حول (الدستور) في الدولة الإسلامية (12/12)

في هذا المقال يُشار إلى أهم ضمانات تطبيق الدستور في الدولة الإسلامية التي تلتزم أحكام الشريعة.. فالدستور الذي لا توجد ضمانات لتطبيقه، يكون عادة عرضة للإخلال به وانتهاك حدوده، جهلاً أو خطأ أو عمداً.. ولعلّ أهمها : الضمانات النصيّة التعهدية؛ والضمانات التطبيقية العملية..

 

فأمَّا الضمانات النصيّة التعهدية، فتتمثل في التعهد بالتزام سيادة الشريعة وجعلها الحَكَم على كل النظم والقوانين، وبعبارة أخرى: وجوب تضمين الدستور المدوّن للدولة الإسلامية، نصّاً يجزم بوجوب حاكمية شريعة الإسلام على الدستور ذاته وعلى جميع أنظمة الدولة وقوانينها، مع تأكيد ذلك في كل موضع يتطلبه؛ وذلك تحقيقاً لمبدأ حاكمية الشرع الإسلامي -أو ما يُعبّر عنه اليوم بـ(سيادة الشريعة)- الذي يقرّر مبدأ الشرعية العليا، أو ما يعرف بنظرية دستورية القوانين؛ فالمشرع حقيقة هو لله وحده لا شريك له؛ وقد وصف الله عزّ وجل اتخاذ سلطة تشريعية تشرِّع خلاف شرعه، باتخاذ الشركاء من دون الله! فقد قال عز وجل: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}!؟ فأي حُكْم خالف شرع الله فهو باطل منعدم الشرعية ..

 

ومن هنا تحدّث علماء الشريعة وأساتذة القانون الدستوري من ذوي العناية بتدوين الدستور الإسلامي، عن هذه الضمانة الدستورية، وقدموا محاولات لصياغتها، ونقدوا عدداً من العبارات التي تضمنتها بعض دساتير الدول الإسلامية؛ بل أفرد بعضهم مؤلفات تتحدث عن صيغة هذا التعهد وضبط نصوصه بحيث لا تحتمل تأويلا يسمح بأي مخالفة للشريعة الإسلامية..

 

ولعلّ أدق نصّ في ذلك تضمنته مشاريع الدستور الإسلامي في هذا العصر، ما جاء في نص المادة السادسة، من مشروع الدستور الإسلامي، الذي قدمه المستشار مصطفى كمال وصفي رحمه الله: "الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، والإسلام هو دين الدولة... وكل عمل يخالف الشريعة الإسلامية فهو ردّ " . كما تضمن الدستور عبارات أخرى تؤكد ذلك ، من مثل قوله في المادة الخامسة عشرة: "ولا التزام برأي الأغلبية فيما يخالف الشريعة الإسلامية"..

 

ولعلّ أدق نصّ في ذلك تضمنته وثيقة دستورية لدولة إسلامية في هذا العصر، هو نصّ المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية: "يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهما الحاكمان على هذا النظام وجميع أنظمة الدولة"..

 

وأمَّا أهم الضمانات العملية، لتطبيق الدستور وعدم تجاوزه، فتتمثل في: وجود مؤسسات قوية مؤهلة مستقلة فاعلة، تحقق رقابة حقيقية لمدى تطبيق القواعد الدستورية في أي إطار كانت وفي أي صيغة وجدت، سواء كانت الرقابة على أعمال السلطة التنظيمية، أو أفعال السلطة التنفيذية، أو أحكام السلطة القضائية التي قد تتجاوز الأحكام والقواعد الدستورية، كتلك التي تتعارض مع الأحكام الشرعية المجمع عليها.. وبهذا تُكَمّل الضماناتُ بعضَها: النظرية مع التطبيقية، إذ لا تكفي الضمانات النظرية غالبا في تحقيق هدفها دون نُظم وآليات عملية تطبيقية..

 

والذي يهمنا منها هنا: وجود رقابة قضائية على دستورية الأنظمة والقوانين والقرارات؛ وهذه الضمانة ليست حديثة كما يردّد بعض المعاصرين، ممن ليس لهم اطلاع كافٍ على التراث الإسلامي والتجربة الإسلامية في تاريخ الحكومات الإسلامية العادلة؛ فإن القضاء الشرعي المستقلّ عبر تاريخه يرفض أي قانون أو تنظيم يخالف الكتاب والسنة، ومن ثمّ لا يحكم به لعدم شرعيته؛ لأنَّ قيد القضاء الشرعي: التزام الحكم بما أنزل الله نصاً أو استدلالاً صحيحا؛ ودليل ذلك كلّ نصوص لزوم الحكم بما أنزل الله، وكلّ النصوص التي تمنع طاعة المخلوق في معصية الخالق؛ "وبذلك سبق الإسلام إلى تقرير نظرية شرعية القوانين أو نظرية دستورية القوانين، التي هي نظرية حديثة النشأة"، كما يقول شيخنا د.منير البياتي حفظه الله . و"المسلمون الأوائل قد عرفوا الدفع بما يعرف في عصرنا بعدم الدستورية، وكانوا يدفعون بعدم الدستورية في كثير من الأحيان لمجرد توهم المخالفة، وكان القضاء مختصاً بنظر هذه الدفوع، ولم يكن منفرداً وحده بهذا الاختصاص؛ بل كان يشاركه فيه المحتسب، وناظر المظالم..." كما يقول د.أحمد أمين، و"كان الطعن بعدم الدستورية، تَجُوزُ إثارته أمام القضاء بطريق الدعوى الأصلية، وبطريق الدفع، كما تجوز إثارته أمام السلطة التي أصدرت التشريع أو القرار، وليس في ذلك أية غضاضة؛ لأن الجميع حكاماً ومحكومين هدفهم الوصول إلى شرع الله والخضوع له . كما يمكن للقاضي التصدي من تلقاء نفسه إذا ما رأى أن القانون الواجب التطبيق في الواقعة المعروضة أمامه، مخالف لنصّ قطعي الثبوت والدلالة في القرآن والسنة النبوية.. ولا يشترط في دعوى الدستورية في الإسلام أيّة شروط من مصلحة أو صفة أو غير ذلك من الشروط؛ فهي من قبيل دعاوى الحسبة؛ لأنها في حقيقتها نهي عن المنكر. وكانت جميع المحاكم في الدولة الإسلامية مختصة بالنظر في هذه الدعاوى والفصل فيها".

 

وعلى كلّ حالٍ، فإن مفهوم (دولة القانون) الذي اشتهر في هذا العصر- الذي تُعدّ الرقابة على دستورية القوانين أحد أهم شروطه- لم يكن له وجود يمكن التعويل عليه عند الأوربيين، كما يقول د.أمين صليبا: "حيث بقي شعار دولة القانون من دون مضمون في القارة الأوربية؛ وذلك بغياب أي رقابة فاعلة على النصوص القانونية التي تخالف القيم، التي أجمع عليها المجتمع وضمّنها مواد دستوره، والتي يعتبرها هذا المجتمع أو ذاك الضامن الحقيقي لحقوقه وحرياته الشخصية "؛ وإنما وجدت أولى الضمانات القانونية المعاصرة في اجتهاد قضائي قانوني عارض في إطار المدرسة الأنجلوسكسونية الأمريكية فيما بعد، كوّن سابقة فيما يعرف اليوم بالرقابة على دستورية القوانين، فـ" بالرغم من أن الدستور الأمريكي لم يشر إلى أي صلاحية تُعطى للمحكمة العليا من أجل إعمال رقابتها على دستورية القوانين: جاء الاجتهاد الشهير عام 1803م(قضية ماربوري ضد ماديسون)... ليؤسس لمبدأ الرقابة على دستورية القوانين في أمريكا".. وقدّ عد القانونيون ذلك: "الشرارة الأولى لانطلاق الرقابة على دستورية القوانين في أمريكا لتعم العالم فيما بعد". ومع ذلك بقي أداء المحكمة العليا الأمريكية، محلّ انتقاد في قضايا عديدة؛ وبقي بعضها محلّ إشادة وإن تأخر! كإلزامها للسلطات بإلغاء التمييز العنصري في النقل العام وفي التعليم الرسمي عام 1954م!! ..

 

وفي إطار المدرسة اللاتينية عدّ بعض القانونيين البرتغال أوّل دولة نصت في دستورها المعدل عام 1982م، على إعطاء القضاء الدستوري صلاحية واسعة في إلزام المقنن والمقرّر بذل قصارى جهده ليجعل قوانينه ملبية للأهداف التي رسمها الدستور..

 

والحديث في الرقابة الدستورية في الدولة الإسلامية ذو شجون.. وثمة مسائل وقضايا دستورية أخرى كنت أودّ إيرادها، لولا أنَّ هذه السلسلة حول الدستور في الدولة الإسلامية، قد تجاوزت العدد المعتاد لتسلسل المقال في مثل هذا المقام..

وإلى لقاء في نبض آخر إن شاء الله تعالى ..