النفوذ المسيحي في دستور الانقلاب!
5 صفر 1435
سليم عزوز

هذا مقال في " المسكوت عنه" في المشهد السياسي المصري!.

فقد حصلت الكنيسة، من هذا الدستور الذي فرغوا منه مؤخراً، على قدر مشاركتها في الانقلاب، ولا يخفي أحد أن حضورها كان طاغياً، ليس فقط في يوم 30 يونيه، ولكن منذ حصار قصر الاتحادية في عهد الرئيس محمد مرسي، وفي هذا اليوم، كان لافتاً أن أشاهد في ميدان التحرير، وأمام الاتحادية، قساوسة، بل ورهباناً الأصل فيهم أنهم اعتزلوا الحياة الدنيا، ورجال الدين ممنوع عليهم كنسياً الاشتغال بالسياسة، وكان مشهداً لا تُخطئ العين دلالته!.

هذا الحضور الكنسي، ضمن مشهد الانقلاب، وحضور شيخ الأزهر أيضاً، كان كاشفاً عن أن الحديث من قبل القوى المدنية، عن "الدولة المدنية" هو كلام للاستهلاك المحلي، فقد ارتضت هذه القوى بهذا الحضور الديني، ووزير الدفاع يلقي بيانه، الذي أوقف فيه العمل بالدستور المستفتى عليه، وعزل رئيس الدولة المنتخب، ثم شاهدنا كيف تمت الاستعانة، بشيوخ الدم، الذين أفتوا بقتل المتظاهرين السلميين، وكيف انتصب مفتي مصر السابق علي جمعة، ليحرض ضباط الجيش بقوله: "اضرب في المليان"، ولم يستثير هذا حمية القوى المدنية، ضد هذا الحضور الديني، وهم الذين أعلنوا حد الملل أن دافعهم لرفض حكومة الإخوان، يأتي في إطار رفضهم للدولة الدينية، ولإقحام الدين في السياسة!.

لا بأس، فقد أثبتت المحنة، أن الدولة المدنية ليست أكثر من شعار يرفعه البعض عندما يكونون في مواجهة جماعات الإسلام السياسي، ثم لا يشغلهم بعد ذلك، وقد تبين للجميع أن الحضور الليبرالي في مصر زائف، وأن الليبرالية ليست أيضا سوى شعار يوظف في المعارك إذا تم الاحتياج إليه!.

 

فالليبراليون في مصر، أيدوا الانقلاب على إرادة الشعب، وحرضوا على القتل، ونددوا بالتظاهر، وساندوا الحكم العسكري، لأن إرادة الشعب اختارت خصومهم، ولان المتظاهرين من القوى الإسلامية، ولأن الحكم العسكري جاء ليسحق الإسلاميين!.

زيف الحضور الليبرالي كان واضحاً في ملفات أخرى، مثل ملف المسيحيات اللاتي سلمن للكنيسة، عندما توارت " الدولة"، فحسني مبارك سمح بتسليم المسيحيات اللاتي أسلمن، للكنيسة، في لحظات اختفى فيه دعاة الدولة المدنية في ظروف غامضة!.

وهو الاختفاء الذي صاحب حضور الكنيسة سياسياً في السابق، والذي تجلى صريحاً في مشهد الانقلاب، وفي مشهد تحريض " الرعايا" على الحضور للمشاركة في فعاليات إسقاط الرئيس المنتخب، ومن حصار الاتحادية، الى المشاركة في تظاهرات 30 يونيه!.

 

نعلم، أن الكنيسة، وليس المسيحيين، خسرت حسني مبارك، وهو إن كان في التفاصيل، لا يلبي كل مطالبها لكنه استراتيجياً كان أفضل من غيره، ويكفي أنه نقل الملف السياسي إلى الكنيسة، وسعي البابا شنودة للقيام بدور سياسي باعتباره الزعيم السياسي للمسيحيين، كان سبب الأزمة مع الرئيس السادات، الذي جرده في آخر أيام حكمه، من موقعه البابوي، وتحفظ عليه في الدير.

وكان طبيعياً أن تطلب الكنيسة " رعاياها" ألا يشاركوا في ثورة 25 يناير، وقد قال البابا "إنهم مع مبارك"، وهو موقف لم تعلق عليه القوى الثورية، التي هاجمت رجال الدين المسلمين، الذين انحازوا لنظام مبارك في أيام الثورة، ومن أول شيخ الأزهر الى الشيخ محمد حسان!

 

لا أعرف حقيقة الضرر، الذي وقع على المسيحيين، من حكم الرئيس مرسي؟!.. لكني أعلم أنهم اتهموا الجيش بالاعتداء عليهم في مظاهرات ماسبيرو الشهيرة، ثم اصطفوا في خندق الفريق السيسي، وهو يعلن عزل الرئيس المنتخب، الذي لا يمكنهم أن يتهموه بأنه أضر بمصالحهم، بل يكفي أن نعلم، أن نجاح التيار الإسلامي، في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، أوقف تماماً، المطالبة القديمة، من قبل تيارات إسلامية، للإفراج عن المسيحيات اللاتي سلمن للكنيسة، وتم حبسهن في الأديرة، ومن وفاء قسطنطين، إلى كاميليا شحاتة، والصمت هنا لم يتحقق ولو في عهد مبارك، ومعلوم أن هذا الملف خارج اهتمامات جماعة الإخوان!.

 

لقد وجد سلفيون، بعد الثورة، أن أجواء الحرية يمكن أن تمكنهم في النجاح في تحرير سجينات الأديرة، وخرجت مظاهرة حاشدة من مسجد النور لتحاصر الكاتدرائية بالعباسية، ثم كان السكوت، على النحو الذي أبرزنا، فلم يكن الإسلاميون يسعون لتعكير الصفو، ليتم اتهامهم باضطهاد الأقباط!.

 

المجلس العسكري، الذي حكم مصر بعد الثورة، كان حاسماً في مواجهة أي استغلال من قبل الأديرة لحالة الفوضى الأمنية في بسط نفوذ ما، وعندما قام رهبان بإجراء توسعات لأحد الأديرة بالاستيلاء علي الأراضي المملوكة للدولة، كانت المواجهة حاسمة، فلم يتصرف العسكر على أن على رؤوسهم بطحة في هذا الشأن.. على العكس من الإسلاميين!.

 

وعندما تم وضع الدستور، في عهد الرئيس مرسي، تم النص على ضرورة أن يحتكم المسيحيون واليهود لشرائعهم، وهو نص غير مسبوق، وهذا لم يمنع الكنيسة من الانسحاب من لجنة وضع الدستور، مع المنسحبين، ولم يؤد انسحابها إلى حذف هذه المادة.

بيد أن من الملاحظ أن المسألة هنا نفسيه، فلم تستسغ الكنيسة أن يحكم مصر إسلامي، ووجدت في الانقلاب العسكري رمية بغير رام، فانحازت له منذ أن بدأ التخطيط لإسقاط الرئيس محمد مرسي، وتجاهلت قتلاها أمام ماسبيرو، بل وأوقفت "المناحة المنصوبة" على دم القبطي المراق!.

 

وقد مكن الانقلاب العسكري الكنيسة، من أن تكون صاحبة الكلمة العليا في لجنة الخمسين، وقد تعاملوا مع المادة التي وضعت في دستور الإخوان على أنه بناء مجرد فبنوا عليه!.

لقد حصلوا على نص يلزم المشرع بعد الانتخابات البرلمانية على الموافقة على قانون دور العبادة الموحد وإصداره، كما نجحوا في النص على "كوتة" لهم في البرلمان، وهو أمر ضد منهج الدولة المدنية الحديثة، وهو خاص بالبلاد التي تحكمها الطوائف!.

ثم وصل نفوذ ممثل الكنيسة حد أن يتدخل فيما لا يعنيه، ويفرض إرادته، وذلك عند مناقشة المادة 219 في دستور 2012، وهي المادة المفسرة للمادة الثانية الخاصة بمبادئ الشريعة الإسلامية، وهدد ممثل الكنيسة الأنبا بولا من الانسحاب في حال إقرار هذه المادة!.

 

ولعل سؤالا يطرح نفسه: ما علاقة نيافته، بتفسير مدلول عبارة " مبادئ الشريعة الإسلامية"؟.. ما شأنه إن تم النص على أنها تعني ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، أو غيرهم، و بالنسبة لهم تعد المادة الثانية في الدستور معطلة، لأنهم يحتكمون إلى أحكام شريعتهم؟!

لقد جاءت المادة 219 في إطار صفقة بأبعاد ثلاثية، فهذه المادة، ومادة أخرى هي الخاصة بدور الأزهر المفسر لما يستغلق فهمه بشأن الشريعة الإسلامية، وضعتا في مقابل المادة الثالثة الخاصة باحتكام أهل الكتاب الى شرائعهم، فجاء دستور الانقلاب، ليحذف المادتين، ويبقي على مادة القوم!.

لقد هدد ممثل البابا في لجنة الخمسين، بأنه سيأمر المسيحيين بالتصويت بلا على الدستور إن تم إقرار المادة 219، وهو تهديد يعلم الانقلابيون خطورته فالقوم حشدوا في الانقلاب وسيحشدون للاستفتاء على الدستور.

وفي أجواء كهذه لا تندهش اذا قيل أن حاكم مصر الحقيقي هو نجيب ساويرس.

 

كاتب وصحفي مصري

[email protected]

 

المصدر/ الراية