النجاحات المدوية
5 ربيع الثاني 1434
إدريس أبو الحسن

        كثيرون هم أولئك الذين نجحوا  في أعمالهم وحياتهم ومهامهم ، لكن قلة منهم من يكون نجاحه مجلجلا في الآفاق ! وهؤلاء القلة هم نخبة النخبة من المجتهدين في مسارهم ممن فهموا سنن الله (شرعية كانت أو كونية) في السير الصحيح ، وزاوجوا بين إدراكهم العلمي وقوة طموحهم العملي فكان نتاج جهدهم نجاحات مدوية تستحق التأريخ للاعتبار .

 

مجالات النجاحات المدوية أوسع بكثير مما يتوهمه المتكلمون عن "قضية النجاح" فمعظمهم ينظّر لها في زاوية "الكسب" تحديدا فإن توسع ففي العلم والدراسة ! بينما النجاحات المدوية كالبحر لا ساحل له تشمل كل هدف مباح في الحياة : في الكسب والإدراة والعلم والتعلم والدعوة والجهاد ،والخير ونفع العباد ،والعبادة والسلوك ، وغير ذلك ، تختزلها عبارة :المصالح الدينية والدنيوية .

 

النجاح المدوي لا يناله إلا من علت في الخير همته ، ورفعت للمعالي هامته ، وشحنت بطلب الأفضل طاقته ، وتشربت باليقين قناعته ، فسار كالبرق الخاطف نحو الهدف القصيد ،لا يلتفت ولا يحيد ، لا تنازعه النوازع والشهوات عن مقاصده ، ولا الشبهات والأقوال عن موارده ، فهو ثابت على أهدافه ووسائله ، صامد لا يبالي بألم الطريق إلى المعالي، وحاله كما قال القائل:
وما كنت ممن نال ذا الملك بالمنى
 
 ولكن بأيام أشبن النواصيا

لبست لها كُدر العَجَاج كأنما
 
 ترى غير صاف أن ترى الجوَّ صافيًا

 

 

النجاح المدوي كالجبل العالي العاتي يدل علوه على عمق الجذور ورسوخها لتكون قاعدة ثباته وبقائه ،
فـ (سرعة الاندفاع إلى أعلى تزيد من نسبة الاستقرار في القاع!) *

 

النجاح المدوي يتبناه ذو النظرة الثاقبة المتفحصة للأحداث المستشرفة للمستقبل القادم بقوة بصيرة شرعية وإدراك لنواميس الله الكونية .
النجاح المدوي أنماط ومراحل يصنع بتكامل أجزائه لوحة متكاملة تحكي قصة جهد دؤوب وصبر وتحمل وتخطيط وتوأدة ،وتصميم وعزم وثبات.
النجاح المدوي همة يتشقق لفرط قوتها الحجر ويلين لشدة بأسها الحديد وتبرد لشدة اتقادها النار وتطوى لسرعة أثرها المسافات .

 

النجاح المدوي مشروع تجارة ومشروع دعوة وجهاد ومشروع المسابقة إلى الخيرات ومشروع تربية أجيال ومشروع تجديد للعلم والدين، ومشروع بناء لمجد في كل اتجاه!
النجاح المدوي قد لا يسمع دويه صاحبه إذا كان في قمة النجاحات ،ولكن لا يحرم حتما رؤية أمارات قوته وعظمته قبل موته ويشهد له فيه بذلك !

 

النجاح المدوي له أعلام لا ينساها التاريخ بإنجازاتها الجبارة الهادفة المميزة ،وهم في كل فن وعلم وتخصص، ومثاله في العلم أئمة الفقهاء والقراء والمحدثين وغيرهم ومنهم الإمام ابن حجر ألف كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري في خمس وعشرين سنة فكان واحدا من دواوين الإسلام المعتبرة لا يستغني عنه عالم مهما بلغت سعة علمه ، موارده تزيد عن ألف ومائتي كتاب فيه من دررالمعارف والحكم والنقول والمواعظ والفوائد ما لا يحصى كثرة وما لا يوجد في غيره .فحقق به نجاحا مدويا ! ومثله كتاب الصحيح للإمام البخاري فقد ألفه في ستة عشر سنة متنقلا في جمع الحديث وترتيبه وتبويبه.فكان المصدر الأول للحديث الصحيح في الشريعة.

 

 وعلى درب هؤلاء رجال في الطريق! فـ ( أكثر من قراءة سير الأئمة والقادة والمصلحين، فستكتشف (بعد حين) أنك تحمل أهدافهم، وتسير على طريقهم دون عناء.)*

 

النجاح المدوي لا تحرق فيه المراحل ولا تتجاوز فيه السنن ولا يخصع لاستفزازت من قصر نظره ، ولا يتأثر بالنجاحات العاجلة الآيلة إلى الزوال بل يشق صاحبه طريقه بيقين  (لايلتفت) وعزم لايهون وثبات لا يتزحزح حتى تكتمل صورة الإنجاز فيه ليبلغ صداه كل ركن ومجال ويظل حيا بين الأجيال. فـ (من أسرار الاطراد والثبات والديمومة أن يكون العمل بقناعة ذاتية راسخة، وليس لمجرد تأثير الآخرين." * و (أقوى وسيلة للوصول للغاية وتحقيق الهدف (المشروع) بعد عون الله هي قوة الإرادة مع التصميم على عدم التراجع مهما كانت العقبات (ولايلتفت منكم أحد).) *

 

النجاح المدوي فكرة تتفتق عن تأمل في لحظة ! قال البخاري  كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح"

النجاح المدوي في أطواره ومراحل كغمام الخير يزجى ويجتمع ويؤلف بينه ويتراكم ثم بعد ذلك يعلن عن نضجه برعد يسمعه الأصم وبرق يخطف الأبصار يحيي به الله البلاد والعباد وينتفع به الخلق غاية الانتفاع .

 

النجاح المدوي قد يكون حتى شعرا يخلد ما بقي في الأحياء ذوق ،فقد كان شعراء الجاهلية يكتبون القصيدة في الزمن الطويل لتتكامل معانيها حكما ،ومبانيها لغة شعرية تستعذب سماعها الآذان ،ومن ذلك المعلقات .ولهذا بقيت ناجحة تقرؤها الأجيال وتتعلم منها الدروس والعبر في كتب النحو والأدب والعروض وغيرها ، بعكس قصائد كتبت في نشوة ليلة ومحيت في الصباح!

 

وللنجاح المدوي نجاحات كالبصمة في الطريق يتركها فيراها من له معرفة بسنن النجاحات المدوية فيقول ساعتها لصاحب تلك البصمات (سيكون لهذا شأن ) وهي عبارة أطلقها حكماء رأوا بعيون بصيرتهم نجاحات مدوية في أشخاص قبل اكتمالها ! وقرأناها في سير عظماء !

 

النجاحات المدوية لا تبالي بالفشل والانكسار ولا تلقي الملامة على الواقف في طريقها لتنثني عن السير بسببه فطريق النجاح المدوي محفوف بالحساد والمشوشين و (يزداد حسادك بقدر ماتقدمه لأمتك من عطاء، مما أنعم الله به عليك، فلا تحزن ولاتلتفت، فهذه سنة جارية (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) * !! إن ما يميز أصحاب النجاحات المدوية عن غيرهم هو قوة النهوض إذا سقطوا ، وابتكار الطرق إذا سدت أمامهم الأبواب والقدرة على إعادة بناء الذات  بسرعة باهرة بعد الانكسار فهم يؤمنون بتفادي أسباب الفشل والانكسار بالطرق الشرعية والكونية واتخاذ الأسباب لكن لا يجعلون من وقوعهم فيهما نهاية القضية بل يجددون العزم فإذا بهم يصنعون من الفشل طاقة تنقلهم لمراحل في النجاح إلى أبعد مدى.
ذريني أنـل ما لا يُنـال من العُـلا *** فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل

 

النجاح المدوي ينمو بطيئا وينمو مع نموه النمو حتى إذا أوشك على الاكتمال نما بقوة خارقة متسارعة في كل مجال مثل الصاروخ حين ينازع الجاذبية ليصعد للفضاء حتى إذا قطع مسافات بعيدة عنها ازدادت سرعته أضعافا ليصل لهدفه .

 

النجاحات المدوية قد تكون في بدايتها قليلة لكنها متواصلة لاتنقطع ،وتجعل في الوقت ذاته من تلك العطاءات القليلة المنتظمة تكتمل في صورة عطاء شامل يتحد فيه أولها بآخرها فإذا هو ذاك النجاح المدوي يعلن عن ميلاده. وفي هذا يكمن سره فـ (التحدي في توالي النجاح، أما الفشل فكل أحد يحسنه!) * وهذا الإمام الألباني رحمه الله مجدد علم الحديث في هذا الزمان  بدأ مسيرته بتخريج أحاديث في مقالات ثم كتيبات ثم كتب فمجلدات هن من أمهات الكتب الحديثية الآن في التخريج والعلل يقول :( فمنذُ نيِّف و خمـسينَ سنة و أنا أطُـوف في آفاق السَّنة..ولي الآن مـؤلفات ناهزت المـائة : تخريجاً و تصنيفًا و تهذيباً و اختصارا و تبويبًا ، و تصويباً بتصحيح أو بتضعيفٍ ، و استخراجاً و استنباطًا لأحـكامٍ و مَـسائلَ.  و من أعـلاها شأناً ، و أحبها لي السِّلـسِلَتَان الذَّهبيتان : الصَّـحيحَة و الضَّـعيفَ...) .

 

النجاح المدوي يراه بعين بصيرته عالي الهمة في الأفق غائرا كما يرى القمر الغائر في الأفق ، فتتولد في نفسه حرقة طي المسافات لبلوغه مهما كلف الثمن يقول ابن الجوزي رحمه الله: (ينبغي لمن له أنفه أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة مثلاً تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بولاية، أو تصور أن يكون مثلاً خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكًا، لم يرض أن يكون بشرًا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل) - صيد الخاطر لابن الجوزي (200، 201)
              فكن رجلاً رجله في الثرى ***  وهامة همته في الثريا

 

النجاح المدوي معرفة طريقه قوة لكنها لا تكفي لبلوغه ما لم تقترن بقوة العزم والعمل والاستمرار على ذلك
                     فقل لِمُرَجِّي معالي الأمور ***  بغير اجتهاد: رجوتَ المحالا

 

 

النجاح المدوي كالألماس تزداد قيمته كلما زاد بريقه ، وهو في ذات الله أرفع أجرا وأعلى قدرا وأبقى وأنقى وهذا لا يحصل إلا لقلة ممن فقهوا سر الحياة وشمولها أولاها وآخرتها فـ (كلما ارتفعنا بأهدافنا صغرت الدنيا بأعيننا،كراكب الطائرة إذا ارتفعت رأى الجبال هضابا.أما إذا تدنت اهتماماتنا فكمن نزل(بئرا)سيرى الأرض (جبا).)*
على قدر أهل العزم تأتي العزائــم
                                           وتأتي على قدر الكرام المكـارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
                                           وتصغر في عين العظيم العظائم

 

النجاح المدوي أهله أهل عزم وتوكل يمتثلون لقوله تعالى (فإذا عزمت فتوكل على الله ) وأهل صبر على ما يحصل (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) ! يستثمرون الفشل كما يستثمرون النجاح لذلك تعجب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) رواه مسلم. ينتقون رجال الطريق انتقاء ناجحا، وفي الحديث الصحيح : (عند الله خزائن الخير والشر، ومفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعل الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحًا للشر، ومغلاقًا للخير) "حديث 4108 صحيح الجامع "،  شعارهم (فاستبقوا الخيرات) ، وطريقتهم التدرج في المحطات  كما في الحديث المرفوع الصحيح : (إنما العلم بالتعلم) يتفاءلون لا يتطيرون ويأملون بحسن الظن لا ييأسون (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) "  ، وعن معاوية بن الحكم – رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله ، منا رجال يتطيرون . فقال : (ذلك شيء يجدونه في صدورهم ، فلا يصدّنهم ) . رواه مسلم . وقال النووي : (معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ولا عتب عليكم في ذلك ، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم .)
وعلى درب هؤلاء رجال في الطريق....!

 

======================
(*) كلمات من تغريدات الشيخ الدكتورناصر العمر حفظه الله في صفحته على موقع تويتر @naseralomar