ماذا فعلت الفرقة العسكرية المصرية في أوكرانيا؟
26 ربيع الثاني 1435
أمير سعيد

أخذت أوكرانيا بألباب شباب مصريين أنصتوا لدقات ساعة التغيير فيها، وتلاحق أحداثها، ورفعها لأوجه غيبها السجن والإبعاد، وخفضها لآخرين كانوا قبل أيام في السلطة.. شدتهم لحظة خروج زعيمة المعارضة الأوكرانية يوليا تيموشنكو إلى الجماهير في ساحة ميدان الاستقلال بالعاصمة كييف، تخطب في الآلاف وهي مقعدة على كرسي متحرك.. مشهد آخر لفتهم كان لمائة من عناصر مكافحة الشغب في مقاطعة لفوف، وهم يجثون على ركبهم من فوق منصة أمام المحتشدين طلباً للصفح.. لكن أكثر المشاهد تراجيدية كانت من نصيب شباب الميدان الأوكراني وهم يبكون تأثراً عند مشاهدة أجزاء من فيلم "الميدان" المصري قيل إنها زادتهم حماسة للصمود في ميدان أسموه بأنفسهم "ميدان" باللغة العربية تشبها بميدان التحرير المصري!

 

الشباب المصري احتفوا بهذا المقطع، وكثيرون قد شاهدوه، لكن البعض قد قاوم فكرة الاستنساخ أو التشابه ما بين ما يحصل في هذه البقعة أو تلك وفي هذا المناخ أو ذاك.. "ليس هناك أي رابط بين مصر وأكرانيا"، قال البعض من "المثقفين المصريين".. غير أن قلة قليلة كانت تدرك أن ثمة رابطاً بين مصر وأوكرانيا، ليس في الثورات وإنما في أحداث أخرى..

 

الأقلية المسلمة في أوكرانيا التي تكاد تقترب من 5% من تعداد سكان البلاد والتي تميل كثيراً لأوكرانيا "أوروبية لا روسية" إلى الحد الذي جعل عدداً ليس قليلاً منها يشارك مواطنيهم في الاعتصام بالميدان، خوفاً من وقوعهم تحت التهميش والظلم الروسي غير المباشر، وخشية من انفصال أهم أماكن تواجدهم، وهو إقليم القرم الاستراتيجي، وبالتالي دخوله مجدداً في الفلك الروسي ـ ينتابها قلق من تكرار أحداث الماضي وإرغام مسلميها مجدداً في هذا الإقليم وغيره بطريقة أو بأخرى على اللحاق بأربعة ملايين مسلم قد هجرهم الروس من قبل حينما استولوا عليه.

 

كبار السن من المسلمين التتر في القرم يتذكرون عقوداً قد مضت أرغم فيها آباؤهم وأجدادهم على الهجرة القسرية من الإقليم الذي كان يتمتع بحكم مستقل ويحكمه خان قبل أن يستولي الروس عليه.. السيناريو يتكرر.. إقليم يتبع الدولة العثمانية فيطالب الروس بانفصاله لوجود "مسيحيين" أرثوذكس فيه، ثم حينما ضعفت الدولة العثمانية أكثر ضمته روسيا إليها..

 

نعود إلى المصريين والأوكران والروس؛ فقد استغاث أجداد المسلمين في شبه جزيرة القرم قبل مائة وستين عاماً بالعثمانيين من ظلم الروس الذين كانوا قد فرضوا هيمنتهم على الإقليم قبل عقود وعاثوا فساداً وبادروا إلى التوسع باتجاه تركيا ذاتها، ولما كان الأسطول العثماني قد تعرض لهزيمة كبيرة من قبل، ودب الضعف فيه منذ عقود سبقت؛ فقد طلب السلطان العثماني من الخديوي عباس الأول أن يمده بمدد كبير من الجيش المصري لمحاربة الروس إلى جوار جيشه.. وبموجب الفرمانات السلطانية فقد توجب على الخديوي الوفاء بمساندة جيش السلطان؛ فجهز الخديوي فرقة كبيرة تضم نحو 20 ألفاً ، وانطلقت 12 سفينة مزودة بـ72 مدفعاً تقل المقاتلين بقيادة الفريق سليم فتحي باشا من الاسكندرية في العام 1853.

 

الفرقة المصرية التي ضمت ثلاثة ألوية وصلت الآستانة في يوم يتذكره المصريون في العام الماضي جيداً هو يوم 14 أغسطس حيث المفارقة أنه في هذا اليوم الذي شهد قتل الآلاف من المصريين في العام الماضي كانت جحافل جيش المصريين تصل إلى الآستانة تمهيداً للانطلاق لحرب روسيا القيصرية قبل قرن ونصف القرن!

 

الشباب الأوكراني، ومن بينه شباب التتر، الذين أرغمته مشاهد ميدان التحرير وصراعاته التي يتابعها من خلال شاشات عرض كبيرة في ميدان الاستقلال في كييف على الصمت، وهو ينظر بإجلال إلى صمود المصريين في معركتهم من أجل الحرية، كان أجداده ينصتون بإجلال لأخبار المعارك التي خاضتها فرقة عسكرية مصرية جذبت الأنظار، كل الأنظار، العثمانية والفرنسية والبريطانية التي كانت تتحالف لصد هجمة الدولة الروسية الفتية؛ فلقد انتصر الحلفاء وقتل من الروس أكثر من خمسمائة جندي، ووقع الطرفان معاهدة منع بموجبها الروس من استخدام البحر الأسود في الأعمال العسكرية (كانت عين الروس دوماً على القرم لاتخاذها مقراً لأكبر قطع أسطولها ولم تزل مطمعاً لها حتى اليوم).

 

ربما قليل من المصريين في خضم حالة الانكفاء والتراجع الاستراتيجي الدولي والإقليمي لا يذكرون أن أجدادهم قد هبوا وفاء لطاعة السلطان لنجدة أهل القرم ولجم الروس ووضعهم في حجمهم الحقيقي، حين كان أهل القرم من قبل يقتربون بجيوشهم من موسكو نفسها، وكان المصريون يبلون بلاءً حسناً في أقصى الشمال، في تلك المضايق الاستراتيجية ما بين بحر الأزوف والبحر الأسود.. تماماً مثلما كانت ترهبهم الحبشة (إثيوبيا) حينما كانت حاميتهم في مدينة هرر المهمة في قلب الحبشة إحدى القلاع الحصينة التي يقدر لها الأحباش ألف حساب في هذه الحقبة التاريخية أيضاً قبل أن يتقزم دورهم وينكمش إلى حدود الميادين بالقاهرة. (لم تكن مصر في أيام الخديوي في أفضل أيامها، وكان الغرب ينخر مخترقاً في أحشائها، لكن هذا كان ما تبقى حينها من أمجادها، وكان منحناها ينحدر بسرعة لكن مع هذا كان فيها بقية من صمود واستقرار واستمرار).

 

ولربما بعض الأوكرانيين يذكرون من شأن مصر ما لا يذكره أبناؤها، ولعل سؤالاً كمثل هذا العنوان يثير تعجباً هائلاً لدى كثيرين الآن.. "ماذا فعلت الفرقة العسكرية المصرية في أوكرانيا؟!" أوليست تنتشر في ربوع المدن والقرى اليوم؟!
بعيدة جداً تلك الصورة الماضية عن الواقع.. لكن مهلاً!

 

ثمة تشابه رهيب بينهما؛ فالقاسم الأكبر هو الإهمال؛ فتلك الفرقة لم تهزمها روسيا القيصرية وإنما هزمها البحر! فبعد نصر كبير استشهد فيه عدد قليل من المصريين، من بينهم اللواء سليم باشا فتحي، حيث دفن بجوار مسجد أوباتوريا الكبير "خان جامعي" ـ وما زال قبره هناك ـ عادت البوارج المصرية بقيادة أمير البحر المصري حسن باشا الاسكندراني منتصرة فاغتالها البحر ذاته! وغرقت بارجتان مصريتان فاستشهد بسببهما نحو ألفي بحار وبقي أكثر من مائة فقط على قيد الحياة!