احتفالية مملكة الإنسانية !!
2 جمادى الأول 1434
د. محمد بن عبد الله السلومي

اطلعت على مقال صحفي مترجم منشور في 26 / 2/ 2013م ، بعنوان (مؤسسات ليست خيرية) في المجلة الأمريكية الشهيرة (فورن بولسي) وكُتب بلغة متطرفة غير علمية فاقدةً للأدلة وأبجديات التوثيق العلمي ، ويكفي عنوان المقال وبعض العناوين الفرعية (إرهاب بلا حدود) في التعبير عن التطرف والإرهاب الأمريكي المنظم الممنهج، وهذه اللغة للمقال تُظهر عدم مصداقيته، بل تكشف معظم مفرداته عن كذبة ما يسمى (الحرب على الإرهاب)(*).

 

 

ومما يستوجب التنبيه أن مقالي هذا ليس دفاعاً عن المؤسسات الإنسانية السعودية التي لم يوجد ما يُدينها أصلاً، بقدر ما هو غيرةٌ على الوطن وسيادته ومكتسباته، ودفاعٌ عن رسالته العالمية، ومعالج لانحسار دوره وتمدد معظم خصومه على حساب رسالته، وأهم من ذلك –وهو حق لكل مواطن- التنبيه لمصدر الخطر الكبير، وهو ضعف بوصلة الرؤية والاستراتيجية للوطن وسياسته الخارجية، فمن يُفرِّط في هويته الوطنية (عقيدته ورسالته) يفقد سيادته وقوته.

 

 

والمقام هنا ليس مقام تقديم الحلول المعروفة، أو إعادةٍ للمقترحات والدراسات المقدمة لصاحب القرار في السعودية، فعدم قبولها على مدى عشر سنوات مضت أضاف بُعداً في تعزيز الاحتفالية أو الاحتفاليات -كما سيأتي-، وهذا في الوقت ذاته مما يؤكد على أن الإجراءات السعودية هي (استراتيجية جديدة) تجاه المؤسسات الإنسانية (العالمية) السعودية !!

 

 

وتبرز أهمية ذلك المقال الصحفي حيث كان صدوره بالتزامن مع مستجدات التوقف النهائي لمؤسسات إنسانية سعودية معنية بالعمل خارج الوطن، وهو ما عبَّرتُ عنه في مقالي هذا مجازاً أو حقيقةً بـ (احتفالية مملكة الإنسانية) –كما سيأتي-.

 

 

فتاريخياً أُغلقت مؤسسة الحرمين وفروعها بالرغم من ثبوت براءتها في المحاكم الأمريكية، وتلا ذلك هجرة بعض المؤسسات خارج الوطن السعودي أو ترحيلها، ثم إيقاف بقيتها عن حملات جمع التبرعات، مع تجميد كثير من الحسابات البنكية للمؤسسات -ولا تزال-، إضافة إلى منع وسائل التحويلات الخارجية، بالرغم من أن ذلك فيه انتهاك مباشر لحقوق الموظفين والمستفيدين من أموال إخوانهم المسلمين على مدى اثنتي عشرة سنة مضت.

 

 

مؤسسة الوقف الإسلامي التي تم طلبها سابقاً من مقرها الرئيسي في أوروبا (هولندا) إلى الرياض للانضمام إلى عضوية اللجنة السعودية المشتركة لإغاثة كوسوفا والشيشان بحكم خبرتها في شرق أوروبا والجمهوريات الإسلامية، افَتَتَحَت مقراً لها في الرياض عند تأسيس اللجنة السعودية وأصبحت عضواً رئيساً فيها استجابة لما طُلب منها رسمياً آنذاك، كما فَتَحَت مكاتب فرعية في بعض مدن المملكة العربية السعودية بناءً على موافقات بخطابات رسمية، ولكنها في عصر العمل الإنساني في مملكة الإنسانية تعرضت ملفاتها المالية للتحقيق والتدقيق من بعض الجهات الأمنية على مدى ثلاث سنوات مضت أثبتت فيها المؤسسة نظافة سجلاتها المالية وحسن علاقاتها بدولة مقرها الرئيس (هولندا) بحسب واقع سجلاتها في فروعها الدولية، إضافة إلى ما أدلى به المحققون في المملكة إلى بعض منسوبي المؤسسة وكبار مسؤوليها عن عدم وجود ما يُدينها، لكنها مع ذلك تلقت مجموعة من الخطابات –غير السرية- في نهاية عام 1433هـ ومطلع هذا العام 1434هـ بطلب تصحيح وضعها !!، وأُسندت عملية أخذ التعهدات إلى وزارة الشؤون الإسلامية مع متابعة وزارة الداخلية، تبعها تحويل الملف إلى إمارات المناطق ثم إدارات الشرطة لإغلاق المكتب الرئيس ومتابعة إغلاق الفروع لمؤسسة الوقف، وبمقتضى هذا الطلب والإجراءات المصاحبة يتم إغلاق المكتب الرئيس والفروع لتبحث المؤسسة عن مكتب تمثيل لها في بعض دول الخليج، لا سيما مع عدم القبول ببقاء المؤسسة ولو ضيفاً يتخذ من السعودية (دولة مقر).

 

 

كما أن رابطة العالم الإسلامي وهي منظمة عالمية وقَّعت مع وزارة الخارجية السعودية اتفاقية (دولة مقر) في20 / 10/ 1432هـ الموافق 19 / 9 / 2011م وهي بهذا القرار مع هيئاتها المتعددة ذات النفع الكبير مثل هيئة الإغاثة الإسلامية، ومؤسسة مكة، والمؤسسة العالمية للإعمار والتنمية، وأطباء عبر القارات وغيرها أصبحت مؤسسات غير سعودية، وإنما هم ضيوف اتخذوا من السعودية مقراً، والواقع يؤكد عدم تغير شيء بعد توقيع اتفاقية (دولة مقر) تجاه الحسابات البنكية المجمد بعضها، أو عن قدرتها على الحوالات الخارجية بعد توقيع الاتفاقية.

 

 

كما طُلب من الندوة العالمية للشباب الإسلامي رسمياً في تواريخ متتابعة بخطابات -غير سرية- توقيع اتفاقية (دولة مقر) وتم بالفعل مع وزارة الخارجية السعودية بتاريخ 16 / 4 / 1434هـ الموافق 26 / 2 / 2013م ، وصحب ذلك مطالبتها مع رابطة العالم الإسلامي بالعمل على إغلاق بعض الفروع غير المرخص لها داخل مدن المملكة حسب ما ورد في الخطابات الرسمية الموجهة إلى تلك الجهات والمسرب بعضها في الشبكة المعلوماتية ، حيث أُسندت المتابعة للوزارتين – السابق ذكرهما - والتنفيذ في الإغلاق لإمارات المناطق وإدارات الشرطة !!.

 

 

ومن مضامين تلك الإجراءات أو النتائج التي تمت أن المملكة العربية السعودية أصبحت خالية تماماً من المؤسسات (الإنسانية) السعودية العاملة في شؤون الخارج، بل ولا توجد في السعودية مرجعية إدارية أو آلية لتسجيل أي مؤسسة إنسانية للعمل خارج الوطن، كما أن اتفاقيات (دولة مقر) مع وزارة الخارجية السعودية جعلت هذه الوزارة هي المعنية بالعلاقة مع الرابطة والندوة بالدرجة الأولى وهما في عالميتهما أكبر من الوزارة كما هو معلوم، وهذه الاتفاقية قد تعني الخجل والاستحياء من وجود هذه المؤسسات –كمؤسسات سعودية وطنية- على أرض الحرمين، وقد تعني الرغبة في الغُنم دون الغُرم إن وُجد، كما أن قبول الدولة لهاتين المؤسستين ضيفتين فقط في الأراضي السعودية يعني أنهما مؤسستان أجنبيتان لا علاقة للملكة العربية السعودية بهما.

 

 

إن هذا الواقع-مع الأسف- يتوافق مع مقتضيات (مشروع الشرق الأوسط الجديد) وإعادة التقسيم للمُقَسَّم وما يتضمنه المشروع من حروب ونزاعات، وأن (الإنسانية والعمل الإنساني) حكر على الرجل الأبيض، والمعونات الحكومية تُدفع للمنظمات الدولية، وتبرعات الأهالي من دول العالم الإسلامي تأخذها الحكومات لتناولها الحكومات الأخرى فقط.

 

 

يتزامن هذا المقال الصحفي السابق ذكره مع ما سبق من قرارات وإجراءات، وقد يُعدُّ المقال بهذا التوقيت رسالة تأكيد أو شكر، وقد يُعد من المطالب الجديدة بمنهج (خُذ وطالب)، كما أن فيه ما يُثبت نجاح خصوم العمل الخيري المؤسسي الذي أقصى العمل الأهلي المؤسسي الإسلامي عن معظم ساحات الإغاثات الدولية، مع الوضع الإنساني المأساوي الذي يندى له جبين كل إنسان من المسلمين وغيرهم في مواقع الحروب والنزاعات.

 

 

ومن المؤكد في هذا المقام أن حرب التضييق والحصار – باسم التنظيم وغيره - لم تكن في السابق على المؤسسات المعنية بالخارج فحسب، بل إن معظم المؤسسات التطوعية والجمعيات الخيرية ذات النفع العام في الداخل نالها نصيب وافر من مشروع ما يُسمى حرب الإرهاب مما عطَّل كثيراً من برامجها وأعمالها الإغاثية والاجتماعية والدعوية، كما أن من المتوقع –وأرجو أن يخيب ظني- أن الدور قادم بقوة على تقليص وإضعاف (مؤسسات ومكاتب وجمعيات الداخل) الخيرية، بل ومكاتب التوعية الإسلامية بالوزارات حسب معظم المؤشرات والمعطيات لتكون المنجزات التطوعية السابقة في داخل الوطن السعودي ضحية أخرى من (ضحايا المشروع العالمي لحرب الإرهاب)( **)، ومن هذه المعطيات والمؤشرات الجديدة –على سبيل المثال- ما تضمنه المقال المذكور عن خطورة مطبوعات وكتب علمية لدور نشر محلية ومكاتب دعوية داخلية، ومما ورد فيه على سبيل التجريم: "بل هناك مطبوعات وكتب تقوم بنشرها من خلال نشاطاتها الدعوية تعود ملكيتها إلى ثلاث دور نشر في المملكة العربية السعودية وهي: دار القاسم ومقرها في الرياض، ودار الطرفين ومقرها في الطائف، والمكتب التعاوني للدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات ومقره في الدمام"، فهل يعي من يعنيهم أمر العمل الخيري بالخارج والداخل على حد سواء حقيقة المثل المشهور: (أُكلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض)؟

 

 

إن ذلك المقال الصحفي وما صحبه من إجراءات في السعودية - بشكل خاص - يكشف ويؤكد في الوقت ذاته أن سياسة اليمين المتطرف – لا تزال- هي المتمكنة في الإدارة الأمريكية الحالية بإصرارها على تنفيذ ما تعتبره (سياسةً ذكية) لتعزيز استمرار مشروع (النسخة الثانية) من (الحرب على الإرهاب)، حيث إن إقفال الأبواب الرسمية الشفَّافة تجاه الحوالات المالية تؤدي حتماً إلى تسربها بطرق فردية وغير رسمية أو بوسائل غير مشروعة حسب معايير النظم العالمية، مما يؤدي لاستمرار إدانة معظم صور العمل الخيري الإسلامي أفراداً ومؤسساتٍ ودولاً، لتكون النتيجة دعم وتعزيز ما يُبرر غزو العالم الإسلامي وفرض الوصاية عليه والتدخل في جميع شؤونه بصفة مستمرة.

 

 

وفي ميادين التفاؤل فإن ما سبق من القول الصحفي والعمل الإجرائي يؤكد (حقيقة) الحضور الفعَّال للعمل الخيري الإسلامي الذي يُعد من مؤشرات انتصار الإسلام وتمدده وانتشاره عالمياً بالرغم من كل المعوقات، كما يوضح في الوقت نفسه أن هذا الحصار لا يعدو أن يكون صورة من صور الحرب الصليبية الجديدة، وهي (حرب  طويلة الأجل) تستهدف كثيراً من وسائل تواصل المجتمعات الإسلامية فيما بينها في أنحاء العالم، وليس ذلك بغريب على من رضعوا عداوة الإسلام، ولكن الخلل الكبير والخطأ الجسيم هو تلك الاستجابات غير المدروسة التي تتجاهل حقيقة أن العطاء الخيري والبذل التطوعي بكل صوره وأشكاله حق من حقوق الإنسان، وتزداد هذه الحقوق اعتباراً وأهمية ووجوباً لأنها حق من حقوق المسلم لأخيه المسلم وتعطيلها جريمة بحق الإنسان والدين جزاؤها عند الله (الويل): " أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ($) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ($) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ  ($) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ($) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ($) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ($) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ($) " (الماعون) .

 

 

والخلاصة بصورة أوضح: إن تلك الحرب الإعلامية والاستجابات العملية وما ترتب عليها من خلو الساحات الإسلامية من إغاثات الشعوب التي أثبتت جدارتها ونجاحها في السابق، شرعنت الاعتداء على الحريات الشخصية والالتفاف على تبرعات الشعوب لتكون جميع الإغاثات والتبرعات من الحكومات للحكومات، وقد صحب ذلك فشل ظاهر في الإدارة والتنفيذ على أرض الواقع؛ مما هو معلوم ومشاهد، والحكومات بهذه التصرفات تتجاهل أن البذل التطوعي من حقوق الأمة وليس من حقوق الحاكم وحكومته، وتتغافل عن المتغيرات وتحولات القوة من التحالفات الدولية إلى إرادة الأمم وقوة الشعوب.

 

 

فهل يعي العقلاء هذه الحقائق ويتعاطى الجميع مع تلك الحرب الجديدة تعاطياً يُوقف إرادة أعداء الأمة الإسلامية وخصوم عملها الخيري الإنساني ؟(***) .

 

 

وأخيراً.. إنها احتفالية مملكة الإنسانية في تخليها وخلوها من أي مؤسسة سعودية إنسانية معنية بالخارج، واحتفالية في خلو أجهزة الدولة من أي جهاز إداري معني بإصدار التراخيص لذلك، بتميز فريد عن جميع دول العالم، واحتفالية بإهداء معظم المؤسسات الإنسانية السعودية للغير باتفاقيات (دولة مقر)، واحتفالية رابعة برحيل البقية الباقية، وأثناء ذلك كله كانت إجراءات إزالة مكاتب وأكشاك التبرعات الأهلية وصناديقها النظامية، وهي من المظاهر الحضارية للدول، وصَحِبَ ذلك تحذيرات برسائل نصية MMS من الخارجية السعودية لكل مواطن مسافر خارج المملكة من مزاولة أعمال تطوعية في الخارج، والمطَّلع على بعض الخطابات والإجراءات بهذا الخصوص يدرك استراتيجية تكريس الاحتفالية والتخلي عن الرؤية والرسالة في السوق الدولي وإسدال الستار على نشاط مؤسسات العمل التطوعي السعودي خارج الوطن – حمى الله وطننا من كل سوء - .

 

المصدر/ مركز القطاع الثالث للاستشارات والدراسات الاجتماعية