نحو تربوية العمل الخيري
6 صفر 1435
الهيثم زعفان

المتأمل لمسيرة العمل الخيري الإسلامي في العالم العربي والإسلامي على مدار المائة عام المنصرمة يجد مليارات عدة قد بذلت في أوجه الخير داخل المنطقة العربية وخارجها، مؤسسات وشخصيات خيرية أثرت بخيريتها في بناء وتكوين المجتمع المسلم، بدءًا من إشباع الاحتياجات الأولية للأسر الفقيرة، مروراً بتوفير فرص العمل والتعليم لشباب الأمة، انتهاءً بنشر الخيرية في أوساط البلدان غير الإسلامية حيث الفقر والجهل والكوارث.

مرت الأمة -ومازالت- بأزمات، نكبات، حروب واضطرابات كان للعمل الخيري ورواده اليد الطولى في التحرك والبذل والإنفاق والتطوع بكافة أشكاله داخل هذه الأجواء العصيبة. محن مر بها العمل الخيري الإسلامي ضيقت عليه نشاطاته ووسمته مما هو برئ منه، ولكن الله جعل لهذا العمل المبارك من كل ضيق مخرجا.

هذا الرصيد التاريخي للعمل الخيري الإسلامي لم يقف عند حدود البذل والإنفاق وإشباع الاحتياجات وفقط ولكنه قدم إرثاً ضخماً من الخبرات والتجارب، إرث وعاؤه مفتوح يستوعب كل يوم خبرة جديدة وتجربة عملية أصيلة. هذا الكنز من الخبرات المهنية والخريطة البذلية المصاحبة له سواء على مستوى الباذل أو المتلقي، يشكل تأصيلاً علمياً ومنهجياً غاية في الدقة والإثراء؛ من هنا كان السؤال الجوهري؛ لماذا لا يتم استثمار هذا الإرث من الخبرات الخيرية في المناهج التربوية في كافة المراحل التعليمية بدءًا من الصفوف الأولية في المراحل الابتدائية انتهاءً بالأكاديميات والكليات المتخصصة التي تخرج لنا المتخصصون في العمل الخيري، والمعدون إعدادً علمياً وعملياً؛ يسدون من خلاله حاجة السوق الخيري والمؤسسات الخيرية في كافة مناشطها وأدواتها؟.

أعلم أن هناك مبادرات طرحت في هذا السياق لكنها وقفت في معظمها عند حدود الدورات التدريبية، وعلى أقصى تقدير؛ تسجيل بعض الدارسين للحصول على درجات في الدراسات العليا كدراسة عملية على نشاط من أنشطة إحدى المؤسسات الخيرية.

الملفت أن بعض الأقسام التي فتحت في جامعاتنا سارت على ذات الدرب البنائي في بناء المناهج والأقسام حيث الاقتداء بالغرب، في بناء المنهج أو التفاعل مع منحة غربية من هنا أو هناك لإنشاء قسم في مجال حقوق الإنسان، أو حتى في مواجهة الكوارث وإدارة الأزمات، وجميعها تقوم على إعداد وتدريس المناهج وفق الرؤية الأممية للإنسان القافزة في أحيان غير قليلة فوق الاعتبارات الشرعية والعقدية.

طرحي في هذا المقال تقوم فكرته على "بناء منهجي" نابع من خبرتنا وثقافتنا الخيرية المتخصصة والمتفردة، والضاربة بجذورها في أعماق التاريخ حيث بذل الصحابة رضوان الله عليهم وإنفاقهم بحضور سيد البشرية والخيرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتطبيقاً للتعاليم القرآنية في البذل والإنفاق.

و"بناء بشري" يقدم للسوق الخيري ذلك الشاب المعد إعدادً أكاديمياً وتربوياً لا يقل عن إعداد الطبيب المتخصص والمهندس الماهر حيث التأهيل النظري للرؤية الخيرية ذات المرجعية العقدية التي تربط الدنيا بالآخرة، والتدريب العملي الفني القائم على أنجح ما توصلت إليه الخبرة الميدانية في المؤسسات الخيرية، مع الاستفادة من التقنيات الدولية الحديثة المعينة على أداء العمل الخيري في كافة القطاعات بسهولة ويسر وكفاءة.

أولاً ...البناء المنهجي للعمل الخيري الإسلامي:
وهو بناء تربوي في الأساس؛ الهدف منه تقديم جملة من المناهج التربوية المستقاة من قطاع العمل الخيري الإسلامي؛ تكون قابلة للتدريس وإعداد الطلاب في المراحل العلمية المتعددة. وهذا البناء المنهجي يحتاج إلى أمرين: (لجنة معدة- ومادة علمية أرشيفية قابلة للإعداد والترجمة التربوية).

أما اللجنة فيمكن تكوينها من خبراء العمل الخيري الإسلامي، وأساتذة طرائق التدريس وبناء المناهج بكليات التربية، وأما المادة العلمية الأرشيفية فأحسب أن هناك جهود بحثية متعددة حاولت وتحاول أرشفة العمل الخيري الإسلامي في العقود الإخيرة، ليخرج المنتج النهائي في صورة مناهج علمية قابلة للتدريس وتأهيل الطلاب.

وفي ذات الإطار وحتى يتم الانتهاء من وضع تصور شامل لمناهج العمل الخيري الإسلامي أقترح على وزارات التربية في العالم العربي والإسلامي استحداث مادة للعمل الخيري الإسلامي "قديماً وحديثاً" يتم إدماجها تصاعدياً في المناهج التربوية في المراحل التعليمية المختلفة. مع إدارج برامج زيارات ميدانية شهرية أو أسبوعية للمؤسسات الخيرية النشطة في محيط المجتمع المحلي للمدارس والمعاهد قبل الجامعية.

إن هذا الاقتراح التربوي من شأنه إحداث زخماً بذلياً في أوساط طلاب المدارس، فتتلود لديهم الحاسة المرهفة نحو البذل والعطاء والمشاركة في تحمل المسؤولية البذلية نحو فقراء المجتمع وأصحاب الحاجات والأعذار؛ كما أنه يساعد على تربية النفس وتهذيبها بمشاهدة حالات واقعية قد لا يراها التلميذ في الوسط الأسري الذي يحياه، الأمر الذي من شأنه أن يحدث عنده توازن نفسيى وقناعة بعطاء الله له ونعمه عليه وعلى أسرته، وهذا الاتزان والاستقرار النفسي من شأنه أن يقوم كثيراً من السلوكيات المعوجة المصاحبة لمرحلة المراهقة الحساسة.

ثانياً... البناء البشري المتخصص في القطاع الخيري:
وهذا البناء يهتم به في الأساس منذ التحاق الطلاب بالتعليم في الصفوف الأولية، وحتى المرحلة الثانوية كما أوضحنا في المقترح السابق؛ لنأتي بعد ذلك إلى مرحلة إنشاء الكليات والأكاديميات المتخصصة في العمل الخيري الإسلامي، فيكون عندنا هذا المسمى تحديداً (كلية العمل الخيري)؛ و (أكاديمية العمل الخيري)؛ ومستقبلاً بإذن الله ( جامعة العمل الخيري الإسلامي).

أعلم جيداً أن مشروع مثل هذا يحتاج إلى تمويلات ضخمة، وكوادر معدة ومؤهلة؛ لكن وفي ظل طفرة التعليم الخاص وإنشاء المعاهد والكليات المتخصصة الخاصة، ما المانع أن تقوم إحدى مؤسسات العمل الخيري الإسلامي الكبرى في العالم العربي بإنشاء معهد أو أكاديمية متخصصة في العمل الخيري الإسلامي؛ تمنح درجة البكالوريوس في العمل الخيري؛ وتتولى هي الإنفاق على المشروع من ناحية تجهيزات المباني، وإختيار الكوادر البحثية والتعليمية وبناء المناهج التربوية، وإلاشراف على عمليات تعلم الطلاب وتدريبهم عبر أنشطتها الميدانية. لتكون هذه الأكاديمية المتخصصة لبنة لإنشاء العديد من الأكاديميات في ربوع العالم العربي والإسلامي، سواء من خلال الحكومات أو المؤسسات الخيرية الكبرى.

إن تربوية وتعليم العمل الخيري يمكنها العمل على المستويين القريب والبعيد، فمن الغد بإذن الله يمكن إقرار نظام الزيارات الميدانية الدورية لتلاميذ المدارس العربية إلى الأنشطة الميدانية للمؤسسات الخيرية المحيطة بتلك الكيانات التعليمية.

ومن العام القادم بإذن الله يمكن إدماج مادة جديدة عن العمل الخيري في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، يتم إعدادها من الآن لتكون جاهزة مع بداية العام الدراسي الجديد.

ومن اليوم يمكن لإحدى المؤسسات الخيرية الكبرى أن تشرع في بناء أكاديمية علمية متخصصة في العمل الخيري الإسلامي يلتحق بها كل من لديه ميول بذلية يتخصص في العمل الخيري ويحصل على شهادة معتمدة بعد أن يصبح مؤهلاً للعمل في أنشطة العمل الخيري الإسلامي المتعددة سواء الخيرية أو التنموية أو الإغاثية؛ فهل يتحقق الحلم يوماً ما ليضرب العمل الخيري بجذوره تربوياً في أعماق التعليم بكافة مراحله ومستوياته؟!.