تكميم الأفواه... وَلَّى زمانُه!!
11 محرم 1435
منذر الأسعد

منذ فجر التاريخ الإنساني، كان الطواغيت يخشون من وصول كلمة الحق إلى الناس، ولذلك دأبوا على حجبها وكتمها بكل ما أوتوا من قوة وقسوة ووحشية: بالقتل أو الطرد أو التعذيب.... وحتى رعاعهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم لئلا تصل إليهم رسالة نبيهم...

 

قال الحق تبارك وتعالى في قصة موسى مع فرعون:
{وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف127].

 

وكم طلب نبينا الكريم من رؤوس الشرك في مكة أن يُخَلُّوا بينه وبين الناس، فأبوا لأنهم يدركون أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأن أكثر الناس سوف يستجيبون لها إذا عُرِضَت عليهم عرضاً وافياً، وذلك كما جاء في حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم -كتاب الشروط    » باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط - الرقم: 2583 وفيه أن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (.... إنا لم نَجِئْ لقتالِ أحدٍ، ولكنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِين، وإن قريشًا قد نَهِكَتْهم الحربُ، وأَضَرَّتْ بهم، فإن شاؤُوا مادَدْتُهم مدةً، ويُخَلُّوا بيني وبينَ الناسِ...... الحديث).

 

وبالرغم من عنت الطغاة وظلمهم الشديد، انتشرت الرسالة وظهر الحق وزهق الباطل.. مع أن تكميم الأفواه كان ميسوراً في العصور الخوالي..

 

المشكلة أن طواغيت عصرنا يكررون سيرة أسلافهم بالرغم من الفروق الشاسعة بين أيام الهالكين البائدين في الأزمنة الغابرة، وبين وقتنا الحاضر، حيث أتاحت وسائل التواصل الحديثة لكل راغب أن يبث ما لديه من معلومة أو رأي بالصوت والصورة خلال ثوانٍ، فإذا بها تسري من فورها في أربعة أركان الأرض..

 

انظروا إلى وحشية نيرون الشام لحجب الحقيقة بكل همجية ممكنة، من قتل الإعلاميين وقنص المصورين بجوالاتهم، ومنع دخول رجال الصحافة الأحرار،... وهي ممارسات بائسة سبقه إليها ولكن بقدرات أقل كل من المخلوع مبارك والتالف القذافي، ويحاول رجال السلطة الجديدة في مصر تطبيقها بفشل أكبر من فشل طاغية دمشق، نتيجة اختلاف الظروف والمعطيات، مع أن الرغبة الجامحة لوأد كلمة الحق وطمس الحقيقة هي ذاتها، وكذلك الخطوط العامة لهذه السياسة الفاشلة من إقفال القنوات واستزلام الفضائيات الناعقة بما يشتهيه المسيطرون على مقاليد الأمور..

 

ولعل الإخفاق الأحدث عمراً والأكثر تداولاً في هذه الأيام، هو ما يتعلق بالرئيس المعزول محمد مرسي.. فقد بقي الرجل مغيباً عن الجميع زهاء أربعة شهور، في انتهاك صارخ وفاضح لأبجديات العدالة الشرعية والوضعية!!وعندما قرر الانقلابيون محاكمته اضطروا إلى تلفيق هيئة محكمة غير مختصة أصلاً، مثلما لفقوا له الاتهامات المضحكة...

 

وكان ذعرهم من وصول صوت الرجل الأعزل إلى شعبه مكشوفاً ومثيراً للشفقة، إذ قرروا منع بث الجلسة الأولى لمحاكمته على الهواء، وحصروا تسجيلها بالتلفزيون الرسمي، الذي بث بضع ثوانٍ صوراً بلا صوت البتة!!

 

ثم جاءتهم الصفعة على أيدي محامي مرسي الذين عقدوا مؤتمراً صحفياً نقلوا فيه إلى المصريين، أهم ما أراد مرسي إبلاغه إليهم من تشبثه بمنصبه الذي انتخبه المصريون ليشغله أربع سنوات..

 

فالعاقل المحايد سوف يحكم بحسب ما يراه ويلمسه، حيث تخشى سلطة شرسة تمسك بتلابيب البلاد كلها بقبضة فولاذية، من رجل ليس له حول ولا قوة.. ولو كان في مزاعم هؤلاء ذرة من الصدق عن أن الشعب معهم، فلِمَ لا يتركون مرسي يقول ما يشاء، فالجمهور وفقاً لأكذوبة الإعلام الأحادي ضده وحاقد عليه!!

 

لقد ولى زمن تكميم الأفواه فأضحى نجاحه شبه مستحيل، وأصبح اثره عكسياً، والواثق من قوة حجته يواجه خصومه بعد أن يتيح لهم قول ما لديهم بلا ضغط ولا إكراه، ويترك الحكم للناس الذين صاروا أكثر وعياً وقدرة على المحاكمة السليمة للأقوال والأفعال والتمييز بين صحيحها وسقيمها...