عبقرية الانتفاضة..الحد الأقصى لـ"السلمية" الفلسطينية
6 صفر 1435
أمير سعيد

يتوقف التاريخ مراراً عند "انتفاضة المساجد" أو "الانتفاضة الفلسطينية الأولى"، التي تحل ذكراها السادسة والعشرين هذا الأسبوع، من حيث قدرتها على تحريك الماء الراكد في قضيتنا الأولى.. حينها توقف الزمن ليقرأ تغييراً تكتيكياً بارعاً أذهل العالم كله.. وفاجأ كبريات الأجهزة الاستخبارية الصهيونية على تنوعاتها وتشعباتها المختلفة.. "ففي التاسع من كانون الاول 1987 في يوم نشوب الانتفاضة الاولى، كان قائد فريق في دورية هيئة القيادة العامة واشتغل باعتقال سري لارهابي في جباليا. وفي اللحظة التي خرج فيها الفريق من مخيم اللاجئين لقي آلاف الناس محتشدين في مظاهرة صاخبة. ولم يخطر ببال أحد ان طاقات عنيفة من هذا النوع موجودة أصلا على الارض التي كانت تبدو ساكنة مستسلمة. وأصبحت تلك المظاهرة أول هبة عنيفة كبيرة في تلك الانتفاضة. ولا تُنسى مثل هذه الصدمة التي تضرب الوعي." [الكاتب الصهيوني أليكس فيشمان، "لم يوجد مثيل لهذه الانتفاضة" يديعوت أحرنوت 21/12/2012 ]
نعم، هي بالفعل قد ضربت الوعي الصهيوني؛ فكل الاستعدادات كانت مضبوطة على عقارب "عمليات فدائية" أو "عنف وتخريب" مثلما كان يحلو للإعلام العبري وساسة "إسرائيل" أن يسمونه، وكانت الجبهة المقابلة لا تتعدى مجموعات قليلة للتصدي للفعل الفلسطيني المقاوم، الذي كان دون حد الإمكانات المكافئة بكثير.. هنا حدثت المفاجأة، تكتيك يقلب الموازين، إنها صورة من الحرب غير المتوازية، التي تجبر الخصم على استخدام أسلحة أقل بأساً، وتستنزفه حد الإرهاق والجنون، وتذهب بلبه، والأدهى من ذلك قدرته على تسويق "أخلاقيات عسكرية".. يقول الباحث سعيد عكاشة: " انتفاضة الحجارة شهدت مواجهات واسعة بين قوات الاحتلال الإسرائيلية والفلسطينيين العزل من السلاح، وغلب عليها الأطفال الذين دأبوا على قذف الجنود الإسرائيليين بالحجارة، وتسببت هذه المواجهات في تدمير القوة الأخلاقية للجيش الإسرائيلي، بعد أن تعاطف العالم كله مع شعب يتصدره أطفاله يلقي بالحجارة على جنود مدججين بالسلاح، ويحتمون بمدرعاتهم، ولا تريد إسرائيل أن تجد نفسها في معركة شبيهة اليوم." [مجلة السياسة الدولية مارس2013 ]
لقد ضربت انتفاضة الحجارة حينها الكيان الصهيوني في مقتل، وأرغمته على تحويل مجرى الصراع، ولولا أنه قد وجد "عبيداً" يهرولون إلى أوسلو لعقد اتفاقية سلام بائسة، ولولا ظروف إقليمية دقيقة أخرجت العراق من المعادلة وأضعفت مجمل المواقف العربية لكان لنتائجها شأن آخر، ولأذعن قادة تل أبيب لأطفال حجارة فلسطين؛ فالانتفاضة مثلت حالة مقاومة غير مألوفة، حتى إنه مع صدور البيانين الأول والثاني من حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) اللذين استخدما مفردة "الانتفاضة"، بدأ انتشارها للحد الذي جعل العالم يرغم على استخدامها دون ترجمة هكذا Intefada كبرهان جلي على فرادتها.
الفلسطينيون حينئذ لجؤوا إلى استراتيجية متنوعة تهدف إلى ما يلي:

ـ تجريد العدو من مبرر استخدام السلاح، ومن "أخلاقيات الحرب"، ومن تكافؤ القوة بحيث يقف جنود مدججون بالسلاح في مواجهة أطفال يحملون الحجارة، ومنع ساسة وإعلام العدو من استخدام لفظ "الإرهاب" أو "التخريب"، وجذب إعلام العالم كله ليصور مشاهد الحجارة في مقابل الرصاص المطاطي والآليات العسكرية التي يختبئ خلفها "نخبة الجيش الذي لا يقهر"!

ـ اتخاذ أقصى درجات الاحتجاج الممكن دون حد مفارقة "السلمية" بحيث لا يمكن محلياً أو إقليمياً أو دولياً إدانة فعل أطفال الحجارة، وكذلك؛ فهو يستخدم سلاحاً متوفر جداً، لا يصعب حمله، ولا نقله، ولا "تهريبه"، ولا يحتاج إلى تخزين أو استيراد، وهو لا ينضب، ولا يفرض أحد عليهم شروطاً لتزويدهم به، وهم مع هذا يحققون هدفهم بإبقاء قوات الكيان الصهيوني التي اضطرت إلى استدعاء حرس الحدود للتمكن من حصار هذا الفعل المقاوم الجديد.

ـ توسيع دائرة المواجهة المرهقة لجنود الاحتلال؛ فتدفق مئات من الشبان من الأزقة والحواري إلى ميدان المواجهة يفرض في المقابل على الجيش الصهيوني توسيع دائرة الانتشار والاستعداد الأقصى لمدد طويلة، وحين يؤوب الأطفال والشباب إلى بيوتهم بسهولة؛ فإن عدوهم يتجه نحو معسكراته المتأهبة في سلسلة من الإرهاق والاستنزاف النفسي الهائل.
ووفقاً لأدبيات تلك المرحلة؛ فإنه لم يك مجدياً أن يقدم الفلسطينيون على الخروج بمظاهرات "مجردة" هكذا دون أن يحدثوا نوعاً من الإرهاق والتشتيت والإزعاج لعدوهم، كما لو يكونوا ليحققوا تأثيراً واضحاً على الاقتصاد الصهيوني من دون أن يرى المستثمر أو السائح "ناراً تتأجج من الإطارات" و"أعمال شغب" و"أحداث كر وفر" في شوارع "إسرائيل" أو تحتلها "إسرائيل"، كما لم يك في حد المقبول أن تفشل الانتفاضة في جر من هم خارج "الجيش الصهيوني" حينها إلى أتون القلق والاضطراب والرغبة في الهجرة إلى خارج فلسطين المحتلة.
كانت الأدوات أو "الأسلحة" بدائية جداً، وهي:

1 ـ القذف بالحجارة يدوياً.
2 ـ القذف بها يدوياً عبر النبيطة (أو ما يُسمى بالنبلة) والمقلاع، والذي قيل إن به قد قتل النبي داود عليه السلام جالوت، وهو عبارة عن حبلين بينهما قطعة من المطاط، توضع بها الحجارة، ويمسك الفتى بالحبلين ويدورهما بسرعة عمودياً في الهواء ثم يترك أحد طرفي في لحظة القذف بالحجارة.
3 ـ إشعال إطارات السيارات لتعمية العدو والتخفيف من أثر القنابل المسيلة للدموع وإعاقة تحرك الآليات الصهيونية.
4 ـ استخدمت قنابل المولوتوف لحرق الآليات الصهيونية المهاجمة، وهي وسيلة هي أقرب إلى العمل المسلح منها إلى "السلمية" لكنها، هي والسكاكين التي استخدمت على نطاق ضيق اعتبرت "عملاً مقاوماً" يمكن تفهمها حينما تكون ضد احتلال، كما أنها لم تكن تخرج حينها عن "الفردية" التي لا تحمل المجموع تبعة فعلها.

كما استخدمت الانتفاضة سلاح "الجرافيك" لتأكيد حضورها والدعاية لها على جدران الضفة وغزة، والاضرابات المستمرة والمتنوعة، وأحيت ذكريات فدائية عديدة جعلتها مناسبات "نضالية" للانتفاضة..

والحاصل أن الانتفاضة الأولى كانت مدرسة فريدة، تنوعت فيها إبداعات الفتيان وتعددت فيها المبادرات، يقول الأسير المحرّر القيادي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" حسام بدران بدران في تصريحه على الفيس بوك لمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لانتفاضة الحجارة: " كانت القيادات الميدانية صاحبة مبادرات وربّما سبقت من فوقها، والمقاومة ميدانها رحب، هنيئاً لمن شدّ الخطى وسرى بالليل غير عابئ بالمثبطين، وفاز بالفضل من سبق والخير في من لحق، ونسي الناس من تردّد وتقاعس وركن إلى الدنيا".

على أن تلك الانتفاضة قد انتقدت لكثرة خسائرها البشرية والمادية، وانتقدها البعض من جهتين، إما أنها "أفرطت في السلمية" أو أنها استخدمت وسائل حفزت الصهاينة على قمعها بقوة وصلت حد اتخاذ رئيس الوزراء الصهيوني السابق اسحاق رابين "سياسة كسر عظام الأطفال"، راشقي الحجارة من فرط تميزه من الغيظ، وقد قامت قواته بذلك فعلاً، غير أنها جسدت في النهاية نموذجاً فريداً قل نظيره تاريخياً إلى الحد الذي جعلها بعد ربع قرن من الزمان ملهمة لصنوف من المقاومين حول العالم، ذاك أنها مثلت حالة ردعية هادئة لكنها فاعلة في كثير من الأحيان من دون أن تتخلى عن "سلميتها".. ولقد سجل التاريخ أنها تركت أثرها، ليس على السياسة في حينها فحسب، بل ربت جيلاً هادراً هازئاً بسلطات الاحتلال.. ولد مقاومة لاحقة أذلت "إسرائيل" وكسرت أنفها في كثير من المشاهد.

فذات يوم غضب الرئيس المصري الراحل أنور السادات من معارضيه فقال: "لدينا ديمقراطية.. لكنها ديمقراطية لها أنياب".. بعدها بسنوات، أثبت الفلسطينيون أن "السلمية" أيضاً لها أنياب، ولقد أنشبوها في لحم الصهاينة، إلى الحد الذي لم يزل يزعج الكيان الغاصب حتى اليوم؛ فتقاريره تصدر يومياً تحذر لا من انتفاضة مسلحة كانتفاضة الأقصى بل من انتفاضة حجارة جديدة في الضفة الغربية، وما زالوا يحذرون منها لدرجة أنهم بجنونهم كادوا يعتبرون الحجارة أداة إرهابية كنظائرهم من مجانين الطغاة؛ فعند استرجاع خطر انتفاضة حجارة جديدة، صرح قائد قوات جيش "الإسرائيل" في الضفة الغربية، البريجادير حغاي مردخاي، بأن "الجيش سيعد أعمال الرشق بالحجارة نوعاً من أنواع الإرهاب الشعبي، وسيعمل ضد هذه الظاهرة".. ربما يقدم على ذلك فعلاً وقد نقلت إليه الأنباء عن حلفائه أن "البلونة" و"المسطرة" تعد سلاحاً فتاكاً يضمر الإرهاب في أحشائه!