العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية
26 رمضان 1434
د. علي الصلابي

إن المصالحة الوطنية بين أبناء الشعب الليبي ضرورة دينية، وإنسانية، وحضارية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية، ونفسية، لا يستغنى عنها ليبي ولا ليبية؛ من أجل تأكيد التلاحم بين أبناء الشعب، وترسيخ قواعد الوَحدة الوطنية، وإشاعة أجواء المحبة والانسجام بين مكوناته المختلفة، ولمعالجة الآثار التي تركها النظام الديكتاتوري الاستبدادي، وظروف حرب التحرير من الظلم والجور والانتقام، فيجب على أبناء هذا الشعب -شيبًا وشبابًا، رجالاً ونساءً- السعي الحثيث، والعمل المتواصل الدءوب؛ للوصول إلى الأهداف والمقاصد السامية والقيم الإنسانية الرفيعة التي خرجت من أجلها الشعوب.

فالمصالحة الوطنية ضرورة دينية؛ لأن الله تعالى أمر المسلمين بعد انتهاء الحرب بينهم بالصلح على مبادئ العدل وقيم القسط، وبين سبحانه وتعالى المنهجية التامة والكاملة في القتال بين المسلمين، والمراحل التي يجب علينا أن نلتزم بها، ومن ذلك:

1- قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. (الحجرات: 9،10).

ففي هذه الآية الكريمة بيان للتعاليم الربانية التي يجب على المسلمين الالتزام بها:

فقد أثبت سبحانه وتعالى صفة الإيمان للمسلمين المتقاتلين ولم ينزع عنهم صفة الإيمان بسبب القتال.

وعند اندلاع القتال بين المسلمين أمر الله بالعمل على إيقافه بالسعي للإصلاح، فإن امتنعت إحدى الطائفتين عن الإصلاح وإيقاف القتال أمر الله المسلمين جميعًا بالعمل على قتال الفئة الباغية الظالمة الجائرة حتى ترجع وتنقاد لأحكام الشريعة الإسلامية، فإن رجعت أو انهزمت أمام الطائفة الأخرى فعلى المسلمين أن يجتهدوا في إصلاح ذات البين على أسس العدل وأصول القسط.

وبين سبحانه وتعالى أن الله يحب المقسطين، مرغبًا لنا للوصول إلى محبة الله عز وجل.

والفرق بين العدل والقسط هو: أن القسط عدل مع مراعاة المشاعر والأحاسيس والنفوس للمهزومين والمكلومين والمصابين في هذا القتال، فلا بد في المصالحة الوطنية أن تقوم على: العدل، ومراعاة مشاعر وأحاسيس ونفوس الناس.

ثم بين سبحانه وتعالى أن المؤمنين إخوة، وحرك العواطف الأخوية المتبلدة بسبب الحرب في أعماق النفس البشرية، مذكرًا بمعاني الأخوة الخالدة في عقيدتنا وديننا لكي تتغير النفوس من أعماقها نحو قيم السلم والأمن والتسامح والعفو والصفح، وتتجاوز تبعات مرحلة القتال بالبعد الإيماني الأخوي الذي يتقرب به العبد المؤمن لخالقه جل في علاه.

وأمر المولى عز وجل القيادات المؤثرة في المجتمع وأفراد الشعب بالإصلاح بين الإخوة وإزالة آثار الحرب النفسية والاجتماعية والاقتصادية. وذكرهم بالخوف من الله واتقاء سخطه وعقبه، وذلك بتقواه في الأعمال والأقوال وفي مشاعر الانتقام أو تشوق النفس لقهر وإذلال المغلوب، أو سيطرة الضغائن والأحقاد على المشهد العام بعد انتهاء الحرب؛ لأن هذه التقوى هي الطريق لرحمة الله لهذا الشعب وهذا الوطن المحبب إلينا جميعًا.

2- وبين سبحانه وتعالى في سورة النساء أن حديث الناس وكلامهم لا خير في كثير منه إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الخلق، فقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 114).

فالإصلاح بين الناس من الأعمال الصالحة التي يترتب عليها الأجر العظيم من الخالق الجواد الكريم إذا كان السعي يراد به مرضاة الله ووجهه الكريم ومعنى {بَيْنَ النَّاسِ} أي عموم الناس ولو كان بين يهود ونصارى أو غير ذلك.

فالآية الكريمة تلقي بظلالها على النفس المتعلقة بخالقها لتحقيق هذه العبودية التي نحن في أشد الحاجة إليها في مجتمعنا الجديد بعد الخروج من عقود الظلم والاستبداد والجهل والتخلف.

3- قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. (الأنفال: 1-4).

فقد بين سبحانه وتعالى بأن تقوى الله عز وجل هي القوة الدافعة لإصلاح ذات البين، وأنه من طاعة الله ورسوله، والحرص على ذلك من شعب الإيمان التي يحبها المولى عز وجل.

4- وقد ذكر سبحانه وتعالى بأن الصلح من جنس الخيرية المطلقة التي حث الله عليها عباده، قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 128).

والإصلاح يحتاج إلى عدم التقصي في استيفاء الحقوق بين المتنازعين بترك كل فريق بعضًا من حقه ليجتمعا على كلمة سواء، ولكن طبيعة النفس البشرية شحيحة في التنازل عن حقوقها للوصول للصلح؛ لذلك بين سبحانه وتعالى أن الإحسان وتقوى الله ومراقبته في الصغائر والكبائر وفي السر والعلن؛ كفيلة بالتغلب على شح النفوس المانعة من المصالحة، قال تعالى: {وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 128).

5- قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء: 35).

وهذه الآية تتحدث في الخلافات الزوجية وفي كيفية الإصلاح بين الرجل والمرأة في الأسرة الصغيرة، وبين المولى عز وجل أهمية النية والقصد في تحقيق هدف الحكمين، فكيف إذا كان الإصلاح على مستوى الشعب والأمة؟! فالنوايا مطايا، وحسن القصد والتوجه الذي يراد به وجه الله يعين المصلحين على تحقيق المقصود والمأمول من الوساطة، فهذا المعنى في قوله تعالى: {إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا}.

6- قال تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 36-43).

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} أي: وصل إليهم من أعدائهم {هُمْ يَنتَصِرُونَ} لقوتهم وعزتهم، ولم يكونوا أذلاَّء عاجزين عن الانتصار، فوصفهم بالإيمان والتوكل على الله، واجتناب الكبائر والفواحش (فمع اجتنابها تكفر الصغائر بالأعمال الصالحة)، والانقياد التام، والاستجابة لربهم، وإقامة الصلاة، والإنفاق في وجوه الإحسان، والمشاورة في أمورهم، والقوة، والانتصار على أعدائهم، فهذه خصال الكمال قد جمعوها، ويلزم من قيامها فيهم فِعل ما هو دونها وانتفاء ضدها.

وقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.

ذكر الله مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل، وفضل، وظلم:

فمرتبة العدل: جزاء سيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله.

ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} يجزيه أجرًا عظيمًا وثوابًا كثيرًا، وشرط الله في العفو والإصلاح فيه ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق بالعفو عنه وكانت المصالحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به، وفي جعل أجر العافي على الله مما يهيج على العفو وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه فلْيعفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله فلْيسامِحْهم.

وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}: الذين يجنون على غيرهم ابتداءً، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم.

{إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي: إنما تتوجَّه الحجَّة بالعقوبة الشرعية {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، وهذا شامل للظلم والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، {أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلوب والأبدان بحسب ظلمهم وبغيهم، {وَلَمَن صَبَرَ} على ما يناله من أذى الخلق {وَغَفَرَ} لهم بأن سمح لهم عما يصدر منهم {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي: من الأمور التي حث الله عليها وأكَّدها، وأخبر أنه لا يُلقَّاها إلا أهل الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يوفق لها إلا أولو العزائم والهمم وذوو الألباب والبصائر، فإن ترك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل من أشق شيء عليها، والصبر على الأذى والصفح عنه ومغفرته ومقابلته بالإحسان أشقُّ وأشقُّ، ولكنه يسير على من يسَّره الله عليه، وجاهد نفسه على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك، ثم إذا ذاق العبد حلاوته ووجد آثاره تلقاه برحب الصدر وسعة الخلق والتلذُّذ فيه.

7- وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}. (النحل: 126-128).

يقول الله تعالى مبيحًا للعدل، ونادبًا للفضل والإحسان {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} مَن أساء إليكم بالقول والفعل {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} عن المعاقبة وعفوتم عن جرمهم {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} من الاستيفاء، وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة.

ثم أمر رسوله بالصبر على دعوة الخلق إلى الله، والاستعانة بالله على ذلك، وعدم الاتكال على النفس، فقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ} هو الذي يعينك عليه ويثبتك {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} إذا دعوتهم فلم تَرَ منهم قبولاً لدعوتك، فإن الحزن لا يجدي عليك شيئًا، {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} أي: شدَّة وحرج {مِّمَّا يَمْكُرُونَ}؛ فإن مكرهم عائد إليهم، وأنت من المتقين المحسنين، والله مع المتقين المحسنين بعونه وتوفيقه وتسديده، وهم الذين اتقَوا الكفر والمعاصي، وأحسنوا في عبادة الله بأن عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، والإحسان إلى الخلق ببذل النفع لهم من كل وجه.

وقد تحدث المفسرون كما تحدثت كتب علوم القرآن عن أسباب نزول هذه الآية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} إلى آخر سورة النحل، فذكر جمع من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أعقاب غزوة أحد، وروى الحافظ البزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد فنظر إلى منظر لم يُنظر أوجع للقلب منه، وقد مثَّل المشركون به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد كنتَ وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، واللهِ لولا حزن من بعدك عليك، لسرَّني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع، أما والله لأمثِّلن بسبعين منهم مكانك، فنزلت هذه الآية، فكفَّر رسولُ الله عن يمينه.

وقد ذكر بعض العلماء أن هذه الآيات الثلاث الأخيرة من سورة النحل تكرر نزولها؛ فنزلت يوم أحد، ونزلت عند فتح مكة، والحكمة في تكرير نزولها: شدة الحاجة إلى العمل بمعانيها عند الرغبة في التشفي، وتأكيد دعوة القرآن إلى الصبر.

وهذه الآيات دعوة إلهية إلى الصبر والاحتمال، وهي دستور مفيد للإنسان وللجماعات والأمم، وسواء كان نزولها في غزوة أحد أو عند فتح مكة أو عند حياة المسلمين بمكة قبل الهجرة، فإن معانيها عامة وأوامرها وآدابها مطلوبة للحياة والأفراد.

 

المصدر/ الاسلام اليوم