الرقابة الذاتية أسوأ أنواع الرقابة
29 ذو القعدة 1434
علا محمود سامي

قد يظن البعض لأول وهلة أن الرقابة التي يمكن أن يتم ممارستها ضد العاملين في الحقل الإعلامي: المطبوع أو المرئي أو المسموع أو الالكتروني، أنها تلك الرقابة المفروضة على الإعلاميين من خارج هذا الحقل بفعل أنظمة تضيق بالحريات العامة، ومنها الحريات الإعلامية، غير أنه عند تدبر الأمر يبدو أن للرقابة جوانب عدة، أبرزها الرقابة الذاتية، تلك التي تصبح سيفا مسلطا على رقاب العاملين في هذا الحقل، فيهدرون بذلك مهنيتهم، ويخونون في الوقت نفسه ضمائرهم.

 

هذا الشكل من الرقابة يعد الأخطر من نوعه في مسيرة أنماط الرقابة المختلفة، إذ تجعل الرقابة الذاتية من الإعلامي الخاضع لسلطانها رقيبا على نفسه، بشكل قد يفوق ما يمكن أن يكون مفروضا عليه من الخارج عبر وسائطه المتباينة، الأمر الذي قد يؤدي للعديد من المخاطر الجمة على مهنة الإعلام ذاتها، باعتبار ذلك حقاً أصيلاً للمتلقي، فضلا عن هبوط ضمائر المهنيين أنفسهم الى ضمائر خربة تباع بأثمان بخسة.

 

هذه المخاطر تجعل الإعلامي يقدم لمتلقيه خطابا بعيد عما يدور حوله من حقائق، الأمر الذي يجعل هذا الإعلامي مشاركا فيما يجري من تدليس وتعتيم، بل ويكون فاعلا فيه بشكل واضح وصريح، والأخطر أن يتعايش الإعلامي مع واقعه الزائف هذا ليجعله واقعا طبيعيا – وهو في حقيقته زائف- لمتلقيه، فيصدق عليه القول بأنه يكذب ثم يكذب حتى يصدقه الناس هو وكذبته فينقلها لمتلقيه لتصبح كأنها حقيقة واقعة.

 

وخطورة تأثير مثل هذا التدليس المدفوع بفعل الرقابة الذاتية أن يسود خطابا في أجهزة الإعلام قد يكون تحريضيا ضد المخالفين في الرأي، الأمر الذي تضيع معه مهنية الإعلام ذاتها، فضلا عما يحدثه من مؤثرات قد تؤدي الى استباحة الدماء وشرعنة القتل خارج القانون، علاوة على ما هو أدنى من ذلك بأن يتم اطلاق رصاصات الرحمة على الحق الأصيل للمتلقي في المعرفة، وفي أن تكون أجهزة الإعلام هى الانعكاس الحقيقي والصادق لما يجري في الواقع.

 

وفي هذا السياق، يعرف أن خطورة هذا الشكل من الرقابة الذاتية بأن صاحبها يهدر معايير العمل المهني ذاته، ويفقده أصوله ويجعله فاقدا لأي مواثيق شرف، وهو الأمر الذي يبدو واضحا في كثير من أجهزة ووسائل الإعلام العربية المختلفة، اذ نجدها افتقدت أو تعمدت أن تفقد مواثيق الشرف الإعلامية، للدرجة التي جعلت منها أداة خطيرة في داخل المجتمعات فتعمل على انقسامها، وتسهم في زيادة حدة الاستقطاب بين أبنائها، الأمر الذي تكون له انعكاساته على استقرار المجتمعات والسلم الاجتماعي والأمني داخله.

 

الغريب أن المدافعين عن الحريات والمنادين بمواثيق الشرف الإعلامية لم تشغلهم كثيرا مثل هذه الرقابة الذاتية التي يفرضها الإعلاميون على أنفسهم، ليس هروبا من سيف الرقيب الخارجي ولكن تملقا له، حرصاً على كسب وده وتعزيز زيفه، وتشويه مخالفيه في الرأي، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يصدر عن مثل هؤلاء من دعاة الحريات والحقوق صوت احتجاج حال تعرض أجهزة الإعلام لانتكاسة مهنية أو حقوقية عندما يوجهون سمومهم الى خصومهم، غير أن الأمر يكون مغايرا وعلى النقيض تماما حال تعرضهم هم لانتقادات - وليس تحريضا ضد مناوئيهم كما يفعلون هم- عندها يبكون على الحريات الإعلامية، ويطلقون ضجيجا بلا طحين حول مواثيق الشرف الإعلامية، ويصدرون اتهامات ضد مخالفيهم، دون سند من المهنية أو الواقعية، أو حتى المصداقية، في تناقض واضح للمعايير والمبادئ التي يرفعونها ويزعمون أنهم يؤمنون بها.

 

ولذلك، فقد فضحت حالات التغريب دعاة الحريات الإعلامية، عندما ظهر أن حديثهم الدائم عن الحريات الإعلامية ومهنيتها ما هى إلا أصوات زاعقة وأن خطابهم صار إقصائيا وانتقائيا، لا روح إعلامية أو مهنية فيه، بل تغلب عليه النفعية بالدرجة الأولى، على نحو ما يبدو في العديد من مشاهد الإعلام العربي عندما يجري قلب الحقائق الى أكاذيب، والواقع الى زيف، فيغيب الضمير، وتهدر القيم.

 

ولا أدل على ذلك من بعض النماذج التي تسود أنماطا إعلامية عدة في عالمنا العربي، عندما تتبنى فضائيات خاصة، وأحيانا أجهزة رسمية خطاباً يرسخ الاستعداء بين ألوان الطيف السياسي داخل المجتمع الواحد، فتجعله شعبين وليس شعبا واحدا، أو تطعن في عقيدة الأمة، الى غيرها من خطابات التحريض على القتل والعزل، وإشاعة روح الكراهية داخل المجتمع الواحد، للدرجة التي جعلت هذا اللون من الإعلام يشيطن مخالفيه، بعدما أقحم الإعلام نفسه في أتون الصراع السياسي، وأصبح طرفا أصيلا في معادلته، ما جعله يمارس أسلوبه التحريضي بشكل ممنهج في تغييب واضح لأصول مهنة الإعلام، عندما يستدعي أصحاب المهنة رقابتهم الذاتية لتحل بديلا عن الرقابة الأخرى الخارجية، فيمارس المشتغل بالإعلام دور هذا الرقيب الخارجي، فيهدر ضميره من ناحية، ويفقد مهنيته من ناحية أخرى.