17 جمادى الأول 1435

السؤال

السلام عليكم: وأنا صغيرة في عمر 8 سنوات تعرضت للتحرش من قبل ابن عمي ولكن بحمد الله أنقذني أولاد عمي في آخر لحظة، وهذا الموقف أثر على صحتي النفسية، فأصبحت أخاف من الجميع، وأكره قدوم الليل، ومع مرور الأيام نسيت ما حصل، وتزوجت من أخي ابن عمي الذي تحرَّش بي، وبعد أسبوع من زواجنا بدأت أكرهه وأنفر منه، ولكنني تحملت ذلك على أمل أن يتحسن وضعي، إلا أن حالتي تدهورت أكثر، وحاليا أنا حامل منه ونفسيتي جد سيئة، ولقد فكرت في الطلاق كثيرا لأتخلص من معاناتي معه، ولكنني أخاف من ردة فعل أهلي ومن كلام الناس، وأخاف على طفلي مستقبلا، ولا أعلم ماذا أفعل فهل من مساعدة؟ وشكرا..

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي السائلة الكريمة، بداية أشكرك على رسالتك، وعلى صراحتك في طرح استشارتك، أتمنى من الله العلي القدير أن يوفقني لأقدم لك حلولا مرضية تخلصك من معاناتك..
أما بالنسبة لمشكلتك فألخصها فيما يلي:
ـ تعرُّضِك للتحرش الجنسي من طرف ابنِ عمِّك في مرحلة الطفولة..
ـ تدهور حالتِك النَّفسية، وتأَثير ذلك السلبي والذي نتج عنه شعورك الدائم بالخوف..
ـ قبولِك الزَّواج من أخي ابنِ عمِّك المتحرِّش بك، جعلك تنتقلين لمرحلة جديدة من الاضطراب النفسي، وبعث الشعور بالخوف، والنفور من زوجك، وكره حياتك معه..
ـ تفكيرِك بالطَّلاق كحل للهروب من تعَبِك النفسي وللخلاص من معاناتك..
ـ شعورِك بالخوف من المستقبل لأنك حامل، وخوفِك على نفسِك وعلى طفلِك الذي ستنجبينه..
أختي الكريمة: قرأت رسالتك وشعرت بحجم معاناتك، خلال السنوات التي مضت من حياتك منذ فترة الطفولة لغاية مرحلة زواجك، فليس من السهل عليك نسيان ما حصل لك بالماضي، وللأسف يعد التحرُّش الجنسي بالأطفال من العلامات المثيرة للاشمئزاز داخل مجتمعاتنا، والتي صارت تمثّل ناقوسَ خطر يهدِّد بيوتَنا، وأبناءَنا، وأطفالَنا، وما أكثرَ تلك الحالات التي نسمع عنها ونقرأ، ممّا يتفَطَّر له القلب ويندى له الجبين، حتى صارت أشبَهَ بالعدوانِ الغاشِم الذي يبطش بفلذاتِ أكبادِنا بلا رحمة، وممَّا يبعث الأسى والحزن أن أغلب من يتعرَّضْنَ له في الصِّغَر يثير لديهم مخاوفَ وأضرارًا نفسية وحتى جسدية، قد تلاحقهم خلال مراحل حياتهم، وقد تمتَدُّ آثارُها السِّلبية إلى سنوات عمرهم المَديدة، مما يؤثِّر على مَجْرى حياتهم..
ولكنَّني على يقينٍ أختي الكريمة بأنك تستطيعين أن تتجاوزي كل ذلك بإرادَتِك القوية، وعزيمتك، وإيمانك بالله، فلقد نجحت في مواجهة مخاوفك ومتاعبك النفسية، وتناسَيْتِ مع مرور الزمن ما حصل لك بالصِّغَر، بل ووافقت على الزواج من شخص هو بالأصل أخ لمن تحَرَّشَ بك، وهذا التَّصَرُّف لا تقدم عليه إلا شخصيَّةٌ قوية..
ومن الإرشادات التي أنصحك بها أختي الكريمة:
أولا: حاولي أن تخرجي من دائرة صمتك، واكْسِري حاجز الخجل، والخوف، والانطواء على نفسك، وتَواصَلِي مع طبيبة نفسية، أو مع أحد الجمعيات المختصة بالإنصات الاجتماعي، والإرشاد النفسي للنساء في مثلِ حالتك، لأنها تعتمد في الغالب على الطريقة العلاجِيَّة الكلامِيَّة، وعلى الإنصات والمؤازرة النفسية، والتفريغ النَّفسي للمُشتكِي، وهذا سيمنحكِ الإحساسَ بالأمان، والثقة بالنفس، وسُيَقوِّي لديك أواصِرَ الروابط الاجتماعية والأسرية، وسيحسِّن علاقتك بزوجك..
ثانيا: اسْتَعِيني بأحد أفراد أسرتك ممّن تثقين بهم، وتشعرين بالراحة النفسية من ملازمتهم، وحدِّثيهِم عن مشاكلك، وكَلِّميهم عن معاناتك بصوت مرتفع، بلا حرج أو خوف أو تردد.. وأَخْرِجي كل ما هو مُخَزَّن بداخلِك، فلن تجدي من سيحِبُّكِ كحبِّهم، ولا من سيخاف على مصلحتك ويحميكِ ويحفظ سرَّكِ كأهلك، فمعهم ستشعرين بالراحة والاطمئنان..
والعلاج النفسي مع المساندة الأسرية سيعملانِ على تفريغِ ذاكِرَتِك، وتنظيفِها من متعلَّقاتِ التَّحرُّش ومسْحِ شريطِه المأساوي المكرَّر وما تعرّضت له بطفولتك، وسيخفِِّّف من متاعِبِك النفسية..
ثالثا: لا تنظري لزوجك على أنه نسخة مكررة من شخصِ المتحرِّش بك، فليس كل الرجال سواء، ولا كلُّ مَن حولكِ وحوشًا أشرارًا، فلا تعاقبيه وتقْتَصِّي منه على ذنب لم يقترفه بحقك، والمفروض أن تفرحي لأن ربنا سلَّمَكِ وأنقذك من الضياع، فافْتَخِري بنفسك لأنك زوجة وغدا ستصبحين أما إن شاء الله، واحْمَدي الله تعالى على تحصينَِه لكِ بالزواج ممن اختارك عن بقية النساء لتكوني شريكة حياته وأما لأولاده ودُرَّةَ بيته..
ورَكِّزي على القيم الإنسانية النبيلة التي يتصف بها زوجك، وانْظُري للجانب المشرق في شخصيته، وحاولي أن تتَقَّربي إليه وتشاركيه معاناتك، واتَّخِذيه زوجا وأخا وصديقا، وامْنَحيه ثقتك فقد يكون منصتا جيدا لمشاكلك ومستشارك الأمين، وقد تجدي عنده من الأمان ما افْتقدته عند سواه، ورسِّخي في ذاكرتك أن الله من اختاره لك، وهو رزقك الحلال الطيب، وأب ابنك أو بنتك إن شاء الله، وتخيَّلي إحساس الأمومة الجميل، فكل هذا سيغمرك بالفرح والسعادة..
رابعا: عالجي نفسك بنفسك، واكسبي ثقتك بنفسك من جديد، وافْرِغي ذاكرتك من ذلك الحدث القديم، ومما تراكم بذاكرتك منذ الطفولة، وابْدَئي مرحلة جديدة بشخصية قوية، واعْملي على إعادة بناء وتقويم الخلل النفسي من خلال العلاج الذي قدمته لك سابقا، والذي سيساعدك في فَهْم أفكارك الكامِنة بداخلك، وردَّاتِ أفعالِك ومشاعِرك..
خامسا: رَمِّمِي ما قد تهدَّم بداخلك وانكسر بالعلاج الروحي والإيماني، عن طريق التقرب إلى الله وطلبِ المعونة منه فهو من أهم أسباب العلاج، ومن خلال الإكثار من ذكرِ الله وملازمة ذلك بالليل وأطراف النهار، وقراءة القرآن، وأداء الفرائض من الصلوات والعبادات في زمانها ومكانها، وأداء الرواتب والنوافل في أوقاتها، والإكثار من الصدقات وفعل الخير، والعمل الصالح، والقول النافع، فهذا من أهم سبل العلاج ومن أسباب امتلاك الطاقة والقوة النفسية، فالمؤمن القوي يتماسَك أمامَ المصائبِ ويثبُت عند تزول البلاء، وهذا المعنى الذي صوَّره رسولُنا صلى الله عليه وسلم بقوله: "عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاءُ شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرّاء صبرَ فكان خيرًا له".. والمؤمن القوي هو الذي لا يشعر بالهوان ولا بالخوف، لأن أمانه في معِيَّة الله، قال تعالى" {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.. والمؤمن القوي هو من يرضى بقضاء الله وقدَره خيره وشره، ويعلم بأن ما أصابه ما كان ليخطِئه وما أخطَأه ما كان ليصيبه، قال تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.. وأنت بحاجة إلى التمسك بهذه القوة لضبط نفسك والسيطرة عليها..
سادسا: لتطهِّري الذاكرة من رواسب الطفولة والذكريات الحزينة، عليكِ أن تقومي بعملية تشطيب للذاكرة، وملئِها بذكريات جميلة، وأفكار ناجحة، وإنجازات عظيمة، ومواقف ملتزمة، وتخزين كلِّ الجوانب الإيجابيَّة وتفعيلِها بالواقع، وابحثي داخلَ نفْسك عن أسباب تربطك بهوايات جميلة، وتطلُّعات تطمحين لتحقيقها، واصْنَعِي لنقسك أحلاما جديدة، وآمالا مشرقة، فالشمس لا تغيب إلا لتشرق من جديد..
سابعا: أُخْرُجي من عزلتك، وتعوَّدي على الاجتماع بالناس والتفاعل معهم، وكوَِّني صداقات طيبة مع من تلمَسِين فيهن الاستقامة والصلاح والدين، وتعاوني معهن على البرِّ والتقوى، وعلى إنجاز أعمال الخير، والإقبال على الطاعات، واعْقدي معهن لقاءات ذات مردود، ونِتاج طيب ومثمر، كحفظ القرآن وتجويده وتفسيره، أو تدارس أحد الكتب العلمية، أو تهيئ درس ديني ومناقشته، واستثمار ذلك في الواقع، وتنفيذ مقترحات لأنشطة تعليمية وتربوية.
وثقي أختي الكريمة بأنك على الرغم من كل ما مرَّرتِ به، ستنجحين في تجاوز مرحلة الألَم والمعاناة، وستصنعين لك حياة وبيتا وأسرة، بشرط أن لا تتنازلي عن حقك بالحياة الطيبة الكريمة مع زوج اختاره الله لك ليصونك ويعِفَّك، وانظري دائما للإيجابيات والإنجازات في حياتك، وحاولي أن تتعودي على النسيان فهو رحمة..
أسأل الله العلي القدير أن يخفف عنك معاناتك، ويقويك على النسيان والصبر الجميل، وأن يبارك الله لك في زوجك وبيتك ويرزقك ذرية صالحة.