أنت هنا

مقاومة العدوان في الكتاب والسنة
19 صفر 1435
د. ماهر مهران

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد؛
فشريعة الله جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وقد كان المسلمون في صدر الإسلام يعيشون في استضعاف وذل، تسلط الكفار عليهم واستطال شرهم ولم يكن بوسعهم فعلُ شيءٍ؛ إلى أن أذن الله لهم في رد عدوان المعتدين، وقمع الكافرين بعدما قويت شوكتهم، وقامت دولتهم، فعذب الله الكفار بأيديهم، وأخزاهم، ونصر جنده الموحدين، وأزال ما داخل قلوبهم وصدورهم من وحَرٍ وغُمَّة، وضيق وظُلمةٍ.

 

وعنوان هذه الورقة: "مقاومة العدوان في الكتاب والسنة".
وهي قائمة على محاور:
1. التعريف بما ورد في عنوان الورقة من مفردات.
2. مشروعية رد العدوان.
3. وجوب نصرة المسلمين ورد العدوان الواقع عليهم.
4. الفرق بين ردِّ العدوان والإرهاب.

 

فأقول مستعينا بالله، مستلهماً الصواب منه:
أولاً: التعريف بما ورد في عنوان الورقة من مفردات
عنوان الورقة: مقاومة العدوان في الكتاب والسنة.
المقاومة: المناهضة، قاوم الشيء ناهضه(1).
والعدوان: الظلم(2).
وقال القرطبي رحمه الله: "العدوان: الإفراط في الظلم"(3).
"وأغلب استعمال الفقهاء لهذه الكلمة في التعدِّي على النفس أو المال بغير حق، مما يوجب القصاص أو الضمان"(4).
وعليه؛ فإن تعريف مقاومة العدوان هو: رد الظلم ودفعه.
وحركةُ المقاومةِ هي: جميعُ الأعمال الاحتجاجية التي تقوم بها مجموعاتٌ ترى نفسها تحت وطأة وضع لا ترضى عنه.

 

ثانياً: مشروعية ردِّ العدوان
إنَّ من أشد الأمور حرمةً، وأعجلها عقوبةً، وأشدها مقتاً: الظلم والعدوان، ولهذا كثرت النصوص الدالة على مشروعية ردِّ العدوان، ومن هذه الأدلة:
قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194].
وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل:126].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى:39-40].
قال ابن كثير رحمه الله –في هذه الألفاظ: عاقبتم، عاقبوا، سيئة، سيئة- : "الأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما"(5).
ويقول ربنا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].

 

وقال تعالى آمراً برفع الظلم عن الضعفاء، ورد عدوان المعتدين على الرجال والأطفال والنساء: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:74-76].

 

قال ابن كثير رحمه الله: "هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين: أن يكُفُّوا شر الأعداء عن حَوْزة الإسلام"(6).
وقال العلامة القرآني السعدي رحمه الله: "هذا حث من الله لعباده المؤمنين، وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه، فقال: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله} والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ومع هذا فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم، فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك، وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله، ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة. ويدعون الله أن يجعل لهم وليا ونصيرا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها، فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرا وأكبر فائدة، بحيث يكون من باب دفع الأعداء"(7).

 

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد» رواه أحمد والنسائي.

 

يقول المناوي رحمه الله معلقا على هذا الحديث: "قال ابن جرير: هذا أبين بيان وأوضح برهان على الإذن لمن أريد ماله ظلماً في قتال ظالمه والحث عليه كائناً من كان؛ لأن مقام الشهادة عظيم، فقتال اللصوص والقطاع مطلوب، فتركه من ترك النهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من قتل المؤمن وأخذ ماله ظلماً"(8).

 

ومن الأدلة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: «فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ». قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ».
وكل نصٍّ مُدح فيه المجاهدون والشهداءُ فهو دليل على مشروعية رد العدوان في شريعة الله.

 

مشروعية دفع الصائل ولو كان مسلما

مسألة دفع الصائل وجواز قتله إن لم يندفع شره إلا بالقتل مجمع عليها، قال ابن حجر رحمه الله: "واحتجوا أيضا بالإجماع بأن من شهر على آخر سلاحاً ليقتله، فدفع عن نفسه، فقتل الشاهر أنه لا شيء عليه"(9).

 

وهذه بعض أقوال العلماء في مشروعية دفع الصائل:
ففي جامع الترمذي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: "يقاتل الرجل عن ماله وإن درهمين"(10).
وقال الإمام مسلم رحمه الله: "باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه"(11).
وقال ابن حجر رحمه الله: "فأما من قاتل أهل البغي، أو دفع الصائل فقُتل، فلا يدخل في هذا الوعيد؛ لأنه مأذون له في القتال شرعاً"(12).
وقال: "وفيه دفع الصائل، وأنه إذا لم يمكن الخلاص منه إلا بجناية على نفسه أو على بعض أعضائه ففعل به ذلك كان هدراً"(13).
وقال المناوي رحمه الله: "من خصائص هذه الأمة جواز دفع الصائل، وكانت بنو إسرائيل كتب عليهم أن الرجل إذا بسط يده إلى رجل لا يمتنع منه حتى يقتله، قاله مجاهد وغيره"(14).
وقال: "وقد اتفقوا على جواز دفع الصائل ولو أتى على النفس"(15).
وقال الشيخ الدردير رحمه الله: "لا كفارة على من قتل صائلاً عليه بحيث لا يندفع عنه إلا بالقتل"(16).
وفي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير(17): "أَيْ لأنَّ دَفْعَ الصَّائِلِ وَاجِبٌ"، وهذا بيان للجواز الذي ذكره خليل في المختصر بقوله: "وجاز دفع صائل على نفس أو مال أو حريم".

 

وقال ابن قدامة رحمه الله: "ومن صال عليه آدمي أو غيره فقتله دفعاً عن نفسه لم يضمنه؛ لأنه قتله بالدفع الجائز فلم يجب ضمانه"(18). وفيه(19):  "إذا قتله لدفع شرِّه كان الصائل هو القاتل لنفسه، فأشبه ما لو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها".
وفي روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي رحمه الله(20): "أما الصائل فكل قاصدٍ من مسلمٍ وذميٍّ وعبدٍ وحرٍّ وصبيٍّ ومجنونٍ وبهيمةٍ يجوز دفعه، فإن أبى الدفع على نفسه فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة ".
وفيه أيضاً(21): "ولا تجب-الكفارة- في القتل المباح كقتل مستحق القصاص الجاني وكقتل الصائل والباغي، ونعني بالمباح ما أذن فيه" .
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وَالْعَادِي هُوَ الصَّائِلُ الَّذِي يَجُوزُ دَفْعُهُ بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهُ وَلَوْ كَانَ قَتْلًا"(22).
وفي عون المعبود(23): "واعلم أن هذا عام –أي: حديث لا يحل دمُ امرئ مسلم...- يخص منه الصائل ونحوه".

 

إشكال وجوابه:

لو قيل:
ألا يتعارض دفع الصائل مع حديث مسلم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ». قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: «يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ. اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ»؟

 

فالجواب ما قاله الإمام النووي رحمه الله: "وهذا الحديث والأحاديث قبله وبعده مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يُقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يجوز له المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبى بكرة الصحابي رضي الله عنه وغيره. وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها لكن إنْ قُصد دفع عن نفسه. فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامةِ علماء الإسلام: يجب نصر المحق في الفتن والقيام معه بمقاتلة الباغين كما قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي ...}  الآية، وهذا هو الصحيح، وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمبطلون، والله أعلم"(24).
فالحديث في النهي عن المشاركة في فتن المسلمين، وليس في دفع الصائلين، الذي جاء الإذن فيه من رب العالمين.

 

كيف يدفع الصائل؟

"للمصول عليه الدفع عن نفسه بالأخف وإن أفضى إلى قتل الصائل هدر"(25).
وفي شرح الخرشي على مختصر خليل(26): "وَيَدْفَعُهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ، فَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ قَتَلَهُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ لَا يَحْضُرُهُ النَّاسُ".
وفي الإقناع(27): "فإن أمكن دفعه بكلام أو استغاثة حرم الدفع بالضرب، أو بضرب بيد حرم بسوط، أو بسوط حرم بعصا، أو بعصا حرم بقطع عضو، أو بقطع عضو حرم قتل؛ لأن ذلك جُوِّز للضرورة، ولا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، وفائدة هذا الترتيب أنه متى خالف وعدل إلى رتبة مع إمكان الاكتفاء بما دونها ضمن، ويُستثنى من الترتيب ما لو التحم القتال بينهما واشتد الأمر عن الضبط سقط مراعاة الترتيب".

 

التدابير الشرعية الواقية من وقوع العدوان

من ذلك: تشريع الجهاد، فالاستعداد له مما يمنع من اعتداء المعتدين، وتركه سبب الذل والهوان. روى أبو داود في سننه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».

 

ومن ذلك تشريع القصاص، وقد كان أهل الجاهلية يقولون: "القتل أنفى للقتل"، وأحسن منه قول ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:178-179].

 

ومن ذلك: الأمر بالإحسان إلى الناس، وتحريم الخمر، والميسر، وأن يخطب المرء على خطبة أخيه، أو يبيعَ على بيعه، وبيان عاقبة الظلم والظلمة، والنهي عن الغضب، وتحريم الحسد.

 

ثالثاً: وجوب نصرة المسلمين ورد العدوان الواقع عليهم

كل آية تحدث الله فيها عن موالاة المؤمنين فإنها تحتِّم علينا أن نقوم بهذا الواجب العظيم حيال إخواننا المستضعفين من المؤمنين.
ومن النصوص التي توجب على المسلم نصرة إخوانه قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ» أخرجه البخاري.
وكما أمرت النصوص برد العدوان على المؤمنين رغبت فيه..
فنصرة المؤمنين أمارة دالة على صدق الإيمان:
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

 

وتأمل هذا المثل الذي ضربه نبينا صلى الله عليه وسلم:
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى» متفق عليه.
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : «المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً» وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.
 وقوله: «وهم يد»؛ «هم»: ضمير منفصل يدل على الجمع، ويد: لفظ مفرد، فهذه جملة تدل على التماسك العظيم الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون.

 

ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خِذلان المسلم وعدم السعي لردِّ ما وقع عليه من عدوان بقوله: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ» البخاري ومسلم.
وخِذلانه: عدمُ نصرته.
وجاء الترهيب من ذلك في نصوص الشرع..

 

فترك المسلمين لعدوِّهم:
1/ سبب للفتنة والفساد العريض. قال الله تعالى: {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
قال الطبري رحمه الله: "إلا تَناصروا أيها المؤمنون في الدين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"(28).
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض"(29).

 

2/ وسبب لخذلان الله للعبد.
فعن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ وأبي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ رضي الله عنهم جميعاً، قالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إلا  نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ» رواه أحمد وأبو داود.

 

3/ وسبب لعذاب القبر.
فعند ابن حبان بإسناد صحيحٍ قولُ نبينا صلى الله عليه وسلم :«أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه قال :علام جلدتموني؟ قالوا :إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره».

 

رابعاً: الفرق بين ردِّ العدوان والإرهاب

ليس غريباً ألا يكون للإرهاب تعريف جامع مانع يضبط المفردة ويحدد المراد منها! وذلك ليسوغ لأعداء الله أن يوجهوا سهامهم إلى من شاؤوا بدعوى (الإرهاب)! و (القضاء على الإرهاب)!!
وليس بعيداً عن الصدقِ قولُ من قال: "الإرهاب: كل ما تبغضه أمريكا وتأباه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة"!!
فبماذا عرَّف القوم الإرهاب؟
1- يعرف جي فاوفيتش الإرهاب بأنه: "الأعمال التي من طبيعتها أن تثير لدى شخص ما الإحساس بالخوف من خطر ما بأي صورة".
2- أما (ليمكين) فيعرف الإرهاب بأنه: "يكمن في تخويف الناس بمساعدة أعمال العنف".
3- ويعرفه جورج ليفاسير بأنه: "الاستعمال العمدي والمنتظم لوسائل من طبيعتها إثارة الرعب بقصد تحقيق أهداف معينة".
4- أما المشروع الفرنسي المقدم عام 1972م، للأمم المتحدة فيعرف الإرهاب بأنه : "عمل بربري شنيع".
5- ووصفته فنزويلا بأنه: "عمل يخالف الأخلاق الاجتماعية ويشكل اغتصاباً لكرامة الإنسان".

 

أما -نحن المسلمين- فحين نرجع إلى كتاب ربنا سبحانه نجد أن الإرهاب المتعدي إلى الغير في نصوص القرآن يتعلق بأمرين اثنين:
أولهما:
معاملة المؤمنين لأعداء الله من الكفار والمنافقين، أمراً كما في قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
يقول العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره: "أي وأعدوا لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم"(30).
أو خبراً كما في قوله سبحانه: {أَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13].
قال ابن كثير رحمه الله: "أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله"(31).
وقد عقد الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه قواعد الأحكام فصلين في ذلك، الأول: في تخويف أهل الحرب وإرهابهم، والثاني: في الاستعداد لقتالهم بما يرهبهم.
ثانيهما: حمل الناس على أمر نهى الشرع عنه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116].
أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم.

 

ويمكن من خلال حديث القرآن عن الإرهاب أن نستخلص أن الإرهاب المشروع هو كل فعل شرعي يبعث خوفاً يردع أعداء الله عن السبق بالاعتداء أو التمادي فيه. والإرهاب المذموم: كل فعل يراد منه ترويع الآمنين من المسلمين أو الكفار غير الحربيين بإلقاء الرعب في قلوبهم وزرع الخوف في نفوسهم. وهذا النوع يسميه الشرع بغياً أو ظلماً أو عدواناً.

 

أما المقاومة المشروعة مراد بها ما يسميه فقهاؤنا بجهاد الدفع، وهو ما يدفع به المسلمون عن دينهم وديارهم وأموالهم وذراريهم، ضد من بدأهم بالظلم والعدوان، من جنس ما يقوم  به إخواننا في فلسطين والعراق وأفغانستان وسوريا اليوم، وما قام به المسلمون في الجزائر والسودان وغيرها من بلاد الله على أيام ما سمي بالاستعمار(32).

 

خاتمة حسنة

وإنما استمدَّت حسنَها من كتاب الله!
إن الله وعد بإظهار دينه في مواضع من القرآن الكريم:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].
وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9].
وإذا تدبرت هذه الآيات وجدت أنَّ آياتِ الجهاد أحاطت بها إحاطة السوار بالمعصم، وإحاطة الأم برضيعها الذي تخاف عليه..
فقبل آية التوبة: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وبعدها: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
وقبل آية الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وإنما كانت البيعة على القتال.
وبعدها: {محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]. أي في معامع القتال ومواقع النزال.
وقبل آية الصف: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].
وبعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10-11].
وذلك دال على أنه لا سبيلَ إلى إظهار الدين، وإعزاز المسلمين بردِّ عدوان المعتدين، وتأمينِ الخائفين إلا بسلِّ سيف الجهاد في سبيل الله تعالى ، فتأمَّل ذلك.

 

وقد مرَّ معنا قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».

 

فما ترك قومٌ الجهادَ إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم فاستباح بيضتهم، ولن يذوقوا طعم العز إلا بالرجوع إلى دينهم وجهادهم.
ربِّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

_______________________

(1)    تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد عبد الرزاق الحسيني، دار الهداية للنشر: (1/109).
(2)    لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار صادر ببيروت، الطبعة الأولى، مادة: (ع د ا).
(3)    الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي: (6/47).
(4)    الموسوعة الفقهية الموسوعة الفقهية الكويتية، دارالسلاسل بالكويت، الطبعة الثانية : (30/14).
(5)    تفسير القرآن العظيم، للإمام ابن كثير، دار طيبة للنشر،  الطبعة الثانية، 1420: (1/184).
(6)    تفسير القرآن العظيم (1/572).
(7)    تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلامة/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420، ص(187).
(8)    فيض القدير شرح الجامع الصغير، الشيخ/ عبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الأولى، 1356هـ: (6/253).
(9)    فتح الباري شرح صحيح البخاري، للعلامة أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار المعرفة ببيروت، 1379: (12/222).
(10)    كتاب الديات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(11)    كتاب القسامة الباب الرابع.
(12)    فتح الباري (12/197).
(13)    فتح الباري (12/223).
(14)    فيض القدير (1/300).
(15)    فيض القدير(6/71).
(16)    الشرح الكبير للشيخ الدردير (4/ 287).
(17)    (19/54).
(18)    الشرح الكبير لابن قدامة (5/455)
(19)    (5/456).
(20)    (3/ 489).
(21)    (3/416).
(22)    مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية (3/416).
(23)    (12/5).
(24)    شرح النووي على مسلم، للإمام النووي، دار إحياء التراث العربي ببيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ: (18-8-10).
(25)    فيض القدير (1/388).
(26)    (23/356).
(27)    (2/199).
(28)    جامع البيان في تأويل القرآن، للإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م: (14/86).
(29)    تفسير القرآن العظيم: (4/98).
(30)    تفسير السعدي، ص (324).
(31)    تفسير القرآن العظيم (8/74).
(32)    من ورقة بعنوان: الفرق بين الإرهاب والمقاومة المسلحة المشروعة، وقد قدمت لملتقى (اقرأ الفقهي)، الذي انعقد بشرم الشيخ بمصر، في رجب 1426هـ، للشيخ/ د. عبد الحي يوسف حفظه الله.