نبوية متتابعة تؤكد على المعنى الذي نقصده , فعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه أو عرفه " اخرجه ابن حبان

فالخوف لا ينبغي أن يمنع المرء عن قول الحق , بل يجب على المرء أن يربي نفسه وأبناءه على قول الحق بلا مخافة للمخلوقين , إذ المخافة تبدأ في صناعة قيد على معصم الحرية للإنسان .

وفي حديث مسند أحمد ناحية إضافية لما نريد أن نقوله , فعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقالا ، فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس ، فيقول : إياي أحق أن تخاف "

إنها حرية الكلمة التي ربى عليها الرسول صلى الله عليه أصحابه , فأدركوا ذلك فخرج أبو بكر وهو خليفة المسلمين يسأل الناس أن يُقوموه إذا اعوج , وخرج عمر يفسح المجال لشاب ليسأله على شيء من خصوصياته وهي ثوبه – الذي لم يكن يمتلك غيره – فيسأله من أين لك هذا !!

لقد علمهم حرية السؤال والاستفسار والنصح والتناصح , فيبايع الناس على " النصح لكل مسلم " , وتسأله امرأة عن خصوصيات ذاتية قائلة "الله لايستحيي من الحق " , وشاب يأتيه بشجاعة نادرة يناقشه في " أن يحل له الزنا ".. وغيرها كثير , ليتعامل الإمام الأعظم والرسول الأكرم مع كل حالة بكل حكمة وسعة صدر , فيعلم المرأة ويطهر قلب الشاب الذي جاءه بمرض الشهوة ويعيد بناء النفوس جميعا ...

لقد تعدى الأمر ذلك , فقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم مواقف ممن انتقدوه , وبعضهم هاجمه وآذاه , وبعضهم طلب منه المال بأسلوب فظ غليظ لايليق نبي عظيم , لكنه صلى الله عليه وسلم علمنا في كل موقف درسا جديدا .

ما يشحذ حرية المرء في الإسلام هي عقيدته , تلك التي تشعره بإيمانه الأعمق بربه القادر الذي هو يدافع عن الذين آمنوا وأنه :" لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " وأن .. ماأصابك لم يكن ليخطئك ...

الحرية الإسلامية أيضا هي نوع متميز عالميا من الحريات , فهي حرية تكفل الكرامة والعزة وأخذ الحقوق , لكنها أيضا حرية تحافظ على أمن البلاد والعباد وترعى الأخلاق والقيم , ولا تضر النفس ولا الغير ولا المجتمع ولا مؤسساته إذ " لا ضرر ولا ضرار "