مزادات الدم المحمومة ... من يوقفها ؟
27 ربيع الثاني 1434
يحيى البوليني

تبرع ولو بريال لعتق رقبة أخيكم فلان .. من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. ساهموا في عودة أخيكم فلان إلى ذويه ، فأمه المريضة تبكي طوال الليل وزوجته المكلومة وأبناؤه الصغار ينتظرون عودته إليهم ... لقد جمعنا (..) مليون وتبقى لنا (..) مليون لدفع ديته فلا تحرم نفسك الأجر بالمساهمة في إنقاذ رقبته ...

هكذا تمتلئ الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي بحملات تستدر عطف القراء الذين تتحرك مشاعرهم وتفيض عيونهم وتخفق قلوبهم للحظة التي سيكتمل فيها مبلغ الدية المطلوب ويعلن فيه عن قبول أهل القتيل للدية وعتق رقبة القاتل ، لتنتهي هذه الحملة وتبدأ على إثرها حملة أخرى لجمع مبلغ اكبر في مزاد شبه يومي لجمع الأموال .

وبدأت المزادات الغريبة والمؤلمة في آن واحد لنسمع أرقاما مخيفة يشترطها أهل القتيل أولياء الدم للعفو عن القاتل فسمعنا 17 مليون ، 20 مليون ، 23 مليون وأخيرا قرانا رقم 30 مليون ريال وربما يكون هناك أكثر , وذلك مع نشر أرقام حسابات بنكية لجمع صك الدية .

ولا شك أن قبول الدية أمر شرعي متاح لولي الدم كأحد البدائل في قضايا القتل , وبه تحل كثير من الأزمات بين العائلات , وهو تخفيف من الله سبحانه على أهل القتيل وتطييب لخاطرهم , وفيه تخفيف أيضا على القاتل من القصاص مع كونه فيه تعنيف وزجر للقاتل وأهله وردع للمجتمع ككل , فيحقق الغاية والحكمة العظيمة من الحدود الإسلامية التي جعلت لصيانة المجتمع ابتداء .

وليس في قلة مبلغ الدية أو كثرته تعويضا عن الروح الإنسانية التي أزهقت , ولكن المشكلة تكمن في المغالاة فيها إلى حد لا يطيقه كثير من الناس , ولذا فهناك عدة أسئلة لابد وان تطرح ووقفات لابد ان نتوقف عندها في هذا التسابق المحموم الذي بات مخيفا في آثاره وتداعياته على المجتمعات المسلمة التي تطبق شريعة الله

- إن الشارع الحكيم سبحانه ما شرع تشريعا إلا ويمثل عين الحكمة وعين الرحمة معا ، وليس في التشريع الإسلامي ظلم ولا قسوة ، وما القصاص إلا صورة عظمى من صور الرحمة - حتى للقاتل وأهله - فالمجتمع المسلم لابد وان يكون له حدود رادعة , والأخذ بالدية أيضا كذلك , ولكن تناول الصورة من جانب واحد أيضا فيه ظلم , فمغالاة البعض ومطالبتهم برحمة القاتل من القصاص ربما يعطي الانطباع بان حكم الله فيه قسوة ، فما كانت الأحكام الشرعية ومنها القصاص إلا لمصلحة المجتمع ككل من الاستهانة بقيمة الدماء , فتحفظ حياة الناس بوضع سياج قوي وحقيقي أمام كل مستهتر ، ولهذا فان كثرة الطرق على القلوب بمناشدة أصحاب القلوب الرحيمة للتدخل والتبرع هنا فيه تعريض بان شرع الله في القصاص بعيد عن الرحمة وقد قال الله سبحانه " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " .

- وعلى الرغم من أن حكم الدية شرعي ثابت لجميع الناس , فلم يحدد فيه ربنا سبحانه مواصفات معينة للقاتل الذي تُقبل منه الدية , إلا أن هذه الحملات لابد وان تهتم بحال القاتل , فلا يمكن حشد الناس واستدرار عطفهم من اجل قاتل فاسد ومفسد ومستهتر بالدم معتمد على وجود هذه الرخصة , ولابد وان تهتم بسلوك القاتل في محبسه ومدى تغييره ليتم توجيه تبرعات أهل الخير لإنقاذ رقبة التائب المستغفر النادم ، فلا تدفع هذه الحملات تبرعات أهل الخير بتبرعاتهم لإخراج عضو قد يكون فاسدا مفسدا ليعود للمجتمع مرة أخرى ثم يكرر نفس أفعاله مطمئنا أن أهل الخير سوف يتبرعون مرة ثانية وثالثة لإنقاذ رقبته ، فهل حُقق مراد الشرع الحنيف حينئذ ؟ و في مثل هذه الحالات هل أعان أهل الخير بعملهم هذا - بحسن نية - على الحق أم على الباطل ؟

- يعتمد المسئولون في هذه الحملات على تحريك المشاعر من جانب واحد فقط , ويكثر استهداف النساء في هذه الحملات لكونهن ارق قلوبا وأسرع تأثرا , فتكثر من الحديث عن القاتل في لحظة انتظار القصاص وهي اللحظة التي تستجلب الشفقة والرحمة به ، ولا تذكر أبدا تلك الحملات القتيل ولا لأمه المكلومة ولا لأبيه الحزين ولا لزوجته التي ترملت ولا لأطفاله الذين يُتموا ، فهذا تجنيب متعمد للحقيقة , وهذا شان كل عمل بشري وكل نظرة بشرية سطحية قاصرة تنظر فقط لواحدة فقط من زوايا الحدث .

- بالرغم من أن الدية من أقسام العفو الذي يعفوه أولياء الدم تكرما منهم على القاتل ,إلا أن فيها نوعا من العقوبة لابد وان تؤدي دورها فيه , فيساهم المبلغ المدفوع بهيئته العقابية في إثناء كل من تسول له نفسه أن يستهتر بالدم عندما يغرم من ماله ومال أوليائه - حتى لو افتقروا وباعوا كل ما لديهم - تأديبا وزجرا ، ولكن ما نراه الآن أن أولياء الدم ينالون مبلغ الدية من أناس بعيدين كل البعد عن القاتل وربما لا يعرفونه من الأساس ، بل قد يكونون من دولة أخرى ، فكيف تحقق الدية مفهومها العقابي على القتيل حينئذ ؟، وهل هذا السلوك لا يشجع على الاستهانة بالدم الحرام ؟

- وإذا كانت الدية احد مخارج العفو عن القتيل ، فكيف يشترط أولياء الدم هذه المبالغ الباهظة المطلوبة ، وهل لا تعتبر هذه المبالغ حينئذ ثمنا للنفس الإنسانية ؟ وما الذي يضمن أن تتحول الأمور بعد فترة إلى تعسير الديات على الجميع لاعتبارها نوعا من الوجاهة الاجتماعية ، فربما يأتي اليوم الذي يعير فيه من يقبل بالمبلغ الأقل ويتفاخر فيه من يطلب المبلغ الأعلى ، فهل يمكن ان نتصور أن هذا هو مراد الشرع الحنيف من الأحكام الإسلامية ؟

- ان الدور الحقيقي والأول في إيقاف هذه الظاهرة قبل استفحالها بالكلية هو دور العلماء الناصحين المؤثرين في عدم المساهمة في تبني مثل هذه الدعوات والحملات لان الناس يسيرون خلفهم وينتظرون كلمتهم ، كما يجب عليهم القيام بحملات توعوية عن خطورة هذا المسلك الذي يباعد بين الناس وبين روح الأحكام الشرعية التي قامت لصالح المجتمع

وكذلك على العلماء مراجعة عدة فتاوى صدرت من علماء أفاضل كرام تخص جمع الديات – تمت الإجابة عليها في أحوال سابقة قبل ان تدار الأمور بهذا الشكل - لوضع ضوابط جديدة لها , مثل فتوى سماحة الشيخ بن عثيمين - رحمه الله - وغيره في جواز دفع زكاة المال للمساهمة في الدية ، وذلك لتغير الظرف والحدث والأسباب لتحقيق مراد الشرع الحنيف , فالفتوى قد تتغير بحسب تغير عواملها ووفق مصلحة المسلمين وجودا وعدما ولتحقيق مقاصد الشريعة .

- وينبغي أن نناشد المؤسسات التشريعية أن تراجع تلك القضية مراجعة لكافة أسبابها وأثاراها لمحاولة السيطرة على هذه الظاهرة بتقنين حد أقصى لا يزيد الناس عنه لمن يريد أن يقبل الدية في قتيله حتى لا يصير الأمر ألعوبة في أيدي أهواء الناس .

- إن الباحث عن وجوه الخير ليجدها كثيرة جدا ، فكما ان جمع هذا المبلغ الضخم لإنقاذ حياة فرد واحد هو بالفعل باب من أبواب الخير وفيه تفريج لكربة مؤمن , لكن توجد أبواب خير كثيرة يمكن ان تستوعب هذه التبرعات وتستنزفها هذه الحملات , فيمكن لمثل هذا المبلغ الضخم أن يحيي مئات من الأسر المسلمة وينقذها من مشارف الهلاك في كثير من المناطق القريبة والبعيدة , وخاصة تلك الأماكن المنكوبة والتي تحتاج للأعمال الإغاثية مثل مخيمات المشردين حيث تنام فيها الأسر المسلمة على الثلوج ليقضي عليهم البرد والجوع والمرض ولا يجدون ما يسد جوعتهم أو ما يستر عوراتهم .

- وأخيرا تثبت وتؤكد تلك الظاهرة بانتشارها اللافت أن هذه الوسائل الإعلامية الحديثة ( الفيسبوك وتويتر وغيرها ) عظيمة التأثير حاليا في قرارات الناس وتطلعاتهم وأفكارهم ، فيمكن لهذه الوسائل أن تحشد الناس مع أو ضد قضية معينة - مثلما تفعل في تلك الحملات - وتجعلها محور حديثهم وتشغل أذهانهم وأوقاتهم ، وهذا المتغير الحديث والعظيم التأثير في المجتمعات المسلمة لابد من الانتباه إليه جيدا والتعامل معه على هذا الأساس فهو يشكل خطورة أكثر مما يعتقد الكثيرون ويمكن أن ينتفع منه انتفاعا عظيما .