رمضان في تونس بعد الثورة.. حرية أهم مكسب
14 رمضان 1434
عبد الباقي خليفة

المال عموما قوام الأعمال، ولا يستقيم زرع الآخرة على مستوى الدنيا ( المشروع الحضاري ) بدونه،

يختلف رمضان في تونس بعد الثورة عن غيره من الأعوام فلأول مرة يشعر التونسيون بالحرية في أداء عباداتهم دون وصفات جاهزة، ودون مصادرة لحق الاختلاف حتى أن البعض اخترع اسم ( الإسلام التونسي ) في الحقبة الديكتاتورية التي امتدت لأكثر من 50 سنة وكانت امتدادا لعهد الاحتلال. وسمى آخرون ذلك التنميط المريب وعملية اختطاف الدين وتمييعه وتطويعه ( المقاربة التونسية ) ولم يكن ذلك سوى فلسفة للاستبداد والبحث له عن مشروعية مزيفة تحت أسماء منمقة . فمنذ 1881 م ( بداية الإحتلال الفرنسي البغيض للبلاد ) وتونس في نكد مركب بسبب التدخل المباشر في عقائد الناس وسلوكياتهم تحت لافتة العلمانية أواللائكية. وهي علمانية أولائكية متطرفة بشهادة الكثير من الفرنسيين، وقد أخذ عنها بورقيبة ( المخلوع الأول) ثم المخلوع الثاني تطرفها لا سيما في محاربة الإسلام، حيث خف النقد والضغط على النصرانية منذ اعلان نابليون بونابرت (1769 – 1821م) نفسه امبراطورا على فرنسا وخاض مغامراته في أوربا ثم في البلاد الإسلامية وتحديدا مصر، التي حمل إليها مطبعة لنشر الثقافة الفرنسية وفي صلبها التنصير، وليس التحديث كما يرهف البعض. وقد رأينا ذلك بجلاء في الجزائر حيث كانت قوات الإحتلال الفرنسية ( العلمانية، اللائكية ) تحول المساجد إلى كنائس رغما عن أهلها، كما فعل الإسبان ( الكاثوليك المتعصبون ) بعد سقوط الأندلس.

 

أجواء الحرية في الشارع: يتوجه التونسيون إلى المساجد في رمضان بعد الثورة دون خوف من الإيقاف في الشوارع وعلى أبواب المساجد التي تمت عسكرتها على مدى يزيد عن نصف قرن، فيسأل المصلون ولا سيما الشباب وبالأخص الملتحون عن هوياتهم، بينما كانت الكثيرات من المحجبات يقضين فترة صلاة التراويح في أقسام الشرطة للتوقيع على تعهدات بعدم ارتداء الحجاب، وكثيرا ما يتم إشراك الأسرة في ذلك الإضطهاد لأن المرأة لم تكن تتمتع بالحق في اختيار نوع الحرية التي تؤمن بها. وهي قاصر ويجب أن تخضع للهمينة والوصاية إذا اختارت الإسلام والالتزام بدينها الحنيف.

 

لقد خلت من شوارع تونس وطرقها عمليات الاضطهاد الممنهج، والذي يصل إلى انزال الركاب من الحافلات والسيارات ونقلهم إلى مراكز الشرطة إذا كان على ملامحهم سيماء التدين. ويتدخل في حريتهم الشخصية فيسألون عن اللحية وعن الحجاب وعن طريقة اللباس وحتى نمط التفكير. وبدا ذلك اليوم من مخلفات الماضي الأليم، وممارسات هي في الأساس محاولة لإشغال الرأي العام بمسائل أبعد ما تكون عن القضايا الأساسية التي يجب أن تشغل الحكومات والرأي العام وهي عمليات البناء والتشييد والتنمية والعدالة والحرية والتنافس في نفع البلاد والعباد. 

 

وكانت محاولات بائسة، حيث يشهد التاريخ أن الإضطهاد لم يقض على دعوة أبدا، بل كان ذلك ايذانا بصعودها ونصرها.

 

أجواء الحرية في المساجد: لم تنعم المساجد بالحرية طيلة 5 عقود أوتزيد، وفي رمضان بعد الثورة، تمتلئ المساجد في تونس بالمصلين، وينشط الدعاة دون خوف من النظام الاستبدادي البائد. ودون خوف من المنع والاعتقال، وأذكر أنه في نهاية الثمانينات وبعد خروجي من السجن وصلني تهديد مباشر بأني سأعاد إلى السجن إذا واصلت الدروس المسجدية، كما وصلني استدعاء إلى مقر الشرطة، ولكن بدل الذهاب إليهم توجهت إلى المطارولم أعد سوى في 1991 م ثم ما لبثت أن تركت تونس وعندما قدموا لاعتقالي كنت قد غادرت البلاد ولم أعد إليها سوى بعد الثورة. لقد ساهم العائدون من الخارج في عمليات التوعية وتبصير الناس بأمور دينهم بقطع النظر عن تخصصاتهم فمنهم الطبيب ومنهم المهندس ومنهم الاستاذ الجامعي ومنهم الاعلامي. كما تنفس من ظلوا واقفين على الجمر الصعداء واستأنفوا نشاطهم داخل المساجد، ولا يخل مسجد من داعية يعلم الناس دينهم طيلة شهر رمضان المبارك.

 

 تغيرت ملامح كثيرة في أول رمضان في تونس بعد الثورة، ولا سيما داخل المساجد التي عادت إليها الروح، واستؤنفت فيها الدروس الرمضانية وغيرها، كما تواصلت فيها حلقات تحفيظ القرآن للكبار والصغار. وأصبحنا نرى ونسمع عن معسكرات لحفظ سورة البقرة، وأجزاء من القرآن الكريم، في إطار سعي دؤوب لحفظ القرآن الكريم كله. وما كان ذلك يتسنى لولا فضل الله تعالى ثم الثورة التونسية التي فتحت آفاق التغيير في البلاد العربية، وأصبح الحلم حقيقة، أو فتح المجال للادراك بأن الحلم يمكن أن يصبح حقيقة.

 

أجواء رمضان في وسائل الاعلام: رغم أن وسائل الإعلام في مجملها لم تتطهر كليا من رجزالماضي، ومن محاولات ربط رمضان بالفوازير والمسلسلات والحفلات والسهرات، إلا أن هناك تغييرات واضحة، ومن بينها ظهور مشايخ ملتحين على القنوات، وكان ذلك ضربا من المستحيل قبل الثورة، وبعض المشايخ أطلق لحيته بعد الثورة. كما شاهدنا على  القنوات مثقفون وسياسيون ودعاة يلقون دروسا رمضانية بعد الإفطار مباشرة، وقد أثار ذلك حفيظة الحرس القديم فأصدروا بيانا يدينون فيه ( خلط الدين بالسياسة) ونسي الأشقياء أن الدين والسياسة لم يتفرقا أبدا ولم يترك أحدهما الآخر حتى في أحلك الخصومات المفتعلة في التاريخ بينهما بما في ذلك الثورة الفرنسية التي اختلقت دينها الخاص بها( عبادة العقل) .

 

ولا تخلو وسيلة اعلام ولاسيما الاعلام المرئي على علاته من برنامج ديني، كما تم تفعيل إذاعة الزيتونة التي أصبحت أكثر فعالية بعد الثورة، ولا سيما في رمضان المبارك. إضافة لباقة من القنوات المحافظة ، والملتزمة وكثيرا ما تستضيف علماء من" الجمعية التونسية للعولم الشرعية" وهي جمعية فتية تأسست بعد الثورة لمواجهة حالة " التصحر الديني" التي خلفتها سنوات القحط الثقافي بفعل مشروع تجفيف الينابيع الذي اضطلع به بورقيبة وخلفه المخلوع على مدى يزيد عن نصف قرن، كانت صورة كربونية أكثر بشاعة من السياسات الاستدمارية الفرنسية في تونس.

 

 الأسواق والناس بعد الثورة: تعلم الناس من نفور الطيور من الطعام إذا أحست بخطر الأسر أن " الحرية قبل الخبز" ولكن أول ما تطلبه المخلوقات بعد الحرية هوالخبز. والإنسان لا يعيش بالخبز وحده كما نقل عن المسيح عليه وعلى نبينا السلام، ولكنه لا يستطيع العيش بدون خبز. لذلك كان الاسلام وسطا بين روحانية زائفة ومادية مقرفة فنفي البشري أو التمحور حول المادة ليس هو الأسلوب الطبيعي إذ أن الانسان روح ومادة وما جاوز الحد انقلب إلى الضد. وكانت تلك قصة اليهودية والنصرانية المحرفتين.
بعد الثورة شعر التجار الذين كانوا يتعرضون للابتزاز بالحرية، فلم تعد تسلط عليهم المخالفات المجحفة، ولكن بعضهم لم يستشعر نعمة الثورة فظلوا في طغيانهم يعمهون.

 

في  رمضان بعد الثورة لم نشهد أزمات مفتعلة كافتقاد البطاطس على سبيل المثال أوغيرها من الخضر والغلال كما كان الحال سابقا، رغم ضغط الحاجة لدى الإخوة الليبيين الذين يتزودون بحاجياتهم من المواد الغذائية من تونس. لكن الفقر لم يتغير وزادته حالة الانفلات على عدة مستويات ولا سيما السياسية منها ضرواة. إضافة لهروب الكثير من رؤس الأموال الأجانب الذين استغلوا العمال طويلا وكانوا يعاملونهم كالرقيق وعندما طالب العمال ببعض حقوقهم بعد زوال الديكتاتورية التي كرست المهانة على كافة المستويات هددوهم باغلاق المصانع أو أغلقوها فعلا وفروا في جنح الظلام . ويتساءل المرء عن غياب المؤسسات الخيرية الإسلامية عن الساحة التونسية سواء للمساعدة في توفير الحاجيات للطبقات الفقيرة حيث تبلغ نسبة الفقر المطلق في تونس 11 في المائة، ( حسب الاحصائيات الرسمية) وهناك احصائيات  تحدد نسبة الفقر في تونس ب 24،5 في المائة، وعتبة الفقرالمدقع تصل إلى 5،3 في المائة. ويعشش الفقر في البيآت الريفية، أكثر منه في المدينة، أي عكس ما كان سائدا في زمن مضى. كذلك توجد الكثير من الأسر الليبية التي تشارك التونسيين فقرهم وخصاصتهم، فهم شعب واحد في دولتين كما يقولون .

 

كما يتساءل كثيرون عن غياب مؤسسات التمويل الإسلامي للمشاريع الانتاجية الربحية سواء في قطاع الصناعة أوالزراعة . وبما أن أهم ما يوجد في الريف هو الزراعة ، فلا بد من أن تساهم الزراعة في توفير اليد العاملة والعيش الكريم لسكان الأرياف، وتساهم بالتالي في التخفيض من نسبة الفقر وزيادة المساهمة في تحسين الإقتصاد بالبلاد.فالفقر يكاد يكون كفرا كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

 

إن الاسلام الذي جاء بالصلاة وقيام الليل والحج والذكر والاخلاق الحميدة والكلمة الطيبة جاء بالزكاة والصدقة والهبات أيضا، فالزكاة والصدقة والمال عموما قوام الأعمال، ولا يستقيم زرع الآخرة ، على مستوى الدنيا ( المشروع الحضاري ) بدونه، فيا لها من حرية، لوكان لها تمويل .