7 شعبان 1435

السؤال

أنا فتاة أبلغ من العمر 25 عامًا، مطلقة بدون أطفال، تزوجت وهربت من طليقي بعد شهر واحد كالخدم، وبعد معاناة وظلم بالمحاكم وإهانات وشتم وقذف، حصلت على ورقة طلاقي، أصبح أبي يعايرني بطلاقي، ويعاير أمي وإخوتي بطلاقي، ويشتمنا بالرغم من أنه وقف بجانبي، وبرغبة منه.وكان دائما يجرحني ويهينني بكلمات لا رحمة فيها، وأنا لا ذنب لي، لم أر في طفولتي سوى البؤس والحرمان، أرى أمي تُضرب وتُهان وتُجذب مع شعرها، وينزف دمُها، ويضربنا بأقوى أساليب الضرب، وضعت أملي في الزواج، ولكن الحمد لله على كل حال.. الآن توظفت وأصبح لي مرتب، ليس كله لي، ولكن على الأقل أصبحت أستطيع أن أعطي أمي مخصصًا شهريًا دون أن تحتاج إلى أحد.
الحمد لله تقدم لخطبتي رجل متزوج أحببته كثيرًا، لكن أبي رفض بحجة أنه متزوج ويريد نقودي، قال لي: ماذا يريد منك؟، هو لا يعرف جميلة أو قبيحة، إنه يريد نقودك وراتبك، لايعرف عنك إلا الوظيفة، هنا أقفلت في وجهي أبواب الدنيا، لماذا يا أبي؟!، لا تقف في وجه سعادتي، أنا مطلقة والعمر يجري، لكنه رفض وأهانني، وتكلم عليّ بأبشع الألفاظ، بكيت ورجوتهم أأأن يرحموني، لكن لا منقذ إلا الله.
أصبحت الآن أخاف، كل ما أخشاه أصبح واقعيالا محالة، لن يسعى أبي في تزويجي، والستر عليّ، قالها لي: وظيفتك تغنيك عن الزوج والأولاد.. لا لن تغنيني، أريد الراحة والاستقرار، أصبحت أحسد الناس على أشياء لا أملكها، أصبحت أبكي ليل نهار، لا أرى إلا السواد، لأنه حُكِمَ عليّ بالعذاب والسجن، فلا زواج ولا أولاد.
فرحت بالوظيفة ولم أكن أعلم أنها ستفتح لي باب الشقاء، لم أكن أتوقع أن ما سمعته من قصص غيري سيصبح يومًا ما واقعي أنا، ماذا أفعل؟، النار تشتعل في قلبي من كل جهة، الهم والحزن يطاردني، أصبحت مكسورة حزينة، يرى الناس الانكسار والجرح من عيني، نسي أبي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع.. مالها وجمالها وحسبها ودينها).
لم يعد أملي بالحياة، أريد أن أتخلص من لقب مطلقة، أخواتي متزوجات لكنهن غير مستقرات، كل يوم أضع يدي على قلبي، خوفًا من أن تُطلق إحداهن، أختي التي تكبرني لم تتزوج، لم يطرق أحدٌ بابنا، لا أحد يريد الاقتران بنا بسبب أبي، لا ذنب لنا، والله إني لا أرغب في الزواج وحسب، ولكنني أريد أن تتغير حياتي كلها، أرى أمي سعيدة لا تبكي.
أخواتي مستقرات، ليس لدي إخوة ذكور يقفون في وجه أبي، تعبت، حياتي بائسة، لم أنس هذا الرجل، حياتي وآمالي علقتها به، لم يرغب فيَّ أحدٌ سواه، ماذا أفعل؟، فقدت كل شيء، أتألم، وأموت في اليوم ألف مرة، كنت أحافظ على صلاة الوتر، لم أعد أصليَّها، فقدت الرغبة في الحياة، أتمنى الموت، وأفكر أن أقتل نفسي، لم يعد لي أمل في الحياة، أستغفر الله، لم أكمل طريقي مع الله، دائمًا أقف في منتصف الطريق. أرجوكم ساعدوني ولو بدعوة صادقة.

أجاب عنها:
همام عبدالمعبود

الجواب

أختنا الفضلى:
السلام عليكِ ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بكِ، وشكر اللهُ لكِ ثقتكِ بإخوانِكِ في موقع (المسلم)، ونسأل الله (عز وجل) أن يجعلنا أهلا لهذه الثقة، آمين.. ثم أما بعد:
قرأت رسالتك – رغم طولها- ثلاث مرات، وقد احتوت على عدد من المحاور الأساسية، وهي: سعادتك بالحصول على حكم بالطلاق من زوجك، حديثك المؤسف عن والدك ومواقفه منك، فرحك بالحصول على وظيفة لتنفقي منها على أمك، حكاية الرجل المتزوج الذي يرغب في الزواج منك، وموقف والدك الرافض له، وأخيرًا الحالة النفسية السيئة التي وصلتِ إليها، والتي وصلت إلى حد اليأس من الحياة وتمني الموت. وأستعين بالله تعالى، وألخص لكِ ردي على استشارتك في النقاط التالية:
1) شرع الله الزواج للاستقرار، وبناء الأسرة، التي هي اللبنة الأولى في المجتمع المسلم، ومن رحمته سبحانه أن جعل الطلاق حلاً لمشكلة لا حل آخر لها، غير أن الطلاق صار في مجتمعاتنا مشكلة بلا حل. وبدون الخوض في تفاصيل لم تذكريها في رسالتك، فإنني أقول لكِ: احمدي الله أن حررك من زواج لم تجدي فيه الراحة ولا السعادة ولا الاستقرار الذي تنشده كل فتاة، كما أنصحك بنسيان هذه المرحلة بما فيها، والخروج منها فقط بالدروس والعبر المستفادة التي يمكن أن تفيدك في أية تجربة لاحقة.
2) أمرنا الله ببر الوالدين والإحسان إليهما، وإن أساءا إلينا، وإن أمرانا بالكفر، قال تعالى في محكم التنزيل: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا...) [لقمان/ 14- 15]. وأود أن أؤكد لكِ ابنتي أنه لا يوجد في هذا الكون كله أحدٌ يحب لكِ الخير والسعادة أكثر من أبيك وأمك، هذه حقيقة مسلمة، وأصل يجب التأكيد عليه، غير أنه لكل قاعدة شواذ، وكما أن هناك أبناء وبنات يعقون آباءهم وأمهاتهم، فإن الحياة علمتنا أن هناك آباء وأمهات يعقون أبناءهم وبناتهم، وأن للعقوق صوراً كثيرة، ومعانٍ متعددة، لكنني في كل الأحوال أوصيك بالصبر على أبيكِ، والبحث عن طريق لتفهيمه وتوضيح الأمر له، كاللجوء – بعد الله- إلى صديق صالح، أو جارٍ مخلص، أو قريب محترم، أو زميل محبوب، ليتوسط بينك وبين أبيك، لإصلاح ما أفسدته الأيام والليالي.
3) لعل الله أكرمك بالحصول على وظيفة في هذه الفترة الصعبة من حياتك ليسري بها عنك، ويخرجك من دائرة الهم وضيق الصدر، فاشكري الله عليها، وتمسكي بها ما دامت لا تخالف الشرع، ولا تصادم الطبيعة الفسيولوجية للمرأة، التي فطرها الله عليها. وقد أحسنت بالإنفاق على والدتك ورعايتها، فهذا دليل على أن البر طبع غالب على سلوكك، وهو ما يجعلني أؤكد عليك مجددًا بألا تتمادي في معاملتك السيئة لوالدك، ولو كانت كرد فعل على مواقفه، فإن هذا هو أول مدارج العقوق، أعاذنا الله وإياكِ من العقوق وسوء عاقبته في الدنيا والآخرة.
4) أما بخصوص الرجل المتزوج الذي يرغب في الزواج منك، فاعلمي– فقهك الله بدينكِ - أن الزواج بأخرى أمر أباحته الشريعة الإسلامية، وهو ليس جريمة كما يحاول البعض أن يصوره، غير أنني أنصحك بعدم التعجل، والاستفادة من تجربتك السابقة، وأن تأخذي الفرصة الكاملة، والوقت الكافي لدراسة الأمر من كل جوانبه، وأن تكوني صريحة مع نفسك، وأن تحددي بوضوح وشفافية المزايا والعيوب، وأن تستفيدي من أسباب الرفض التي يقدمها لكِ أبوكِ، فتعيدي النظر في الموضوع، وتدرسي أبعاده، ثم تستشيرين من تثقين في دينها وخبرتها ورجاحة عقلها من أخواتك أو جيرانك أو أرحامك، ثم تستخيرين الله عز وجل، ثم تتوكلين على الله وتمضين ما يرتاح إليه قلبك لا عواطفك، وعقلك لا رغبتك.
5) أحذرك من حالة الضعف التي بدت عليكِ من خلالك رسالتك، فإياكِ أن تضعفي أمام شيطانك، كوني قوية بإيمانك بالله عز وجل، استعيني بالله، وأحرصي على أداء الصلاة في أوقاتها، وأكثري من مطالعة والاستماع إلى القرآن الكريم، واجعلي لسانكِ رطبًا بذكر الله، وداومي على الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وابتعدي عن اليأس فإنه أخو الكفر، قال تعالى: (... وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف/ 87]. وفي السنة الصحيحة عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال: "لا يتمنى أحدكم الموت؛ إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يَسْتَعْتِبُ". مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وهذا لفظ البخاري. وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رَضِيّ اللَّه عَنْهُ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال: "لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه؛ إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً". وعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال، قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه. فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً ليصمت". متفق عَلَيهِ.
وختامًا؛ نسأل الله (عز وجل) أن يجعل في كلامنا الأثر، وأن ينفعكِ بما قرأتِ، وأن يهد قلب أبيكِ إلى الحق، وأن يوفقكِ إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة، وأن يرزقك الرأي السديد، وأن يصرف عنكِ كيد الشيطان ومكره.. اللهم آمين.. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.