قواعد في جمع الكلمة / 3 ثورات شعوب لا جماعات
15 ربيع الأول 1434
د. حسن الحميد

التغيير المضمون - وفق قانون الأسباب - هو التغيير الذي يولد من رَحِم الشعب..والتغيير الناجح هو التغيير الذي يُعَمّر فترة أطول....وكل تجارب التغيير التي فشلت أو أنها لم تُعَمّر ، كانت بسبب ضعف الإجماع الشعبي ، ولم يُغْنِ عنها أن أصحابها على حق في مقاصدهم ، وأنهم خرجوا يقاومون الجَوْر على العباد. وفي التاريخ من ذلك أمثال ؛ كثورة الحسين ، وزيد بن علي ،  وعبدالله بن الزبير  رضي الله عنهم، وثورة محمد النفس الزكيّة ، ومئات الثورات..لم تنجح ، وفي العصر الحديث رأينا محاولات جهادية صادقة لم تُحَقِّق أهدافها ؛ لأن شروط التمكين لم تكتمل ، وأهمها غياب الحدّ الأدنى من الاستعداد الشعبي للتغيير.

 

ومَنْ أنكر من السلف – رحمهم الله – الخروج على الحكام استحضَر هذه النماذج ؛ لأنه حصل ويحصل بها من الفِتَن والخراب أضعاف ما يتحقق بها من الإصلاح..وقد لايحصل بها صَلاَحٌ البتة.  ولهذا كانت المجاهدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  في الشأن العام هي أول التغيير وأُسّه وُمؤشِّره ، وهي الشريعة المُحكَمة..وإذا ماتَتْ هذه الشعيرة في أمةٍ أو شعب فقد تُوُدِّع منها.."فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتَ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ: أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ". وإذا بلغت هذه المرحلة من التخاذل فقد تأهلت للعقوبة ، ولا يغني عنها أنها تدعو بالفرج ورفع المهانة ، فعَنْ "حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ". وكما أن الفرد يُحرم قبول الدعاء بسبب مَطعم أو مشرب أو ملبس حرام ، وهو يَمُدّ يديه "يارب..يارب". فكذلك الأمة تُحرَم قَبول الدعاء والتضرع برفع الجور بسبب ترك الأمر والنهي في الشئون العامة..لافرقَ ، إلا أن كثيرا منا لايدرك هذا المعنى على مستوى الأمة ، وبالتالي فأكثرنا لايُسَلِّم بهذه الحقيقة الشرعية العقلية ، فنبحث عن إصلاح أحوالنا بسلوك طريق لم يجعلها الله طريقا للإصلاح ، ولا شهد التاريخ وتجارب الشعوب أنها طريق للإصلاح كذلك!.

 

ومن هنا ندرك سِرّ نجاح ثورات الربيع العربي ، وهو أن الشعوب شاركت بفئاتها ؛ أي أن قَدْرا من الإجماع الشعبي قد تحقق ؛ وبدأت الشعوب تأمر بالمعروف العام وتنهى عن المنكر العام. وكشفت الثوراتُ عن معادنها ، فأبرزت قياداتٍ وشجعانا لم يكن يحتفل بهم المجتمع زمن الخمول ، ونَحّت آخرين كانوا في الواجهة.. فَمَن أراد إنجاح مشروعه وفوز برنامجه فليعانق سواد الناس بتواضع ، وليبادر بالتحالف مع شجعانهم وعقلائهم ، وليس مُتَدينيهم فقط.. والتاريخ طافح بالشواهد على أن معارك الإسلام كان يخوضها المسلمون دون تمييز ، بل يُجَاهِد البَرُّ والفاجر..ويُجَاهَدُ مع البرّ والفاجر ، كما يُصلّى خلفهم. والجهادُ من أعظم أعمال البِرّ ، و"أعمالُ البِرِّ  يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَصبرُ عن الآثام إلا صِدّيق"  كما قال سهل بن عبدالله. ويُقاس على الاشتراك في الجهاد الاشتراكُ في إقامة الدولة ورعاية المصالح العامة من باب الأولى ، فيُستعانُ بالأصلح على مَنْ دونه ، ويُستعان بالعصاة والفُجّار وأهل البدع على مَن هم شَرٌّ  منهم. بل نَقَل شيخ الإسلام ابن تيمية أن "أهل الحَدِيث وَالسّنة كالشافعي وَأحمد وَإِسْحَاق وَغَيرهم متفقون على أَن صَلَاة الْجُمُعَة تُصَلى خَلف الْبر والفاجر حَتَّى إِن أكثر أهل الْبدع كالجهمية الَّذين يَقُولُونَ بِخلق الْقُرْآن وَأَن الله لَا يُرى فِي الْآخِرَة ، وَمَعَ أَن أَحْمد ابتُلىَ بهم وَهُوَ أشهر الْأَئِمَّة بِالْإِمَامَةِ فِي السّنة ، وَمَعَ هَذَا فَلم تخْتَلف نصوصه أَنه تُصلى الْجُمُعَة خلف الجهمي والقدَري والرافضي وَلَيْسَ لأحد أَن يَدَع الْجُمُعَة لبِدْعَةٍ فِي الإمام". وإذا ثبت الاجتماع في الصلاة وفي الجهاد ، فإن  الاجتماع فيما دونها من شئون الحياة تبعٌ لذلك.

 

إنه لايَهزمُ الأحزابَ السياسية الفاسدة إلا ما يهزم الأنظمة الاستبدادية الغاشمة..فهل انهزم المستبد إلا باجتماع الكلمة ، وهل انهزم إلا بالحاضنة الشعبية المتعاطفة..فمن رامَ الانتصار في مشروعه المدني فليلزم غرز الأسباب التي بها انتصر في مقاومة الاستبداد ، فكلاهما جهاد. ومن فرّق بينهما فقد فَرّق بين متماثلات ، وهذا أَفَنٌ في العقل ، لايستأهل أصحابُه الظّفَر.

 

مَن قَاوَم وحَارب مع الناس فليُسالم ويؤسِّس لبلاده مع الناس ، ومن تَوهّم أن النصر تحقق  بجماعته أو حزبه ، أو أنه سيقاوم مع الناس ثم يبني الدولة بجماعته أو حزبه دونهم ، فهو انتهازيّ جاهل بطبائع الشعوب ومتطلبات إقامة الدول ، ولايَلبثُ أن يَستبدّ بالأمر ولو بعد حين.

 

فهل تَعتبرُ جماعاتٌ سياسية ظَفِرت بالحكم ثم لم تُحسِن جمْعَ الناس على مشروع الدولة..وهل تَعتبرُ جماعات اعتمدت الجهاد المسلح - غيرَ مبالية بحاضنة ولا توافقٍ وإجماعٍ شعبي - أن سبب فشل مشروعهما هو تجاهل العُمق الشعبي ابتداء أو استمرارا ، وأن قوة السلاح أو قوة التمكين السياسي وحدها ليست كافية ؟.
اللهم اهدنا لأرشد أمرنا ، واجعلنا سببا لاجتماع الكلمة..