عولمة التخنث
1 جمادى الثانية 1434
حميد بن خبيش

يبدو أن لا حد للعلمنة في سعيها الحثيث لتدمير الجهاز المناعي للأمة الإسلامية , و شل قدرتها على النهوض و البناء . ولعل من أخطر تجليات هذا السعي هو الإصرار الغريب على تجفيف منابع الرجولة , والزج بالشباب المسلم في متاهة التخنث المدعوم بترسانة إعلامية و دعائية غير مسبوقة . فلم يعد الأمر وقفا على زي فاضح أو تسريحة شعر منفرة , بل تطور إلى المناداة بانتزاع إقرار اجتماعي بحرية تحطيم الذكورة , و تحميلها وزر تردي العلاقات الإنسانية !

يورد ابن منظور في "لسان العرب" تعريفا للمخنث يحيل على الضعف و الرخاوة :
- تخنث الرجل أي سقط من الضعف , و الخَنِث هو المسترخي المتثني , أما الخنثى فالذي لا يخلص لذكر و لا أنثى . و في الحديث الشريف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال , والمترجلات من النساء, وقال:أخرجوهم من بيوتكم (1). أما الفقهاء فقد خصوا باللعنة كل من يُظهر الميل إلى التشبه بالنساء في حديثه و هيئته لغرض آثم يُشيع الفاحشة . فاستثنوا بذلك المخنث بالخِلقة , وهو الذي يغلب عليه اللين في كلامه و التكسر في خلقته دون أن يكون مراده الإتيان بفعل فاحش .

وقد فطن ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إلى أحد أهم دواعي التخنث و تلاشي مقومات الرجولة في أمة من الأمم , من خلال حديثه عن ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب في زيه ونحلته وسائرعاداته . حيث عزاه إلى كون النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها و انقادت إليه , لذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه و سلاحه في اتخاذها و أشكالها , بل وفي سائر أحواله (2). وهو ما تنبه إليه في وقت سابق الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه , رغم أن كفة المسلمين هي الراجحة آنذاك ! فكتب إلى بعض عماله العرب ببلاد العجم " إياكم و التنعم بزي العجم , و عليكم بالشمس فإنها حمام العرب , وتمعددوا و اخشوشنوا و اخشوشبوا و اخلولقوا , و أعطوا الركب أسنتها , وانزوا نزوا و ارموا الأغراض " (3) .

لم تكن بلاد المسلمين سوقا رائجة للتخنث كما هي عليه اليوم . حيث توزعت ردود الفعل بين النفي و الإبعاد بموجب قرار رسمي يصدره الخليفة أو الوالي , و بين السخرية و التندر ممن تنازلوا طوعا عن رجولتهم , حتى أنشد أحدهم قائلا :

وما عجبي أن النساء ترجلت و لكن تأنيث الرجال عجيب

بيد أن ما يحدث اليوم يُحيل بشكل مؤلم على أسوأ آثار الهزيمة النفسية, ممثلا في الإذعان لحتميات زائفة رسخها الإعلام الغربي في عقول النشء مفادها : أن لا سبيل لردم الفجوة الحضارية إلا باعتماده مرجعا على مستوى القيم والتصورات و السلوك ,حتى في أشدها انحلالا و تفسخا . لذا لا نستغرب حرص ترسانته الإعلامية و الدعائية على التسويق لصورة الإنسان "الحداثي" كما يرتضيها : إنسان يُسخر حريته التي هي أعظم القيم , لخدمة أغراض سفلية كالعري و التخنث و تحطيم الأطر المنظمة للوجود الإنساني .

في سياق جرده لآليات علمنة الإنسان من الداخل يرصد الدكتور عبد الوهاب المسيري أمثلة عديدة لما أسميناه عولمة التخنث . ولعل أخطرها هو إعادة تعريف الإنسان في ضوء رغباته الاقتصادية و الجسدية . فهو كائن متحد بالسلعة , باحث أزلي عن المتعة و المنفعة , لا يكتسب هويته من انتمائه الوطني أو مواقفه الأخلاقية و إنما من نمطه الاستهلاكي.
وهو إنسان صيغت له أحلام ورغبات لا تمت بصلة لعالمه الداخلي , فاستبطنها دون أية مقاومة تُذكر , ليصبح شخصية نمطية يسهل التنبؤ بسلوكها , كما يسهل توظيفها في قطاع اللذة المدر لربح وفير !

بل إن التعبير عن العلمنة سيبلغ مداه على مستوى اللباس من خلال ما يُسمى ب"أزياء الجنس الواحد" , والتي تقوم على مبدأ تحييد الجنس تماما بحيث يرتدي النساء و الرجال زيا واحدا ! (4)

إن ما تصبو إليه عولمة التخنث هو التطبيع مع الفوضى الجنسية , و استبعاد ما هو أخلاقي من دائرة العلاقات الإنسانية . ولعل المتتبع لنوعية القضايا و الملفات التي تتبناها موجة الحقوق و الحريات الجديدة , يدرك البعد التدميري الذي اكتسبه مفهوم الحرية الشخصية , و كيف أن هذه الأخيرة باتت أكثر التصاقا بالتمرد على الإطار الديني و القيمي الموجه للسلوك الإنساني .
وإذا كان التاريخ يشهد بوثوق الصلة بين تفتيت العلاقات الإنسانية و أفول الأمم , فإن الواجب يقتضي استنهاض الهمم , وصيانة مقومات الرجولة في أمة البعث و الشهود الحضاري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) : رواه البخاري
(2) : عبد الرحمن بن خلدون : المقدمة ج1 . تحقيق عبد السلام الشدادي . الدارالبيضاء. 2005. ص 242
(3) : البغوي عن أبي عثمان النهدي
(4) : د.عبد الوهاب المسيري : العلمانية الجزئية و الشاملة ج2 . دار الشروق .2002 . ص 135 و 155