أنت هنا

المقاصد الشرعية في مقاومة العدوان
19 صفر 1435
د. محمد رجب

بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن


بحث: المقاصد الشرعية في مقاومة العدوان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. وأشهد ألّا إله إلا الله، وحده لا شريك له، رب الطيبين، وولي الصالحين، ومالك السماوات السبع والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم أتم التسليم. أما بعد:
فمما لا خلاف فيه بين أهل العلم – باستثناء أفراد من أهل الظاهر - أن الشريعة كلها حكمة ورحمة، تستوفي - ما أمكن- المصالح للمكلفين في معاشهم ومعادهم، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق" . وهذا المعنى السائر في استقراء الشريعة جعل الإمام ابن القيم رحمه الله يقول:" فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه" .
والمقصود أن الشريعة جاءت لتحصيل منافع المكلفين، وليس من جهة إيجادها فحسب، ولكنها من جهة أخرى تهدف إلى الإبقاء على تلك المنافع بدفع المضار عنها كذلك، وبهاتين الجهتين يتم مقصودها، يقول الإمام الغزالي:" أما المقصود،  فينقسم إلى: ديني، وإلى دنيوي. وكل واحد ينقسم إلى: تحصيل، وإبقاء .وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة، وقد يعبر عن الإبقاء بدفع المضرة. يعني: أن ما قُصد بقاؤه فانقطاعه مضرة، وإبقاؤه دفع للمضرة. فرعاية المقاصد عبارة حاوية للإبقاء ودفع القواطع، وللتحصيل على سبيل الابتداء" .
وإنما تسعى الشريعة في حفظ مقاصدها من خلال تفاصيل أحكامها، وفروع تشريعاتها، فلا يخلو حكم أو فرع منها إلا وقد أنيط به شيء من حفظ تلك المقاصد، إما من جهة جلية، أو من جهة خفية، " يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه" . وكلما كان ما يُقصد حفظه ظاهرا واضحا معقولا، تعاضدت له أسباب الحفظ، وتوافرت فيه أحكام وفروع.
وإذا كان الكلام عن الأمة ورد العدوان عنها، ومدافعة ومقاومة قواطع بقائها؛ فلابد من وجود تلك الآليات في أبين صورها، وأقوى فاعليتها. وليس جزافا أن نقول: إن كل أحكام الشريعة تسعى في حفظ الأمة، في أكمل حالة وأتمها، بحسب الإمكان؛ لتتمكن من القيام بما أنيط بها من القوامة والخيرية؛ يقول الله تعالى: (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)) [البقرة/ 143]، وقال سبحانه: (( كنتم خير أمة أخرجت للناس)) [آل عمران / 110]. 
ويزداد خطر ذلك المعنى في تلك الآونة التي تعيشها الأمة الإسلامية، بما فيها من آلام ومحن، وكيد وفتن؛ ليستصحبه أهل العلم والدعوة كيفما تحركوا في سعيهم، فتتزن خطواتهم، ويستقبلوا وجهتهم في غير ميل ولا انحراف، فلا تستغرقهم الفروع عن أصولها، ولا تشغلهم الجزئيات عن كلياتها، إذ إن الاتجاه المقاصدي وسط بين الإفراط والتفريط، بين جمود اللفظ بظاهريته، وسيولة التأويل بتقويله . وكم من تيه قد وقع فيه صاحبه بسبب فقدانه بوصلة السعي والعمل؟!. وإن ذلك المعنى الذي نعرضه لمن مؤشرات بوصلته، ومقومات خطوته. 
وعسى أن نوفق –بإذن الله تعالى- في تصوير هذا المعنى في ذلك البحث، والذي يأتي بعد تلك المقدمة في ثلاثة فصول، فخاتمة. وبيان فصوله هي:

 

الفصل الأول: في مفهوم المقاصد والعدوان، وفيه مبحثان:
    المبحث الأول: في مفهوم المقاصد الشرعية، وفيه مطلبان:
        المطلب الأول: معنى المقاصد لغة واصطلاحا
        المطلب الثاني: أقسام المقاصد ومراتبها
    المبحث الثاني: في مفهوم العدوان.
الفصل الثاني: مقاومة العدوان وعلاقته بالمقاصد الشرعية
الفصل الثالث: أثر وجوب المقاومة في حفظ الدين والنفس أنموذجا، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أثره في حفظ الدين
    المبحث الثاني: أثره في حفظ النفس     
 ونشرع بحول الله تعالى في البحث، والله المستعان.

الفصل الأول: مفهوم المقاصد والعدوان

المبحث الأول: في مفهوم المقاصد.

المطلب الأول: معنى المقاصد لغة واصطلاحا.
المقاصد لغة: جمع مقصد، وهو مصدر مأخوذ من (قصد) يقصد قصدا فهو قاصد.  والقاف والصاد والدال أصول ثلاثة، يدل أحدها على إتيان شيء وأَمِّه، والآخر على اكتناز في الشيء... والأصل الآخر: قصدت الشيء كسرته.
ومن الأول يأتي القصد في اللغة بمعنى الاستقامة، كما في قوله تعالى : (( وعلى الله قصد السبيل))  [النحل / 9] ، وكذلك بمعنى التوسط والاعتدال، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " ... والقصد القصد تبلغوا " . ويأتي أيضا بمعنى الاعتماد والنهوض . ولعل هذه المعاني المنبثقة عن الأصل الأول هي المدخل اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي للمقاصد الشرعية.
- المقاصد الشرعية اصطلاحا:
لم يعن المتقدمون كثيرا بتعريف المقاصد رغم استعمالهم لتلك الكلمة، ولعل ذلك لكونها لم تخرج في استعمالهم كثيرا عن معناها اللغوي لتلبس لباس الاصطلاح ،  بل إن الشاطبي رحمه الله - وهو رائد علم المقاصد – لم يضع تعريفا محددا لها، وإنما نشط المعاصرون في تحديده، ورأسهم في ذلك العلامة ابن عاشور رحمه الله  ، ثم توالت التعريفات.
ولعل أولى هذه التعريفات وأجمعها القول بأنها : " المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حِكما جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو: تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين" .    

المطلب الثاني: أقسام المقاصد ومراتبها.
تنقسم المقاصد الشرعية باعتبارات ثمانية، وهي:
1-    باعتبار المصالح التي جاءت بحفظها.
2-     باعتبار مرتبتها في القصد.
3-     باعتبار الشمول.
4-    باعتبار محل صدورها ومنشئها
5-    باعتبار وقتها وزمن حصولها
6-    باعتبار القطع والظن
7-    باعتبار تعلقها بعموم الأمة وأفرادها
8-    باعتبار حظ المكلف وعدمه.

 

ورغم ذلك التنوع في اعتبارات التقسيم إلا إنها تؤول إلى الاعتبار الأول منها، إما مطابقة أو تكميلا. وأقسامها بهذا الاعتبار ثلاثة: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، والكلام في الأقسام يدور حولها في الجملة.
فمثلا: القسم الثاني من المقاصد - وهو باعتبار مرتبتها من القصد - فينقسم إلى: مقاصد أصلية، ومقاصد تبعية، وأما الأصلية فهي عين الضروريات، يقول الشاطبي رحمه الله : " فأما المقاصد الأصلية، فهي التي لا حظ فيها للمكلَّف، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة" .
ومعلوم أن المقاصد التابعة إنما هي تبع للأصلية، ومثبت لها، وإلا لم تعتبر.
وكذلك قسمها باعتبار الشمول، فإنها تنقسم بذلك إلى ثلاثة اقسام: عامة، وخاصة، وجزئية. ثم نجد أن أولى المقاصد العامة وآكدها هي عين الضرورات الخمس، وعلى رأسها حفظ الدين .ثم نجد أن الحاجيات والتحسينيات كلتاهما خادم ومكمل للضروريات، والتي هي محفوظات الشريعة الخمسة، وهي: الدين والنفس والنسل والعقل والمال. يقول الإمام الشاطبي: "إن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة... فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبقَ عيش" .
و"لقد استقرأ كثير من العلماء التكاليف الشرعية، أوامرها ونواهيها، في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق، في الأصول والفروع، وأخذوا بعين الاعتبار أيضًا مراتب الحكم الشرعي في الفعل والكف، أو في الأمر والنهي، وخلصوا إلى أن الشريعة (الدين) إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وحمايتهم من المفاسد وما يفضي إليها، أي أنها تمحورت حول جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن هذه المصالح لا تتحقق والمفاسد لا تدرأ إلا بتوفير ما اصطلحوا على تسميته الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس، التي لا تستقيم الحياة وتستقر وتستمر بدونها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.. ورأوا، بعد التحري والاستقصاء والاستقراء، أن أي أمر أو نهي هو عائد إليها في نهاية المطاف، إما بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، وإنما شرع لتحقيق إحدى هذه الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس.
فالدين: حاجة فطرية وضرورة حياتية، وعدم "الإكراه " تحقيق لكرامة الإنسان. والنفس: إشباع غريزة الحياة، إقراراً وحماية. والعقل: محل أهلية الإنسان وتميزه، يستلزم حق التفكير والإرادة والاختيار. والنسل: نزوع وحاجة أصلية للجنس الآخر، يقتضي الحق في ممارسة الجنس بالطرق المشروعة وحماية الأنساب. والمال: تلبية لنزعة التملك والاحتياز وما يترتب على ذلك من حق التصرف والتملك والأهلية...إلخ. ولذلك اعتبر الإسلام هذه المقاصد من الثوابت الأساسية لاستقامة الحياة، ورتب على الإخلال بها أو الانتهاك لها عقوبات رادعة، قد اعتبر الإسلام الاعتداء على هذه الحقوق جريمة كبرى، وعظم أمرها" .
والأدلة على ضرورية هذه الكليات كثيرة متوافرة، تقطع بقصد الشارع حفظها؛ لفساد أمر الدنيا والآخرة بانخرامها. ومن لطيف ذلك ما ذكره الحافظ في الفتح تعليقا على قول النبي عليه الصلاة والسلام: " لا تقوم الساعة - وإما قال من أشراط الساعة - أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون للخمسين امرأة القيم الواحد" ، فقال رحمه الله:" وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي: الدين؛ لأن رفع العلم يخل به، والعقل؛ لأن شرب الخمر يخل به، والنسب؛ لأن الزنى يخل به، والنفس والمال؛ لأن كثرة الفتن تخل بهما"  .
ومع اختلاف يسير بين الأصوليين والمقاصديين في ترتيب هذه المحفوظات وتعيينها، إلا أننا نرى بوضوح أن فن المقاصد في كلامهم إنما هو كاشف عن سعي الشريعة في حفظ هذه الضروريات مكمَّلةً ما أمكن.
والمقصود أننا سنتناول علاقة المقاصد بقضية مقاومة العدوان ارتكازا على هذه المحفوظات الكلية الخمسة، في مراتب حفظها الثلاث:
الضرورية: وهي المصالح التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها، بحيث لا يستقيم النظام باختلالها، فإذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش  .
والحاجية: وهي المصالح التي تحتاج الأمة إليها لاقتناء مصالحها، وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لما فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة .
والتحسينية: وهي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم؛ حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبا في الاندماج فيها، أو في التقرب منها  .
وهذه التعريفات التقريبية للعلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى آثرناها لسبقه في إظهار بُعد الأُمة في الكلام عن المقاصد ومصالحها. واستصحاب ذلك المعنى في كلامنا عن مقاومة العدوان على الأمة مهم في دفع النزعة الفردية بخصائصها الاعتزالية والآنية، وأسبابها الفكرية أو الطبعية، والتي تعوق النظر الجمعي والمرحلي في قضية المقاومة. فـــ"لو خرجنا من محيطنا الضيق، ... ثم وسعنا الرؤية أكثر فأكثر، ونظرنا إلى العالم الإسلامي، وحللنا الصراع الدائر فيه بين المسلمين، وتكالب قوى الشر العالمية عليه، ودرسنا بعمق مشكلة اليهود والقدس: ما وقعنا نحن المسلمون في المشكلة التي نحن فيها؛ وذلك لأن الواحد منا لا يرى إلا ما تحت أنفه، ولا يفكر إلا في نطاق دائرته الضيقة" .

المبحث الثاني: في مفهوم العدوان.
العدوان: من عدا عليه عدْوًا وعداءً وعدوانًا: ظلمه وتجاوز الحد . والعدوان والاعتداء قد يكون  بقصد من المعادي نحو : ((فإن كان من قوم عدو لكم)) [النساء / 92] ، أو لا بقصده بل تعرض له حالة يتأذى بها كما يتأذى مما يكون من العدى ، نحو قوله : ((فإنهم عدو لي إلا رب العالمين))[الشعراء / 77] ، وقوله في الأولاد : ((عدوا لكم فاحذروهم))[التغابن / 14]. وقد يكون: ابتداءً أو على سبيل المجازاة، فالأول محظور كما في قوله تعالى: ((ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) [البقرة / 190]، والثاني مشروع كما في قوله تعالى: ((فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم))[البقرة / 194] ، أي : قابلوه بحسب اعتدائه وتجاوزوا إليه بحسب تجاوزه. 
ولسنا بصدد التفصيل اللغوي للعدوان، وإنما قصدنا استيضاح الاستعمال القرآني للكلمة؛ لبيان ثلاث نقاط:
أولا: أن أمتنا ليست أمة عدوان، إلا على جهة المقابلة والمجازاة، فمقاومة العدوان وإن ظهرت في صورة الاعتداء فليست في حكمه.
ثانيا: أن العدوان على الأمة قد لا يكون مقصودا من صاحبه؛ بل ولو أعلن حسن قصده ونبل هدفه، فيكفي لمقاومته ودفعه أن تتأذى منه الأمة.
ثالثا: أن العدوان أوسع وأشمل من الاعتداء المادي، وإنما يحصل بكل ظلم ومجاوزة للحد.
والنقطتان الأخيرتان توسع لنا صور العدوان، قصدا وأثرا.
هذا وقد اتفق كل من تكلم في قضية القتال على أن العدوان من أسباب إعلان القتال في الإسلام ، ويمكن تعريفه بأنه "حالة اعتداء مباشر أو غير مباشر على المسلمين أو أموالهم أو بلادهم، بحيث يؤثر في استقلالهم، أو اضطهادهم، وفتنتهم عن دينهم، أو تهديد أمنهم وسلامتهم، ومصادرة دعوتهم، أو حدوث ما يدل على سوء نيتهم بالنسبة للمسلمين بحيث يعتبرون خطرا محققا، أو يتطلبون حذرا واحتياطا" . وهذه المحاولة لتعريف العدوان توسع التصور لمفهومه، وتُدرج تحته – ولو بالتلازم – صورا من العدوان المعاصر، فلا يقتصر على غزو عسكري، أو قتل للمسلمين مثلا، وإنما يتسع ليشمل كل صورة من الاعتداء -الذي هو الظلم- تقع على تلك الأمة، جماعة وآحادا، بل كل صورة من التأذي والانتقاص لها، ومقدراتها، وخصائصها، ووظيفتها التي أنيطت بها.
فإعاقة إرادة الأمة في العودة إلى شريعتها، والتمسك بدينها - فضلا عن سلبها - لهو من أعظم العدوان؛ ولو ادعى صاحبه قصدا حسنا، أو كان منتسبا للأمة، من جلدتها ويتكلم بلسانها.
والغزو الفكري وحرب المفاهيم عدوان صارخ، إذ يصيب الأمة في خصائصها، ويشوه منها معالمها، ليمنعها عما أخرجها الله تعالى له من وظيفة القوامة، ومكانة الخيرية، ومرتبة الوسطية. وإن "ثَم مكرا كبارا يستهدف إحلال المفاهيم الإسلامية المستمدة من مصادر الشريعة، وهو إحلال يتوازى مع تغييب المفاهيم الإسلامية، فتولد ألفاظ وتُنشأ مفاهيم تخدم رؤية الغرب وفكره وهيمنته. وليس صنع المفاهيم ونشرها عملا علميا، بل أضحت دوائر الاستخبارات ومراكز الفكر الموجه عالميا تصنع المفاهيم، وتبثها عبر الإعلام؛ لتحقيق أهداف تتعلق بالصراع الحضاري والفكري بين الأمم ... ومشكلة المفاهيم المعاصرة أن وسائل الإعلام والاتصال جعلت المفاهيم تخترق الحدود وأصبح المخاطب بالمفاهيم عامة الناس" .
والمقصود أن العدوان على الأمة واسع وضارب في كل جهاتها، وهذا من قدر الله تعالى لها: أن تحيا في جهاد ومقاومة، حتى تكون في حاجة إلى الله تعالى وشرعته أبدا.
ولعلنا نزيد هذا المعنى بيانا في الفصل التالي بإذن الله وتوفيق.

 

الفصل الثاني: مقاومة العدوان وعلاقته بالمقاصد الشرعية

كما ذكرنا في المبحث السابق؛ فإن العدوان على الأمة ذو مظاهر ومراتب مختلفة متباينة، لكنها ترجع إلى حقيقة واحدة؛ ألا وهي: تعطيل وظيفة الأمة.
وإذا نظرنا إلى تشعب مظاهر العدوان، وما تطمع فيه من أهداف لم نجد حقولها تخرج عما ذكرناه من مقاصد الشريعة في كلياتها المحفوظة. فإن أهل العلم ذكروا أن حفظ هذه الكليات إنما يأتي من جهتين:
الأولى: التحصيل والإيجاد، وذلك بتوفير أسباب وجودها وشرائط تحصيلها.
والثانية: العدم: أي بسد ذرائع نقصها، ومدافعة قواطع بقائها.
يقول الإمام الشاطبي متكلما عن حفظ تلك المصالح: " والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم" .
وهذا يعني أن كل ما يحصل به اختلال فهو مدفوع مقاوَم ضرورةَ حفظ هذه الكليات الشرعية من جهة العدم. فإذا لم يدفع ويقاوم وقع الخلل، وحصل العطب في هذه المصالح.
فالعدوان على ثوابت الأمة وعقيدتها مخل بحفظ دينها، والعدوان على أهل الدين في أنفسهم وكرامتهم وحريتهم مخل بحفظ النفس، والعدوان على مقدرات المسلمين وثرواتهم مخل بالمال، والعدوان على فكر المسلمين وحضارتهم وتدسية أخلاقهم، وإفساد نظمهم التعليمية لمخل بالعقل والنسل ... وهكذا.
وهذه المصالح الكلية المحفوظة يحيى عليها قِوام الأمة، جماعة وآحادا؛ بحيث لا توجد الأمة إلا بها. ولا يعني ذلك أن تتلاشى من الوجود بالكلية، وإنما المقصود أن توجد معطلة عن وظائفها كما تقدم، يقول العلامة ابن عاشور: "ولست أعني باختلال نظام الأمة هلاكها واضمحلالها، لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم في الوثنية والهمجية، ولكني أعني به أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها" . ولا يقتصر الأمر عند ابن عاشور على الواقع الحالي فحسب، وإنما يتجاوزه إلى النظر المآلي بما يتوقع حصوله آجلا، يقول رحمه الله: " وقد يفضي بعض ذلك الاختلال إلى الاضمحلال الآجل بتفاني بعضها ببعض، أو بتسلط العدو عليها إذا كانت بمرصد من الأمم المعادية لها، أو الطامعة في الاستيلاء عليها" .
والمقصود أن العدوان في صوره المختلفة كأنما أحيل على وسائل العدم في تلك الكليات الضرورية، فتتبع آثارها، وضرب في كل شعبة منها؛ يريد ضياع الأمة بضياع مصالحها. فمقاومة هذا العدوان من أعظم واجبات الشريعة، بل هو أعظم مقاصدها؛ إذ تحصل به مصالح تلك المقاصد وغاياتها، من حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.
وهذه المقاصد الضرورية التشريعية قد فطر الله تعالى الخلق على حفظها، باستيفاء أسباب إيجادها، ومقاومة أسباب عدمها، إذ لا يحصل صلاح ولا إصلاح إلا بها، يقول العلامة ابن عاشور:" فالأصول الفطرية التي خلق الله عليها الإنسان المخلوق لعمران العالم، وهي إذًا الصالحة لانتظام هذا العالم على أكمل وجه، وهي إذًا ما يحتوي عليه الإسلام الذي أراده الله لإصلاح العالم بعد اختلاله ... فالزواج والإرضاع من الفطرة وشواهده ظاهرة في الخلقة، والتعاوض وآداب المعاشرة من الفطرة؛ لأنهما اقتضاهما التعاون على البقاء، وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة، والحضارة الحقة من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة من الفطرة؛ لأنها نشأت عن تلاقح العقول وتفاوضها " .
فمقاومة العدوان أمر ضروري من الفطرة، ولذلك فإنه -بعيدا عن المقاصد التشريعية -  تستلزمه مقاصد الخلق والتكوين، وهي وإن كانت غير متلازمة مع المقاصد التشريعية ، إلا إنها قد تقع مواقعها، وتؤيد غايتها، كما في قوله تعالى: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) [الذاريات / 56]، فالعبادة مقصد تكويني، وهو كذلك تشريعي تكليفي . وكثيرا ما نجد المقاصد التكليفية التشريعية تلبي حاجة الفطرة ومقاصد الخلق، وفي مثله يقول الإمام العز بن عبد السلام: " اعلم أن الله تعالى خلق الخلق، وأحوج بعضهم إلى بعض؛ لتقوم كل طائفة بمصالح غيرها، فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر، والأصاغر بمصالح الأكابر ... وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما أو إلى دفع مفاسدهما أو أحدهما" .
وقد جمع الله تعالى بين المقصدين في ذكر المدافعة- أي: المقاومة- وبيّن سبحانه أنها ضمان صلاح العالم، وإلا وقع الفساد، وذلك قوله تعالى: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)) [البقرة / 251]. فالمدافعة - أو المقاومة - أمر كوني قدري، ومقصد تكويني خَلقي، كما أنه مقصد تشريعي تكليفي. فمقاومة العدوان ومظاهر الفساد وخطط الإفساد لمن فضل الله تعالى قدرا وشرعا، على الناس عامة، وعلى تلك الأمة خاصة، فلله الحمد أن جعلنا مسلمين.
ومن لطيف الإشارة مما يتعلق بهذا المعنى وبما نحن فيه من موضوع المقاومة ما جاء في فضل الشام، وأن الطائفة المنصورة من أهله ومرابطيه، مثل ما رواه معاوية رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم ظاهرون على الناس). فقام مالك بن يخامر السكسكي، فقال: يا أمير المؤمنين سمعت معاذ بن جبل يقول: وهم أهل الشام. فقال معاوية ورفع صوته: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذا يقول: وهم أهل الشام" . فإننا نجد ذلك تحقيقا لمقصدين، الأول: تكويني خلقي، إذ فضّل الله تعالى أرض الشام وقدّسها وباركها، وجعلها أرض الملاحم والمحشر، فلا تزال موضع البركة، وموقع الملحمة.  أما الثاني: فتشريعي تكليفي، فلا يخلو زمان من جنود تهفو إلى الجهاد والمقاومة فيها، صامدة مستبسلة، رغم شدة العيش، وقلة الناصر، وعظيم المؤامرة، وكثرة الأعداء. وهل يمكن تفسير ذلك الصمود في فلسطين ثم سوريا إلا في ضوء تلك المقاصد التكوينية، والتي يؤيَّد بها هؤلاء المصابرون المتحققون بمقاصد الشرع والدين؟!! فلله درهم.
والمقصود أن مدافعة العدوان ومقاومته كما هو واجب في الضروريات الشرعية، فإنه ضرورة فطرية، ولازم للمقاصد التكوينية.
ومما ينبغي التأكيد عليه هنا أنه برغم أن مقاومة العدوان بصورها المختلفة – كالجهاد – لا يتردد أحد في كون أحكامه كلها معللة، معقولة، جملة وتفصيلًا ؛ إلا أن فيها حِكما لا تتعلق بالمعقول من إصلاح المعاش فحسب، ولا تدرك إلا بالوحي. وكم من "فعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة، لا يهتدي إليها العقل، فلا تعلم إلا بالشرع" ؟! وإن هذه المصالح "التي تقيمها الشريعة لا تعرف الحدود ولا الحواجز، فتشمل الحياة الأخرى كما تشمل الحياة الدنيا سواء بسواء" .
وكذلك ما يترتب على تلك المصالح من الحكم لا ترجع إلى الإنسان وتتعلق به فقط، وإنما كذلك من ورائها حكم تتعلق بالله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة كما قال : (( صنع الله الذي أتقن كل شيء )) [النمل / 88]، وقال : (( الذي أحسن كل شيء خلقه )) [السجدة / 7]. وهو سبحانه غني عن العالمين. فالحكمة تتضمن شيئين : أحدهما : حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها . و الثاني: إلى عباده هي نعمة عليهم، يفرحون بها ويلتذون بها ؛ وهذا في المأمورات وفي المخلوقات . أما في " المأمورات " فإن الطاعة هو يحبها ويرضاها ، ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يعرفه الناس، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه، فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه، ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة، وذلك مما يفرح به العبد المطيع، فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده ؛ قال تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم . وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ))[الصف / 10- 13]. ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها : وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار. وقد قال في أول السورة : (( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص )) [الصف / 4]، فهو يحب ذلك ؛ ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى، وفيه رحمة للعباد، وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة، هكذا سائر ما أمر به، وكذلك ما خلقه، خلقه لحكمة تعود إليه يحبها، وخلقه لرحمة بالعباد ينتفعون بها" .
وما ذكره شيخ الإسلام من أمر القتال فهو صورة من صور المقاومة، بل هي أعلاها وأشرفها، فالكلام على ارتباط المقاومة بالمقاصد الشرعية ومصالحها يتجاوز بذلك محدودية الإنسان، بل ومحدودية الدنيا، في كل شأنهما، يتجاوزه إلى ما يتعلق بالله العظيم، من حبه ورضاه واصطفائه، ثم ما يكون من أثر ذلك على العبد في الدارين. فلم تعد المقاومة تحقيقا لمقاصد محبوسة في طاقة الخلق، ولا تحصيلا لمصالح مؤقتة على المعاش فحسب، وإنما صارت المقاومة عائدة إلى الله تعالى، منتسبة إليه، محصلة حِكما تتعلق به سبحانه وتعالى، فما أجلَّ ذلك المقصد؟! وما أشرف ذلك المشهد؟!.
كما أن ذلك المعنى يجعل مقاومة العدوان لا تسعى في حفظ كليات الشريعة من جهة العدم فحسب، بل تضعها في جهة الإيجاد والتحصيل، بل في أعلى مراتبها. فالمقاوم المجاهد باذل نفسه وماله وجهده في سبيل ربه، وإن هذا لمن أعظم أسباب تحصيل الإيمان، من حب الله ورسوله، وإيثار مرضاته وجنته، وتقديم الدين على كل أمره، أوليس ذلك إيجادا وتحصيلا للدين؟!. ولذلك نجد المجاهدين المصابرين على ثغور الإسلام أشد الناس صبرا، وأعظمهم توكلا، وأرجاهم في الآخرة، وأزهدهم في الدنيا، وكل ذلك دين وإيمان.
فالمقاومة حفظ للدين إيجادا وتحصيلا، كما هي دفع قواطعه، وإحراز بقائه.

 

الفصل الثالث: أثر وجوب المقاومة في حفظ الدين والنفس أنموذجا
   
المبحث الأول: أثره في حفظ الدين:
أولا: في رتبة الضروريات:
تقدم أن مقاومة العدوان سبب مباشر لتحصيل الدين وتوفيره في قلوب المكلفين، ومن ذلك قدر لابد منه لسلامة دين القلب، وصحة إيمانه، يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ""من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق"" ، فإن الحديث بين قدرا من الجهاد والمقاومة يكون أمنة لصاحبه من النفاق، فإذا فاته ذلك القدر اختل دينه وجرح في قلبه إيمانه. فهذا القدر ضروري لحفظ الدين.
وأما حفظه من جهة العدم فظاهر لا يخفى، فإنما شرع الجهاد في كل صوره لقطع موانع الدين، ومنع قواطعه. ومن ذلك القدح في عقيدة المسلمين، وتمييع ثوابت دينهم، وإعلان البدع وإشاعة الشبه في عقيدة أهل السنة والجماعة، فمقاومة ذلك برد الشبهات ودفع سهام الباطل، وتعليم المسلمين عقائدهم. فكل ذلك ضروري لحفظ الدين.
ومن ذلك إلهاء المسلمين عن أصول عبادتهم كالصلاة، بأنواع الحروب الإعلامية الشهوانية، وضروب التسلية الشيطانية، فضلا عن هدم مساجدهم، وتدنيس مقدساتهم. فيتعين مقاومة ذلك ودفعه بكل صورة، ودعوة الناس إلى التمسك والالتزام بأصول عباداتهم، قال الله تعالى: ((ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)) [الحج / 40]. فقد "أبان سبحانه أنه لولا دفع الله المشركين بالمؤمنين، وتسليط المؤمنين على دفعهم عن بيضة الإسلام، وكسر شوكتهم، وتفريق جمعهم لغلب الشرك على الأرض، وارتفعت الديانة، فثبت بهذا أن سبب بقاء الدين واتساع أهله للعبادة إنما هو الجهاد" ، والذي هو أعلى صور المقاومة.

 

ثانيا: في رتبة الحاجيات:
الحاجي خادم ومكمل للضروري ، بالتوسعة عليه، ورفع الحرج عنه، وقد ضرب الأصوليون الرخص المخففة – كالقصر – مثلا لحفظ الدين في تلك المرتبة  ، فمن حاجيات حفظ الدين هنا دفع كل تضييق على أهل الدين، يضعف أو يعوق تدينهم، والعمل بشرعة ربهم ، ومقاومة العدوان الواقع على جهة تيسير التدين على المسلمين، كالتضييق على المساجد ومجالس العلم ووسائل الدعوة، بإيجاد تلك الوسائل، أو استحداث وإبداع آليات أخرى يمكن من خلالها إعانة أهل الإسلام على تدينهم. والله أعلم.

ثالثا: في رتبة التحسينيات:
وهي المرتبة التي تخدم ما قبلها من الحاجي، فالضروري، وتكمل له وظيفته، كنوافل الطاعات والخيرات، وأنواع الطهارات ، بدنية أو باطنية، كمحاسن الأخلاق. ولا شك أن من أخبث العدوان على الأمة إباحة العري، واستمراء الدياثة، وإشاعة الفواحش ليتطبع عليها المسلمون.
ومقاومة ذلك بإيجاد وتحصيل تلك التحسينيات الدينية، بالدعوة وكشف المؤامرات أمام المسلمين، والتحذير من تلك المخططات الهدامة العادية، وحملهم على التخلق بنبيل الأخلاق، ومحاسن الآداب، مع التوسل بكل ما يمكن لإفشال هذه المخططات الغازية.

المبحث الثاني: أثره في حفظ النفس.
لا شك أن مقاومة العدوان على النفوس، ودفع الصيال على الدماء من أعظم وسائل حفظها، ورعاية حرمتها. وقد قال الله تعالى: ((ولكم في القصاص حياة)) [البقرة / 179]، أي: بقاء عظيم ، ففي القصاص إبقاء على النفوس، وبقاء لحرمتها. والمقاومة قد أنيط بها من الحكمة ما أنيط بالقصاص، وهذا من الخير المشار إليه في تشريع القتال في قوله تعالى: (( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم)) [البقرة / 216] يعني: إن فيه "خيرا كثيرا للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها. وللحق والخير والصلاح" . 
ولا يتوقف حفظ النفس على الناحية المادية فحسب، بل كذلك إلى المعنوي منها، فالعدالة – وهي قيمة معنوية – من صميم مقاصد الشريعة ، والكرامة، والعزة، والحريات العامة، وغيرها من مصالح الأمة العليا، وقيم النفس البشرية المعنوية وحاجاتها، والعدوان عليها موجب للمقاومة والدفع، تحقيقا لذلك المقصد . ويلحق بتلك المعاني الآداب وأخلاق التعامل بين الناس كتوقير العالم والكبير، ورحمة الصغير، فإن ذلك من تحسينيات حفظ النفوس . وإن الحملة الشرسة على قيم النفس وأدبها في بلاد المسلمين لمن أعظم العدوان المستوجب مقاومته.
كما أن مقاومة العدوان ومدافعة الظلم يحصل للنفس قيما وأخلاقا لا تكون إلا به، كالشجاعة والنجدة والجود، حيث يستزرعها الظلم، لتنبت فيها طاقات المواجهة وتنمو، مع ما تستلزمه من سجايا. بل كلما قويت شوكة الظلم وزادت أسباب الهزيمة على أسباب الغلبة، قويت في النفس تلك المعاني . فالمقاومة ساعية في حفظ النفس من جهة إيجاد حاجاتها من المعاني والقيم، وتحصيل تحسينياتها من الآداب، كما في جهة العدم.
ونؤكد هنا على أن حفظ المقاومة للنفس بمعناها الكلي لا يعني عدم بذل آحادها في سبيل الدين كما ذكرنا من قبل. بل إن مقاومة العدوان هي أعظم الوسائل وأقربها لبذل النفوس لله تعالى؛ تقديما للدين على النفس ، والمصلحة العامة على الخاصة . وهذا البذل في الحقيقة إحياء للنفس، لكن حياة أرقى وأبقى، ولا يكون ذلك إلا بالمقاومة والجهاد في سبيل الله تعالى، قصدَ إعلاء كلمته، ونصرة دينه، وحفظ مقاصد شرعه، ألم يقل الله تعالى: (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)) [آل عمران/ 169]؟!.
فمثلا: "لو أن طيارا مسلما تأكد من وصوله إلى قلب إسرائيل وإلحاق الضرر الجسيم بها مع بث الرعب والخوف في نفوس شعبها، وتحطيم الروح المعنوية فيها، فإنه يجوز له الإقدام في هذه المخاطرة، مع تيقنه من أنه لا يعود حيًا إلى وطنه" . وإنما يكون ذلك منضبطا بحصول النكاية في الكفار، وتحقيق مصلحة المسلمين، حالا ومآلا، وإلا فلا. و"يكفي فيه غلبة الظن، فإن الظن كالقطع في الشرعيات" . والله تعالى أعلم.
  

الخاتمة:
- تكلم البحث عن مفهوم المقاصد الشرعية، وتقسيمها بحسب اعتبارات مختلفة، وإن كان ذلك في الجملة يعود إلى محفوظات الشريعة وكلياتها الخمسة: من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
-    حفظ الشرع تلك الكليات من خلال مراتب ثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات.
- تأتي مقاومة العدوان بصوره المختلفة لتحقق تلك المقاصد، وتحصل هذه المحفوظات، إذ كانت واجبا دينيا أنيطت به الأمة أفرادا وجماعة.
-    نرى بوضوح أن العدوان على الأمة يضرب بسهم في كل ناحية منها، يطلب شيئا واحدا؛ ألا وهو: تعطيلها عن وظيفتها، من القوامة والاستعمال باستخلاف الله تعالى لها. وحقول عمل ذلك العدوان يقع مواقع تلك الكليات الشرعية لينقضها أو ينقصها؛ فمقاومته عين تحصين تلك المقاصد، وإحراز بقائها، وحفظها من جهة العدم.
-    المقاومة أمر قدري، ومقصد تكويني، وتكليف تشريعي.
-    لا يمكننا تصور الأمة بخصائصها وكرامتها وعزتها إلا بفضيلة الجهاد والمقاومة.
-     إذا كان القتال في سبيل الله هو أعلى صور المقاومة، فإن المقاومة بالكلمة، والجهاد بالبيان متعين وواجب لسد ثغور مقاصد الشريعة، ورد العدوان والغزو الفكري عنها.
-    أعظم المقاصد والكليات وأولاها هو حفظ الدين، وهو مقدم على حفظ النفس فضلا عما سواها. والمقاومة صورة يتحقق فيها حفظ الدين ببذل النفس فإحيائها عند ربها، حياة أرقى وأبقى.

ثبت المراجع والمصادر:

1-    القرآن الكريم
2-    آثار الحرب في الفقه الإسلامي. وهبة الزحيلي. دار الفكر بدمشق، ط3، 1419هـ.
3-    الاجتهاد المقاصدي. نور الدين خادمي. كتاب الأمة. وزارة الأوقاف بقطر- ط1-جمادى الأولى 1419هـ.
4-    الإحكام في أصول الأحكام.العلامة الآمدي. المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق.
5-    اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات. عبد الرحمن بن معمر السنوسي. دار ابن الجوزي، ط1-1424هـ.
6-    إعلام الموقعين. الإمام ابن القيم. دار الكتب العلمية – ييروت، ط1، 1411هـ.
7-    البحث في مقاصد الشريعة: نشأته وتطوره ومستقبله. أحمد الريسوني.  بحث مقدم لندوة مقاصد الشريعة، التي نظمتها مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن،  من 1 إلى 5 مارس 2005.
8-    بناء المفاهيم ودراستها في ضوء المنهج العلمي"مفهوم الأمن الفكري أنموذجا". عبدالرحمن اللويحق، بحث في المؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري 23-25 جمادى الأولى 1430هـ.
9-    تأصيل فقه الأولويات. محمد همام ملحم. دار العلوم بالأردن- طبعة وزارة الأوقاف القطرية.
10-    تفسير الجلالين. الإمامان: المحلي والسيوطي، بهامش القرآن الكريم، دار ابن كثير بدمشق ط9.
11-    جامع البيان في تأويل القرآن. الإمام ابن جرير الطبري. دار الإعلام بالأردن، ودار ابن حزم ببيروت، ط1،  1423هـ.
12-    الجامع المسند الصحيح. الإمام البخاري، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. دار طوق النجاة، ط1، 1422هـ.
13-    الجهاد والقتال في السياسة الشرعية. محمد خير هيكل. دار البيارق- دار ابن حزم.
14-    حجة الله البالغة. العلامة الدهلوي. دار الجيل، ط1 ، 1426هـ.
15-    حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة. الريسوني، والزحيلي، وشبير. تقديم: عمر عبيد حسنة. كتاب الأمة العدد:87 - محرم 1423هـ .
16-    خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم. فتحي الدريني. دار الرسالة بدمشق، ط2، 1434هـ.
17-    دراسات تطبيقية حول فلسفة المقاصد في الشريعة الإسلامية. عبد الرحمن صالح بابكر. تقنية للطباعة المحدودة، ط1، 1422هـ.
18-    روضة الناظر وجنة المناظر . للإمام ابن قدامة. مؤسسة الريّان، ط2، 1423هـ.
19-    الشاطبي ومقاصد الشريعة. حمادي العبيدي. دار قتيبة – ط1 – 1412هـ.
20-    شفاء الغليل . للإمام أبي حامد الغزالي. مطبعة الإرشاد – بغداد، 1390هـ.
21-    فتح الباري بشرح صحيح البخاري. الإمام ابن حجر العسقلاني. دار المعرفة- بيروت 1379هـ.
22-    الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده. أحمد الريسوني. كتاب الجيب- جريدة الزمن. 
23-    قواعد الأحكام في مصالح الأنام. الإمام العز بن عبد السلام. دار المعارف بيروت – لبنان.
24-    قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي. عبد الرحمن الكيلاني. المعهد العالمي للفكر الإسلامي- دار الفكر- دمشق ط1 – 1421هـ.
25-    لسان العرب. العلامة ابن منظور. دار صادر – بيروت ط3 ، 1414هـ.
26-    مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. جمع عبد الرحمن النجدي وابنه محمد.  ط 1، 1398هـ.
27-    مسند الإمام أحمد. تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرون. مؤسسة الرسالة. ط1.
28-    المسند الصحيح المختصر، المشتهر بصحيح مسلم. الإمام مسلم النيسابوري. تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي ، دار إحياء الكتب العربي-بيروت.
29-    مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق. الإمام ابن النحاس. دار البشائر الإسلامية-بيروت، ط3، 1423هـ.
30-    معجم مقاييس اللغة. العلامة ابن فارس. دار الفكر، 1399هـ.
31-    المعجم الوسيط. مكتبة الشروق الدولية، ط4، 1425هـ.
32-    مفتاح دار السعادة. الإمام ابن القيم، دار الكتب العلمية – بيروت.
33-    المفردات في غريب القرآن. العلامة الأصفهاني. دار العلم الدار الشامية، دمشق-بيروت، 1412 هـ.
34-    مقاصد الشريعة الإسلامية. العلامة الطاهر بن عاشور. دار النفائس بالأردن- ط2 .
35-    مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها. العلامة علال الفاسي. دار الغرب الإسلامي، ط5.
36-    مقاصد الشريعة عند ابن تيمية. يوسف أحمد البدوي، دار النفائس بالأردن، ط 1.
37-    المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. يوسف حامد العالم. المعهد العالمي للفكر الإسلامي- الدار العالمية للكتاب الإسلامي. ط2 1415هـ.
38-    الموافقات. الإمام الشاطبي. دار ابن عفان. ط1، 1417هـ.
39-    نحو تفعيل مقاصد الشريعة. جمال الدين عطية. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.دار الفكر بدمشق، ط1 رجب 1422هـ.
40-    نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي. أحمد الريسوني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الناشر: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط2 - 1412 هـ.