القانون الدولي عند فقهاء المسلمين
5 جمادى الثانية 1434
د. نايف بن جمعان الجريدان

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن مما يميز الشريعة الإسلامية أنها ذات طابع عالمي، واشتمالها على أصول ومبادئ متكاملة تحكم علاقة الإنسان، وأرسلت القواعد المختلفة، سواء فيما يتعلق بالمعاملات أم العقود، أو فيما يتعلق بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، ووضع فقهاء الشريعة لذلك النظريات، وأسسوا لها القواعد، فما زالوا يبحثون ويصنفون مستهدين بنصوص الكتاب والسنة، وبهدي سلف هذه الأمة، تحت أبواب واسعة في كتب الفقه.

 

وعند النظر والتحقيق والبحث العلمي المبني على العدل والإنصاف نجد أنه لا يمكن لأي دارس للقانون بفروعه المختلفة أن ينكر أو يتجاهل الأثر الكبير للشريعة الإسلامية، في إنشاء وتطوير قواعد القانون، ووضع العديد من أسسه ومبادئه، مما لا يزال العمل به ساريا في المجتمع الدولي حتى الآن. وإذا كانت العديد من الدراسات القانونية وخاصة الغربية منها تتجاهل هذا الدور وتعتبر أن القانون الدولي هو قانون أوروبي مسيحي بالدرجة الأولى فإن هذا يعد إنكارا للتاريخ وخيانة للأمانة العلمية.

 

فقد جاء الإسلام بالعديد من القواعد والأحكام التي تعد أسسا للقانون الدولي ومنها: العدل والمساواة بين الشعوب، وتحريم العدوان، وتفضيل السلم على الحرب ما أمكن ذلك، والجهاد في سبيل الله لكفالة الحرية الدينية، ولرد العدوان ولنصرة المظلوم، وتقييد الحرب بقواعد إنسانية، ومنح الأمان للمتحاربين، والرأفة بالأسير، والوفاء بالعهد(1).

 

ورأينا أن الفقهاء اجتهدوا في استخراج الأحكام التي تنظم تلك العلاقات، واتخذ البحث فيها اسما علميا هو (السِير) (2). ونجد أن اتخاذ هذا المصطلح للدلالة على نظرية الحرب والسلم، أو ما يسمى بالقانون الدولي، كان منذ عهد الإمام أبي حنيفة –رحمه الله-، فقد برز علماء ألَّفوا وصنفوا فيه، منهم: الإمام محمد بن الحسن الشيباني، الذي تتلمذ بدوره على شيخين هما: الإمام أبي حنيفة، والإمام أبو يوسف، وقد كان الشيباني أول من دوَّن الفقه بشكل منظم، وله العديد من المؤلفات أشهرها فيما يتعلق بالعلاقات بين الأمم كتاب: (السير الكبير)، الذي ألَّفه في القرن التاسع الميلادي، وقد برز آخرون في قرون لاحقة، وأشهرهم: علي بن محمد الماوردي، والذي قدَّم دراسة حول القانون العام بقسميه الداخلي والخارجي في القرن العاشر الميلادي(3).

 

وصارت كلمة (السِير) مصطلحا فنيا يشيع استعماله بين الفقهاء في مختلف العصور، وقد نص السرخسي على هذا الفهم، فقال في المبسوط: "اعلم أن السير جمع سيرة، وبه سُمي هذا الكتاب؛ لأنه بين فيه سيرة المسلمين في المعاملة مع المشركين من أهل الحرب ومع أهل العهد منهم من المستأمنين وأهل الذمة، ومع المرتدين الذين هم أخبث الكفار بالإنكار بعد الإقرار، ومع أهل البغي الذين حالهم دون حال المشركين وإن كانوا جاهلين وفي التأويل مبطلين"(4)

 

وقال الزيعلي الحنفي: " السير جمع سيرة، وأصل السيرة حالة السير، إلا أنها غلبت على أمور المغازي، وما يتعلق بها ، كالمناسك على أمر الحج"(5).

 

وحين النظر إلى مساهمات الشريعة الإسلامية في إنشاء وتطور القانون، نجد أن الشريعة الإسلامية قد حدَّت من استعمال القوة لتسوية المنازعات وحظرت فعل العدوان وحرمته، وبيَّنت بنصوص واضحة وقاطعة حدود استخدام القوة وشروطها وضوابطها، وهي النظرية التي تبناها القانون الدولي واعترف بها.

 

فمن النصوص التي نصت على تحريم العدوان وأن استخدام القوة لا يكون إلا لرد العدوان والدفاع على النفس والعقيدة قوله تعالى:   وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ  [البقرة: 190]. وقوله سبحانه:   أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  [الحج 39-40].

 

بل إنها جاءت بوضع القيود والضمانات في حال السماح باستخدام القوة كوجوب حسن معاملة الأسرى، كما قال تعالى:   يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  [الأنفال:70].

 

  وجاءت بالإنذار المسبق للعدو قبل بدء الحرب، كما في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أرسله لليمن، فقال: "لا تقاتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلًا، ثم أروهم ذلك، وتولوا لهم: هل إلى خير من هذا من سبيل، فلأن يهدي الله على يديك رجلًا واحدًا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت"(6)

 

وهكذا نجد أن الإسلام وضع نظرية متكاملة لاستخدام القوة في العلاقات الدولية، فكان لها أكبر الأثر في الكثير من المبادئ التي تبناها القانون الدولي فيما بعد، كشروط استخدام القوة، وحدودها، والضمانات الكفيلة بحماية الإنسان، والأعيان المدنية خلال تلك المنازعات، ولو نظرنا إلى الأساس الذي تقوم عليه قواعد القانون الدولي والتي تكمن في قاعدة الوفاء بالعهود، لوجدنا أن هذا الأساس من المبادئ الرئيسة التي قام عليها الدين الإسلامي. ولقد تمسك به المسلمون في علاقاتهم بالشعوب غير الإسلامية خاصة، وأن هذه القاعدة قد ظهرت مع ظهور الدين الإسلامي في القرن السابع الميلادي، أي: قبل الميلادي الحقيقي للقانون الدولي بتسعة قرون حيث  إن الرأي الراجح يرجح ظهور القانون الدولي إلى القرن السادس عشر الميلادي.

 

 

ـــــــــــــــــــــــ
(1)   انظر: مبادئ القانون الدولي العام، إحسان هندي، دار الفكر العربي، 1983م، ص (28).
(2)   جمع سيرة، وهي تعني السيرة والسلوك، ولكن غلب هذا الاسم في ألسنة الفقهاء على المغازي، ينظر: لتعريفات، لعلي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الناشر: دار الكتاب العربي ببيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ، (1/122).
(3)   السير والقانون الدولي، أ.د. عبد الواحد الزنداني، مشورات الجامعة اليمنية، صنعاء، د.ط، 2010م، ص (14). بتصرف,
(4)   المبسوط، لشمس الدين محمد بن أبي سهل السرخسي، الناشر: دار المعرفة، لبنان، بيروت،الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م (10/2).
(5)   تبين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي الحنفي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى، عام 1313هـ ، (3/240).
(6)   ذكره السرخسي في المبسوط (10/31). ولم يروه أحد من أئمة الحديث بهذا اللفظ. –فيما وقفت عليه-.