14 جمادى الأول 1434

السؤال

السلام عليكم.. جزاكم الله خيرا، أبي عنده ضعف في حسن إنفاق المال، وطيبة زائدة في إقراض الناس، ويُستغل في هذا ممن لا يخاف الله ولا يؤدي الحقوق، فيأخذ بعضهم المرة تلو المرة ولا يسد ويماطل، والوالد يبقى بلا شيء ويضيق الحال عليه وعلى الوالدة وإخوتي؛ علما بأنه ليس من أهل الاقتدار وحاله على قدره كما يقال، وعنده عدد من القضايا كثير في المحاكم وغيرها، إما على الناس لخداعهم ومماطلتهم له، أو عليه لكثرة ديونه التي تصل إلى ما فوق ثلاثة ملايين، ما بين أشخاص أو شركات اتصالات ومعارض سيارات.
والوالدة تعبت من هذا الوضع والطيبة لمن لا يستحق، وخاصة ممن حوله ممن يعملون عنده، حتى إن أحدهم ممن يسحب ويسحب من الوالد، أخذ منه 25 ألفا وما زال يستعطفه ويطلب، أراد أن يسكن في الشقة التي فوق الوالد، ورفضت الوالدة رفضاً باتاً، وقالت له إنه سيزيد من الطلب وسيتعبك ويتعبنا.. وإما أنا وإما هو، فماذا ترون؟ وهل يصلح أن تذهب لبيت أهلها من باب الضغط عليه؟
والوالد يعمل أعمال حرة، وهو في خسائر متتالية منذ عشر سنوات؛ بسبب التسرع في بعض المشاريع والطيبة والثقة الزائدة، وهو متدين بحمد الله ولكنه "عصبي" ويصر على رأيه غالباً، ونادراً ما يقبل ويراجع نفسه؟ جزاكم الله خيراً.

أجاب عنها:
خالد عبداللطيف

الجواب

مرحبا بك أخي الفاضل في موقع المسلم، وزادك الله حرصًا على مرضاة الله عز وجل في جمع شمل أسرتك وبرّ والديك، ووفقك لما يحب ويرضى.
والدك الكريم كما تصفه يعاني التسرع في اتخاذ القرارات وإنفاق المال، والثقة الزائدة عن الحد في بعض من حوله، الأمر الذي أفضى إلى ديون وخسائر ومشكلات مع والدتك الكريمة تتعلق بحقوق بيته وعياله.
ولا شك أن حفظ المال والقيام بمسؤولية الأهل والعيال من ركائز البيت المسلم التي شدّد عليها الشرع المطهر، قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ [الإسراء: 26، 27].
كما جاء الأمر بالاعتدال في الإنفاق حفاظا على المال من الضياع؛ فقال - عز وجل -: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]، بل مدح سبحانه من يتوسطون في النَّفقة، فلا يبخلون ولا يسرفون، فقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67].
وفي السنة المطهرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت" (رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني)، والعديد من الأحاديث في هذا الباب.
ومن هنا فإن اللوم ليس على الجود والسخاء من القادر على ذلك، بعد حقوق أهله وعياله ومن تجب عليه نفقتهم، ولكن التفريط يكون بإضاعة الواجب؛ فالفرض مقدم على التطوع، وهذا أصل لا يُنازع فيه.
فلا ريب أن الرجل مسؤول عن أهل بيته، فإذا أهمل وضيّع حقوقهم - وهو يقدر - وقع في الإثم. ولكن الذي يبدو هنا أن والدك الكريم لا يفعل ذلك عن دراية وعمد، بل يتورط ويندفع؛ فهو متدين ولله الحمد، كما تؤكد ذلك في سطورك، ومن ثم يُفترض أنه يعلم ما عليه من حق وواجب ومسؤولية.
وأما قولك عنه أنه "عصبي" ويصر على رأيه غالباً، ونادراً ما يقبل ويراجع نفسه؛ فلعل مرجع ذلك إلى استشعاره أنه ربّ البيت وراعيه، ومن ثم فإن مواجهته ممن تحت يده من زوجة وأبناء بأخطائه أمر يصعب على النفس قبوله!
أخي المبارك:
أرى أن تستفيد من تديّن والدك في إسداء النصح إليه بطريقة حكيمة، من خلال أشخاص آخرين من خارج البيت، وخصوصاً ممن لهم مكانة في نفسه من الأقارب الحكماء وأهل العلم والدعاة. كما يمكنك أن تضع لديه من طرف خفي بعض المواد النافعة المؤثرة، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، مما يتعلق بمسؤولية الرجل عن أهل بيته والتوازن والاعتدال في التعامل مع المال.
ومن المهم كذلك أن تتواصل مع والدتك بشأن الوسائل والأساليب المناسبة التي تتحقق بها المصلحة في نصح الوالد؛ حيث إن أجواء الاحتقان والانتقاد لا تُحمد عقباها. وأما ذهاب الوالدة في هذا التوقيت لبيت أهلها للضغط عليه فأخشى أن يكون أشد ضرراً، خصوصاً والحال أن الوالد "عصبي" ويصر على رأيه معكم، فكيف إذا وضعتموه في مثل هذه المواجهة؟!
لكن لا بأس باختيار أحد الكبار الموصوفين بالتعقل والحكمة في عائلة الأم؛ للتشاور معه في الحل والسبيل المناسب لإعادة الوالد إلى جادة التوازن والاعتدال.
أخي الكريم:
بين أيديكم المفتاح لحل المشكلة بإذن الله تعالى (تديّن الوالد)؛ فهو إلى قبول النصح أقرب، لا سيما في أمر صريح مؤكد في الشرع المطهر، لكنها الغفلة والاندفاع، وعدم وضوح الرؤية تحت بعض المؤثرات العاطفية مع إنسان طيب القلب!
وأسنان المفتاح التي سيفتح بها بإذن الله: تذكير حكيم بالحجة والبرهان من أشخاص مؤثرين، بحدود الشرع في التعامل مع المال والقيام بحقوق الأهل والعيال، وأن فضائل الجود والإنفاق والسخاء إنما تكون بعد ضمان هذا الحق، وأن إهدار ذلك يوقع في الإثم.
وفق الله والدك إلى الهدى والسداد، وجمع شملكم وقلوبكم على ما يحبه ويرضاه.