السياسة الايرانية بين الاستراتيجية والتكتيك وفرصة العرب
16 ربيع الثاني 1434
د. احمد محمود عجاج

كثير الحديث في الآونة الاخيرة عن ايران ودخولها ساحة الصراع في سوريا وتداعيات هذا الصراع على موقعها في منطقة الشرق الاوسط، وعلى تأثيرها في المنطقة والعالم. ثمة نظريات عدة حول السياسة الايرانية منها من يعتبرها متميزة،  ومنها ما يراه محللون تهورا، ومنها ما يتجاوز التهور والتميز ليوصف بالواقعية. والسبب في تزايد الحديث عن ايران لا يعود الى ايران بذاتها بقدر ما يعود الى سياساتها في المنطقة، والدور الذي تحاول ان تلعبه، والاهداف الكبرى التي تريد تحقيقها، وليس هناك مثال اوضح وادل على السياسة الايرانية من المثال السوري. لقد استثمرت ايران كثيرا في نظام البعث السوري، وبالتحديد في نظام بشار الاسد، وقبله  ايام والده الرئيس حافظ الاسد الذي انفتح على ايران من باب التوافق العقدي، ومن باب التوافق السياسي القائم على تبادل المنافع. وقد استطاعت ايران من خلال العلاقة المميزة مع النظام البعثي السوري ان تتمدد في لبنان عبر بوابة حزب الله، وان تصل الى فلسطين من خلال بوابة حركة الجهاد الاسلامي، وحركة حماس الاسلامية، والى بلدان كثيرة في العالم العربي والاسلامي. وقد جاء هذا التمدد الايراني مدفوعا بحماس ديني لنشر مذهبه ولم يقابله مشروع دعوي مضاد( من دول الخليج وبعض الدول العربية) وخاصة بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر، مما زاد من الزخم الايراني وثبت اقدامه في المنطقة العربية والعالم الاسلامي وحتى غير الاسلامي وبالذات في افريقيا واميركا اللاتينية.

 

إن المتتبع للسياسة الايرانية يمكنه ان يلحظ بسهولة الخطوط العامة للأهداف الكبرى التي تسعى الاستراتيجية الايرانية لتحقيقها، ويمكنه ان يلحظ الاليات التي تستخدمها لتحقيق هذه الاهداف. فإيران ليست دولة عادية بل هي دولة عقائدية تطمح الى  ما هو ابعد من حدودها؛ فإيران تعتقد ان العقيدة المهدية ستسود العالم وان الامام الغائب سينشر العدل وان من واجب الحكومة الايرانية ان تمهد الطريق لهذه المهمة الكبرى. وهذا ما نادى به الامام الخميني وما ينادي به قادة سياسيون وروحيون ايرانيون. علاوة على العقيدة فإن ايران مهووسة بالتاريخ والمجد الفارسي، وترى نفسها امة لها تاريخ وماض وانها مع عقيدتها الجديدة يمكنها ان تعيد هذا المجد وان يكون لها مكانة ارفع واعظم بين الامم الاخرى.

 

تؤمن ايران بالواقعية السياسية وترى ان الدول متكالبة عليها وانها كلما عززت قوتها كلما استطاعت ان تحمي نفسها وتحقق اهدافها؛ وبالتالي فإن ايران عملا بنظرية هوبز (شريعة الغاب) ترى ان أي تعزيز لقوات وقدرات الدول الاخرى يشكل خطرا عليها، وانها في مهمتها التاريخية يجب ان تطور قوتها في كل الميادين، لأنها إن لم تسارع الى المهاجمة فإن الاخرين سيهاجمونها؛ وقد ساهمت الحرب مع العراق في الثمانينات في تعزيز هذا الشعور الهوبزي.

 

عمدت ايران الى تكتيكات لتحقيق الاستراتيجية وكانت هذه التكتيكات على مستوى معين من النجاح مما مكنها بالفعل من الدخول الى منطقة الشرق الاوسط ومناطق اخرى في العالم. ففي الشرق الاوسط كان محتما على ايران حسب رؤيتها، وعقيدتها، ان تتحرك بفاعلية لمد نفوذها لأن ذلك سيسمح لها بتحقيق ما تريد، ولان الظروف في منطقة الشرق الاوسط مؤاتيه لها اكثر من غيرها؛ فهي على مقربة جدا من دول تعتبرها ايران معادية بحكم العقيدة، وبحكم المسار التاريخي التنافسي. وقد استخدمت ايران اربعة تكتيكات في استراتيجيتها:

 

اولا: عمدت الى مد الفكر الشيعي في المنطقة مغلفة اياه بثوب الدفاع عن المستضعفين، والقتال في سبيل تحرير القدس، ومنازلة الشيطان الاكبر المتمثل في الولايات المتحدة. وعبر هذا الشعار استطاعت ايران ان تتجذر في سوريا وتصل الى السودان، واليمن، وفلسطين وغيرها من الدول  في اسيا وافريقيا وحتى امريكا اللاتينية.

 

ثانيا: تثوير المواطنين الشيعة في المناطق العربية واشعارهم بأن ايران الى جانبهم وانهم مظلومون وان الحق يجب ان يعاد الى اهله؛ ففي لبنان انشات حزب الله، وفي البحرين قوَت المرجعيات الدينية ومدت الخطوط مع المعارضة، وفي الكويت والامارات تمكنت من اختراق الجاليات الشيعية والايرانية، وكذلك في المملكة العربية السعودية.

 

ثالثا: تعزيز قوة ايران العسكرية والشروع في بناء قنبلة نووية لتكون حصنا يحميها من أي هجوم غربي محتمل؛ فإيران لديها قناعة بعد اجتياح العراق بأن البلد الذي لا يملك سلاحا نوويا سيكون عرضة للاستباحة.

 

رابعا: بناء منظومة ثورية داخل ايران، وتثوير الايرانيين واشعارهم انهم امام مهمات كبرى وان التضحيات ضرورية، وان استقلالية قرارهم تفرض عليهم تحمل متاعب ستكون حتما مرحلية ويعقبها يقين بالنصر والعلو في الارض.

 

هذه التكتيكات الايرانية ليست حصرية بل توجد اخرى ولكنها ليست بالقدر الكبير من الاهمية في سياق التحليل، ولكن من الضروري الاشارة الى ان هذه التكتيكات الايرانية رغم بداهتها لم يقابلها تصور معارض من الدول  العربية وبالذات الخليجية المتأذية من النفوذ والتمدد الايراني؛ ولذلك كان التمدد الايراني سريعا وقويا ومقنعا لأن الاخرين لم يلتفتوا اليه، واعتبروه مجرد تهويمات ثورية لا تلبث ان تزول مع تراجع المد الثوري الايراني، وبناء الدولة؛ فكانت هذه الدول المعنية تبني سياساتها دائما على اعتبارات مرحلية وشخصية، فإذا كان هناك رئيس اصلاحي مثل محمد خاتمي عمدت تلك الدول الى التواصل معه على امل ان تغير ايران سياساتها؛ او ان تعمد دول مثل صدام حسين الى الاقتناع بأن ايران يمكن ان تساعده في حربه مع الولايات المتحدة ناسيا ان هدف ايران الاستراتيجي هو السيطرة على العراق عبر تثوير الشيعة وربطهم بها وإن تعذر تحقيق ذلك فلا بد من تفتيت العراق لكي لا يشكل ابدا خطرا استراتيجيا عليها في المستقبل.

 

ومع استفحال الخطر الايراني على منطقة الخليج واستشعار قياداته به تواجه تلك القيادات معضلة حقيقية في التصدي للتمدد الايراني. فإيران تشكل خطرا على استقرار تلك الدول بسبب العوامل التي ذكرناها اعلاه، وتشكل ايضا خطرا نوويا ليس من الناحية العسكرية بل من الناحية البيئية بسبب قرب المنشآت النووية من دول الخليج، وتجد تلك الدول نفسها وحيدة في مواجهة هذا الخطر مع تزايد المؤشرات على ان الغرب لا يسعى الى منع القيادة الايرانية من حيازة السلاح النووي؛ لا بل ثمة تقارير ودراسات تؤكد ان ايران امتلكت هذا السلاح وقد لا تعلن امتلاكها له محافظة على مكتسباتها على اساس انها قادرة على تصنعيه عند الحاجة تماما كما هو حال اليابان الذي لا يمتلك سلاحا نوويا ولكن بالإمكان صناعته في غضون فترة وجيزة.

 

 

لنكن صريحين ونقول ان ايران كسبت جولات كثيرة في سياساتها الرامية لتحقيق اهدافها، ولم تستطع دول العالم العربي لجم هذا التمدد ولا حتى مواجهته بسبب التكاليف الكبيرة، وبسبب غياب استراتيجية للمواجهة وبسبب الخلاف بين القادة العرب حول طرق المواجهة. ولكن التطورات الاخيرة في العالم العربي، وقدوم ما يسمى بالربيع العربي وضعت عراقيل ومصاعب في وجه التكتيكات الايرانية بشكل لم تكن تتوقعه تلك القيادة وبالتالي تواجهه وليس لها تصور مدروس. ففي سوريا وجدت ايران نفسها امام المعضلة الكبرى لأنها لم تكن تتوقع ذلك ولأنها فعلت كل ما يجب لكي لا يقع؛ لقد استثمرت ايران في نظام البعث السوري كثيرا، وحاولت ان تثبت  اقدامها قدر ما تستطيع لأن سوريا هي بوابة العالم العربي. لكن شرارة الثورة لم تسمح لإيران بالتقاط انفاسها بل اعتمدت على غير عادتها سياسات وليدة الساعة وليس التحليل والرؤية البعيدة.

 

في سوريا تعاملت ايران مع الاحتجاجات على انها عرضية وان النظام السوري قادر على قمعها وتقديم بعض الاصلاحات الصورية التي تغير في الشكل وليس في الجوهر؛ لكن هذا التصور لم ينجح فكان الرد الايراني مزيدا من التأييد لسياسات القمع لدرجة ان ايران نزلت في هذا الدهليز عبر خطوات متدرجة لم تدر انها ستؤدي بها في النهاية الى طريق مسدود، حتى ولو انتصر النظام، وهو ما لا يمكن تصوره؛ فإيران لم تعد تلك الدولة الثورية التي تدافع عن المستضعفين بل تحولت الى دولة تدافع عن الشيعة وتقاتل غيرهم، تتحدث عن الظلم وتمارسه وتدافع عنه؛ لقد سقطت صورة البراءة الثورية، وانكشف زيف الشعارات. وبدخول ايران المعادلة الداخلية السورية انغمست في وحلها ولا يمكن ان تخرج من وحلها قوية؛ فايران تخسر ماليا، واستراتيجيا في كل يوم، وتعرف ان اقصى ما يمكن ان تحققه في سوريا هو تأخير النهاية المحتومة؛ ولا يمكن لإيران حتى ولو ارادت ان تنشئ دويلة طائفية متصلة بلبنان تضمن لها موطأ قدم في المنطقة العربية، ونقطة انطلاق لإزعاج اسرائيل وخلط الاوراق في المنطقة بما يخدم سياساتها.

 

في سوريا تبدو ايران تخسر ليس على صعيد التكتيك بل على مستوى الاستراتيجية، وهذا ما يوفر فرصة ذهبية للدول الخليجية، إذا  كانت جادة بالفعل في احتواء النفوذ الايراني. فالعرب لأول مرة يجدون انفسهم في معادلة رابحة مع ايران، وكل ما يلزمهم لذلك هو الارادة والتخطيط، والجرأة على اتخاذ القرار والمتابعة الى النهاية؛ كما يتوجب عليهم ان يعوا في تنافسهم واحتوائهم للنفوذ الايراني ايديولوجية هذا النظام وخطره النووي على امنهم واستقرارهم، وان اية معادلة جديدة في المواجهة يجب ان تنطوي على مواقف ومعادلات جديدة تفرض على النظام الايراني ان يغير استراتيجية إما طوعا وإما كرها.