مسألة ضع وتعجل
8 رجب 1435
د. أحمد الخليل

الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين :
أما بعد:
(فإن بعض التجار يلجأ إلى ما يعرف في الفقه الإسلامي باسم :ضع وتعجل ، والمراد من ضع وتعجل : التنازل عن جزء من الدين المؤجل، ودفع الجزء الباقي في الحال )(*).
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين :
فالقول الأول : أن :"ضع وتعجل" لا تجوز ، وهو مذهب الأئمة الأربعة (في الجملة )، فهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأشهر الروايتين عن أحمد واختارها جمهور أصحابه، ونقله ابن قدامة عن:سعيد بن المسيب والقاسم ، وسالم، والحسن، والشعبي، والثوري، وابن عيينة، وهشيم، وإسحاق.
وإنما قلنا أنه مذهب الأئمة الأربعة في الجملة ؛ لأن المشهور من مذهب أحمد وأبى حنيفة.استثناء دين الكتابة فيجوز فيه ، دون غيره .
كما أن أصحاب الشافعي يرون جوازه بلا شرط، وامتناعه مع الشرط المقارن .
كما أجاز مالك، وجمهور من ينكر" ضع وتعجل" أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضا يأخذه، وإن كانت قيمته أقل من دينه.[1]
أدلة هذا القول :
1- أن التحريم مروي عن عدد من الصحابة منهم عمر وابنه - رضي الله عنهما - كما رواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ في المصنف عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُطْعَمٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَى أَجَلٍ، فَقُلْتُ: عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ لَكَ، فَنَهَانِي عَنْهُ، وَقَالَ: «نَهَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَبِيعَ الْعَيْنَ بِالدَّيْنِ» [2]
وكذلك مروي عن زيد بن ثابت كما رواه مالك في الموطأ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، مَوْلَى السَّفَّاحِ قَالَ: بعت بزا لي من أهل دار نخلة، إلى أجل. ثم أردت الخروج إلى الكوفة. فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت، فقال: لا آمرك أن تأكل هذا، ولا تؤكله. " [3]
وهذه الآثار في الحقيقة محل إشكال .
2- أن حقيقة العقد معاوضة عن الأجل - عن التأجيل أو التعجيل- والتأجيل والتعجيل لا يباع ولا يشترى.
3- أن هذا الوضع مقابل الأجل وهو حقيقة الربا ؛ (إذ لا فرق بين أن يأخذ الدائن مائة لتأجيل ألف وأن يعطي مائة لتعجيل ألف ، حيث جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنا، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا . [4]
قال الإمام مالك :
" والأمر المكروه، الذي لا اختلاف فيه عندنا. أن يكون للرجل على الرجل الدين، إلى أجل. فيضع عنه الطالب، ويعجله المطلوب ،قال مالك: وذلك عندنا بمنزلة الذي يؤخر دينه بعد محله، عن غريمه. ويزيده الغريم في حقه. قال: فهذا الربا بعينه. لا شك فيه. ")[5]
القول الثاني: جواز مسألة ضع وتعجل وهو مذهب ابن عباس من الصحابة كما أنه قول النخعي من التابعين ، وزفر من أصحاب أبي حنيفة ، وأبي ثور من أصحاب الشافعي ، وهو أحد الروايتين عن أحمد كما حكاه عنه ابن موسى ، وحكي قولا للشافعي ، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه العلامة وابن القيم .[6]
أدلة هذا القول :
1- حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْمَدِينَةِ، أَتَاهُ أُنَاسٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّ لَنَا دُيُونًا لَمْ تَحِلَّ، فَقَالَ: «ضَعُوا وتَعَجَّلُوا».[7]
2- أن الجواز صح عن ابن عباس صريحاً فقد ثبت أنه أفتى بصحة مسألة:"ضع وتأجل". وفتواه - رحمه الله - أصرح من فتوى غيره من الصحابة .
كما رواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ عَلَى الرَّجُلِ إِلَى أَجَلٍ، فَيَقُولُ: عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْكَ، فَقَالَ: «لَا بَأْسَ بِذَلِكَ») :
وروى عبد الرزاق في المصنف قال أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَأَخْبَرَنِي غَيْرُ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِنَّمَا الرِّبَا أَخِّرْ لِي، وَأَنَا أَزِيدُكَ وَلَيْسَ، عَجِّلْ لِي وَأَضَعُ عَنْكَ» .[8]
(وابن عباس هو راوي الحديث السابق ، وهو أدرى بمعنى مرويه ).
3- أن المسألة تشتمل على إسقاط وتعجيل. والإسقاط مفرداً يصح والتعجيل مفرداً يصح فإذا اجتمعا صح العقد ؛ لأنه مكون من أمرين جائزين[9].
وهذا الدليل ضعيف: لأنه اجتمع من الإسقاط والتعجيل صورة ثالثة ؛ ولأن هذه الطريقة - طريقة التلفيق بين الأحكام- ليست بصحيحة.
4- ما ذكره ابن القيم من أن حقيقة هذا العقد عكس الربا ففي الربا تأجيل وزيادة (فى الأجل والدين، وذلك إضرار محض بالغريم) وفي هذا العقد إسقاط وتعجيل (يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحد منهما. فأين التأجيل مع الزيادة من الإسقاط مع التعجيل.) فهما عكس بعض فهو ليس من الربا لا صورة ولا حقيقة ، ولا لغة ، ولا عرفا . [10]
وهذا الدليل الذي ذكره ابن القيم دليل وجيه عند التأمل.
5- (أن مقابلة الأجل بالزيادة فى الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفى الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له).[11]
6- (أن الشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وسمى الغريم المدين: أسيراً ففى براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر ). [12]
الترجيح
الأقرب والله أعلم الجواز.
لكن كما قلت: مراراً : هذه المسألة لاشك ولا ريب أنها محل تورع واحتياط ، وأنه إذا لم يتورع من أراد أن يتورع في المعاملات المالية في مثل :"ضع وتعجل" فأين سيتورع؟ كيف وعامة فقهاء المسلمين على هذا القول وروي عن أكثر من صحابي. ففي الحقيقة هي محل تورع وشبهة.
لكن من حيث الأدلة نستطيع أن نقول أن القول الثاني: أرجح.
(تنبيه :
استثنى أبو حنيفة وأحمد دين الكتابة فقالوا يجوز أن يصالحه ببعضه حالا، ولا يجوز في غيره ؛ لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى الله، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولا ربا بين العبد وبين سيده؛ فالمكاتب وكسبه للسيد، فكأنه أخذ بعض كسبه وترك له بعضه .
قال ابن القيم معلقا على هذا القول :
"ثم تناقضوا فقالوا: لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين؛ لأنه في المعاملات معه كالأجنبي سواء.فيا لله العجب، ما الذي جعله معه كالأجنبي في هذا الباب من أبواب الربا وجعله معه بمنزلة العبد القن في الباب الآخر " .[13]
فائدة :
قال ابن القيم :
" لو ذهب ذاهب إلى التفصيل فى المسألة وقال: لا يجوز فى دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز فى ثمن المبيع والأجرة، وعوض الخلع، والصداق، لكان له وجه، فإنه فى القرض يجب رد المثل، فإذا عجل له وأسقط باقيه، خرج عن موجب العقد، وكان قد أقرضه مائة، فوفاه تسعين، بلا منفعة حصلت للمقرض، بل اختص المقترض بالمنفعة، فهو كالمربى سواء فى اختصاصه بالمنفعة، دون الآخر، وأما فى البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد، وجعل العوض حالاً أنقص مما كان، وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل، لكن تحيلا عليه، والعبرة فى العقود بمقاصدها لا بصورها. فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته، وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه ") [14]

__________________
(*) وهذه المسألة من المسائل الفقهية المهمة التي يكثر السؤال عنها وحاجة الناس إليها كثيرة، وقد تكلمت عن هذه المسألة في شرحي للزاد ورأيت أن أفردها بالنشر على موقعي، وقد أسندت تنسيقها للمشرف العلمي على الموقع ، فقام بتوثيق النقولات وتخريج الأحاديث ، كما أنه وقف على بعض النقولات المفيدة فوضعها بين قوسين إتماما للفائدة .
حكم المسألة.
[1] ينظر : العناية شرح الهداية (8 / 427) ، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (2 / 165) ، مغني المحتاج (2/129 ) ، المغني (4 / 367) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3 / 162) ، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2 / 11) .
[2] المصنف(8 / 72) وصححه ابن القيم في إغاثة اللهفان (2 / 12)
[3] الموطأ (4 / 970) .
[4] ( ينظر : بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3 / 162) .
[5] الموطأ مالك (4 / 971).
[6] ينظر : المغني (4 / 367) ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3 / 162) ، الفروع وتصحيح الفروع (6 / 423)، الاختيارات الفقهية (ص: 478) ، إعلام الموقعين عن رب العالمين (3 / 278) ، إغاثة اللهفان (2 / 12) .
[7] رواه الحاكم في المستدرك (2 / 61) والدارقطني في السنن (3 / 465) وضعفه البيهقي في السنن الكبرى (6 / 46) ، والذهبي ، وابن كثير كما في البداية والنهاية ط هجر (5 / 537) ، لكن صححه ابن القيم كما في إغاثة اللهفان (2 / 13) .
[8] المصنف (8 / 72) .
[9] ينظر: المغني لابن قدامة (4 / 367)
[10] ينظر : إعلام الموقعين عن رب العالمين (3 / 278) ، إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2 / 13) .
[11] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2 / 13) .
[12] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2 / 13) .
[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3 / 278)
[14] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2 / 13، 14)