21 رجب 1435

السؤال

السلام عليكم... في البداية أشكر لكم مجهوداتكم في تقديم استشاراتكم المفيدة، وجزاكم الله عنها كل خير... أنا عمري ٢٩ سنة ومقبلة على الزواج بنهاية هذا العام، ولكن بعد أن تمت الخطبة تذكرت موقفاً حصل معي وأنا طفلة، كان عمري حينها خمس سنوات حين تحرش بي قريبي مرتين بشكل كامل، وكان عمره ١٠ سنوات، وقد هددني هو وأخته إذا أخبرت أمي بالأمر، ولأني طفلة خفت ولم أخبرها، ومع الوقت نسيت هذا الموضوع، خصوصا أني حينها لم يحدث لي نزف أو ألم، فالوساوس تطاردني، وأخشى الذهاب إلى طبيبة للكشف، لأنني لا أستطيع تحمل النتيجة، ومجرد تفكيري في هذا الموضوع يصيبني بالانهيار، وحتى لو أخبرت أهلي فلن يصدقوني، وسأدخل في متاهات لا حصر لها. وأنا والله العظيم حريصة على ديني، حتى العلاقات العابرة لم أمر بها، ولا اعرف لماذا حصل لي هذا، وهل من الممكن أن طفلا عمره عشر سنوات يفض غشاء البكارة؟؟؟ أرجو منكم المساعدة بالله عليكم، فقد تعبت وأرهقتني الحيرة..

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي السائلة الكريمة، بداية أشكر لك رسالتك، وطرحك لاستشارتك، ولقد آلمني الحادث الذي تعرضت له في مرحلة طفولتك، وما تركه من ذكرى مؤلمة بحياتك، ما زالت بصمة آثارِها السلبية محفورة بنفسيتك، زيادة على ما تشعرين به من قلق من كثرة ما تراوِدُكِ من الوساوس والمخاوف، من طول التفكير بتلك الحادثة وما ألحقته من ضرر بعذريَّتك، حتى أصابك الشعور بالانهيار، والرَّهبة من الإقدام على الزواج..
وهذه المشكلة ـ أختي الكريمة ـ يتعرض لها كثير من الأطفال وبأعداد مهولة، حتى تحولت لظاهرة تفشَّت داخل مجتمعاتنا..
لأسباب عديدة أذكر منها:
ـ أن التحرش الجنسي يساهم في تفشِّيه تدهور مستوى الثقافة الإسلامية والالتزام بأحكامها، وضعف الوازع الديني، نتيجة التربية المتحرِّرة، وغياب وظيفة الأسرة في الإرشاد وتنشئة الأبناء على الاستقامة والصلاح، ولى رقابة الله في السر والعلن، وبث الأخلاق والقيم الدينية في قلوبهم ووجدانهم..
ـ إهمال الأُسَر للتربية الجنسية لأطفالهم بالشكل الذي يتناسب مع مراحلهم العُمْرية ومستوى فهمهم واستيعابهم، يجعلهم جاهلين بخطورة ما يتعرضون له من أنواع التحرُّش، غير قادرين على تمييز التصرفات الطبيعية من غير الطبيعية، والأفعال السَّوية من المخالفة للفطرة السوية، وتقبُّلهم للتحرش والاغتصاب كأنه أشبه بممارسة للعبة مسلية، أو لتصرف غير مؤذي ولا مضر بحرمة أجسادهم..
ـ الانبهار بالثقافة الغربية، والانفتاح على عادات وتقاليد وأخلاق مخالفة للثقافة وللأخلاق العربية والإسلامية الأصيلة..
ـ الانفتاح الإعلامي والتكنولوجي الذي صار يسمح للكبار وحتى الأطفال بالاطلاع على مواقع وقنوات إباحية، ومشاهدة الصور والأفلام التي تفسد أخلاقهم، وتنحرف بفطرتهم السوية، وتشحن مشاعرهم وذاكرتهم بأفكار تضر بهم، نتيجة عدم وجود ضوابط تحكمهم، وهدم وجود متابعة ورقابة أسرية تحميهم من الاطلاع على هذه المصادر المخِلََّّة بالدين والأدب والأخلاق..
ـ الثقة الزائدة للأُسَر بأقاربهم ومنحهم صلاحيات أكثر من اللازم، وجعلهم أمناء على أطفالهم، والاختلاء بهم بدون رقابة ولا متابعة، مما نتج عنه حالات كثيرة من التحرش بالأطفال والتي كان أبطالها هم من الأقرباء وحتى من الأهل المعتبرين من المحارم..
ـ افتقاد الأطفال للاحتواء وللدفء الأسري، وعدم شعورهم بالأمان والحماية، وعدم وجود روابط التواصل الإيجابي بينهم وبين أسَرهم، وقطع جسور الثقة بينهم تحت ضغط الترهيب والتهديد، والخوف من َردَّات أفعالهم ومن عقابهم، لهذا فأغلب حالات التحرش على الأطفال تظلُّ طَيَّ الكتمان، تصاحبهم عبر مراحل عمرهم..
وهذه بعض الأسباب التي جعلت حالات التحرش تتفَشَّى في مجتمعاتنا، وغايتي من ذكرها ـ أختي الكريمة ـ هي: الكشف من جهة عن أصل الداء حتى يتيسر العلاج، ومن جهة أخرى ففي طرح قصتك عبرة للآباء للاضطلاع بوظيفتهم التربوية الحقيقية، وتوثيق روابط التواصل والثقة بينهم وبين أطفالهم، حتى يكونوا دائما على علم بما يحدث لهم في الخفاء، وما يتعرضون له من أنواع الأذى، فيتداركون علاجها قبل استفحالها، ويتحمَّلون مسؤوليَّتهم في حماية أبنائهم من الجُناة والمتحرِّشين بهم، والحرص على سلامتهم، بأخذ القدر اللازم من الحيطة والحذر حتى مع أقرب الأقرباء إليهم، تطبيقا لقاعدة جليلة في شريعتنا الإسلامية وهي قاعدة سد الذرائع، ولتذكير الآباء بواجبهم المتمثل في تحقيق الرعاية الكاملة لأبنائهم تطبيقا لما أمرهم به الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه) وفي حديث آخر في الصحيحين: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته..)..

ومن الإرشادات التي أقدمها لحل مشكلتك ما يلي:
أولا: اسْتنْبطي الحكمة التي من أجلها ابتلاكِ الله تعالى بهذا الابتلاء العظيم، ولا تعترضي على أقدارِه خيرها وشرِّها، فلعل الله ما امتحنك في الصِّغَرإلا ليُؤَهِّلك لحياةٍ أفضل وأجمل في الكِبَر، فإن وراء كلِّ محنة منحة، ووراء كلِّ بلاء نعمة مهداة وعطِيَّة مُسْداه، فلا تتحسَّري على ما فاتك، وحاولي نسيان ماضيك المؤلم، وكل ما تعرضت له من جرح آلمَك، وخُذي مما حدث لك العبرة، ولا تتذكَّري إلا الأحداث الجميلة التي تبعث همَّتك على السعي والعمل الطَّيِّب النَّافع، وقوِّي بداخلك مشاعر التفاؤل بالآتي وبمستقبل أفضل، وحياة سعيدة مع زوج من أهل الصلاح والاستقامة، والفرح بما أعَدَّه الله يوم القيامة لمن ابتلاهم في الدنيا فصبروا واحتسبوا ما عنده من أجر وثواب عظيم، ومقام رفيع، فعن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيض)
ثانيا: تجاوزي محنتكِ القديمة، واحْمَدي لله تعالى لأن ما تعرضت له كان في مرحلة الطفولة، فتحملت آثارها النفسية، واستطعت نسيانها مع مرور الزمن، وحَرِصْتِ على دينك وحماية نفسك من الوقوع في علاقات شاذة أو محرمة..
ثالثا: أما بالنسبة لقلقك بشأن عذريتك نتيجة لتعرُّضِك للتحرُّش في سن الخامسة على يد ابن عمتك الذي كان يبلغ سن العاشرة، فأعتقد بأنه في مثل حالتِك من المُسْتَبْعَد جدا أن تكوني فقدت عذريَّتك، أو أن يكون ابن عمتك ـ في مثل سنِّه ـ قد تمكَّن من اغتصابك بشكل كامل، والذي يؤكد هذا الاحتمال ويرجِّحُه هو: ما ذَكَرْتِِه في رسالَتِك بأنَّكِ لما تعرُّضت لذلك الحادث لم تظهر عليكِ أي آثار للاعتداء عليك من حدوث نزيف أو خدوش، ولم تشعُري بأي إحساس بالألم، ولهذا السبب فإنَّني أتوقَّع بأنَّ ما حصل لك لا يتعدَّى أن يكون اعتداءً خارجِيًّا، أو مجرد محاولة من ابن عمتك لتقليد أو تمثيل ما شاهده أو اطلع عليه من ممارسات جنسية بين الكبار البالغين، لكنه لم يصل لحدِّ الاغتصاب الكامل، ومع أنك تتذكَّرين كل ما حصل معك وقتها، إلا أنني لا أظنُّكِ في مثل سنِّك الصغيرة جدا تدركين طبيعة العلاقة الجنسية الكاملة وتعرفين تفاصيلها، وبالتالي فلن يكون حُكْمُكِ على ما حدث إلا ناتجا عما استقبله إحساسُكِ الفطري الذي يميِّز الخير من الشر، والصَّواب من الخطأ، وبالتالي فما يمكن أن تحتفظي به في ذاكرتك ومخيِّلتِك الصغيرة عن تلك المرحلة هو أنك قد تعرضت لنوع من الأذى أو التحرُّش الجسدي، مع جهلك بحجم الضََّّرر الذي لحِقَ بك، ومستوى خطورته..
رابعا: من باب الحرص وقطع الشك باليقين أنصحك أختي الكريمة بأن تعرضي نفسك على طبيبة مختصة، وتقومي بعمل كشف طِبِّي حتى تطمئني على حالتك، وتتأكدي من عذريَّتك..
خامسا: حاولي أن تستعيدي ثقتك بنفسك، فما حدث لك لا يد لك فيه ولا إثم عليك، لأنه داخل تحت قاعدة ما اسْتُكْره عليه الشخص، وقد نبه إلى هذا الحق سبحانه في قوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)، وأكد عليه الحديث الشريف: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وفي حديث آخر: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق)..
سادسا: تخلَّصي من الإرهاب النفسي الذي تعيشين فيه، وتحرَّري من مخاوِفِك وهواجِسِك، فأنت لم ترتكبي معصية والعياذ بالله لتخجلي من ذكرها أمام أهلك، أو تحاسبي نفسك بأشدِّ العقاب والتعذيب، بل المفروض أن تعالجي مشكلتك بمصارحة أحد أفراد أسرتك ممن تثقين برجاحَةِ عقلِهم، وقدرتِهِم على الإنصات لمشكلتك وتفهُّمِها، ومساعدتك في حلِّها بهدوء، وفي جو من الكتمان والسَّتر لئلا تشيع بين الغرباء، ويؤثر ذلك على سمعتك ومستقبلك في الزواج..
سابعا: اكْسري الحاجز الذي بينك وبيْن والدتك، واسْتَجْمِعي شجاعتك، وشاركيها ولو جزءا من معاناتك، وآلامك، وتتجاذبي معها أطرافَ الحديث، فلن تجِدي قلبا يحبُّكِ كحبِّها، أو يخاف عليكِ كخوفِها على مصلحتك، ولن تجدي صدرا أحنَّ عليك كصدرها لتشتكي إليه..
ثامنا: جدِّدي حياتك وابْدَئي مرحلة جديدة، استعدادا لبناء حياة زوجية سعيدة ومستقرة نفسيا، أعيدي بناء جسور الثِّقة بينك وبين أسرتك والمحيطين بك، وبادِري بترميم ما يمكن ترميمُه من مخلفَّات الماضي وتأثيرها على صحَّتك الجسَدِيَّة والنَّفسِيَّة، وتركيز اهتمامك على الجوانب الإيجابيَّة والمشرقة في شخصيتك، وعلى الإنجازات التي حقَّقتها في حياتك، وترويض نفسك على الاعتماد على قدراتك الشخصية ومؤهلاتك الذاتية، لمواجهة مشاكلك والمواقف الصعبة بحياتك بإيجابية وجرأة وبدون خوف أو تردد، وصَقْلِ شخصِيَّتك، وفَهْمِ ما ينتابُكِ من مشاعِر، وتمرينِها والسيطرة عليها بشكلٍ أفْضل، بتحويل نقاط ضعفِك إلى نقاط قوة ورَفْعِ مستوى كفاءاتِك ومؤهِّلاتِك..
تاسعا: ارْبطي أواصر المحبة مع من تثقين بصلاحهن ومن تتوسَّمين فيهن الخير، حتى تشدِّي بهن أزْرَكِ، وتتعاوني معهن على طاعة الله، وتوجيه تفكيرك فيما هو نافع لك ولمن حولك، وإدارة وقتك إدارة رشيدة ومتوازنة، بين العبادات والإنجازات، وأداء الحقوق والواجبات، وطرد وساوس الشيطان والأفكار الكئيبة والمُحْبطة بتخلُّصِك من عزلتك وانْطِوائك، والتعوُّد على الاجتماعَ بالناس والتفاعل معهم ومشاركتهم أحاديثهم ومقترحاتهم ومناقشتهم أفكارهم..
وختاما أقول لأختي الكريمة: اجعلي ثقتك في الله أكبرة، وأملَكِ فيه أعظم، ولا تيأسي مِن لطفه بك، ولا تَقنطي مِن رحمته وكرمه وأفضالِه عليك، فرحمَته وسعتْ كلَّ شيء، وأَصْلحي ما بينك وبينه ليصلح ما بينك وبين خلقه، وتقرَّبي إليه بالطاعات يقرِّب إليك تحقيق الآمال وما تشتهيه نفسك وتطمح إليه، وحصِّني نفسك بإتمام زواجك، وابدئي مع زوجك إن شاء الله صفحة جديدة وذاكرة بيضاء نقية، خالية من كل الشوائب والمكدِّرات والمنغِّصات، واحْذفي كل أوراق الماضي الحزين، فقد ذهَب بمساوئه ولن يعود، واسْتبْشري خيرا تجديه إن شاء الله، ولا تخافي في الله لومة لائم..
أسأل الله العلي القدير أن يكتب لك الفلاح والسداد ويهدي قلبك للصواب، وأن يسترك بستْره الجميل، وأن يتمم لك زواجك على خير..