وهم "الإعلام المحايد"
27 ربيع الثاني 1435
علا محمود سامي

على مدى العقد الأخير من السنين أو بضع سنوات قبله، ظهر طيف واسع من الفضاء الإعلامي في الساحة العربية بأشكاله المختلفة، سواء المقروء أو المرئي أو الإلكتروني، وحرص هذا الطيف على مغازلة المتلقي بمختلف الوسائل، في محاولة لجذبه، إن لم يكن لاستمالته بالمعنى الحرفي للكلمة، وذلك كأحد أهم الأهداف التي تسعى وسائل الإعلام إلى بلوغها، إذ إن أي وسيلة إعلامية لا تصدر إلا وهدفها بالأساس استقطاب المتلقين.

 

غير أن الفارق هنا يكمن في الوسيلة، فشتان بين وسيلة إعلامية تجذب إليها المتلقين بمهنية وموضوعية، وبين أخرى تعمل على استقطابهم وليس جذبهم، وهو الاستقطاب الذي قد يكون بوسائل عدة، تختلف أشكالها، غير أن هدفها واحد، هو الخروج عن الإطار المهني، أو قد يكون باستخدام المهنية ذاتها، وهنا تكمن الخطورة عندما تتلاعب الوسيلة الإعلامية بعقول متلقيها بحرفية تتجاوز المهنية، فتؤثر على أدمغتهم، بل وقد تزين لهم الحق بإطلاق، وتبدل لهم الباطل حقاً، تعمل على تسطيح المتلقين من خلال برامج سطحية تافهة، لا تهيّج غرائز المتلقين فقط، ولكن تمسح أدمغتهم، وتجعلهم عالة على مجتمعهم، وربما معاول لهدم بنيانه.

 

وغالبا ما تصف وسيلة الإعلام نفسها بأنها محايدة، وكما هو معروف فإن الإعلام لمن يملكه، من حكومات أو رجال أعمال أو أصحاب توجهات فكرية، فلا بد من أن تعبر تلك الوسائل عن أهداف وتوجهات وتطلعات أصحابها، ما ينسف وهماً اسمه الحياد في الإعلام ويجعله ضرباً من الخيال، لا أساس له في الواقع، بل هو تلاعب واستخفاف بشرائح المتلقين على مختلف طبائعهم وتوجهاتهم، والمأسوف له أن هناك شرائح عظمى من المتلقين تنساق وراء هذه الشعارات التي تصدع أدمغتنا بأنها وسائل إعلامية تلتزم الحياد، بينما ينتشر السم من محتواها، وإن اتسم شكلها بالإبهار. ولذلك امتلأ الفضاء العربي مع الأسف الشديد، بوسائل إعلامية لا تكترث بتمسك المجتمع بدينه الإسلامي أو عاداته وتقاليده، وهو ما يترافق مع الوسائط المختلفة التي تصنف بأنها منوعات أو ترفيهية، فضلا عما تهدره غيرها من مبادئ الحكم الرشيد الذي ينبغي أن تكون عليه البلاد العربية، خاصة إذا ما كانت هذه الوسائل إخبارية، تستهدف تقديم المحتوى السياسي في أعمالها، أو أن يكون غالباً عليها.

 

وما دام الإعلام لملاكه يعبر عنهم، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه: هل يضيع حق المتلقي في المعرفة، ونظلم جميع الوسائل الإعلامية القائمة، بدعوى أنها تضلل متلقيها، أو تغسل أدمغتهم؟ الإجابة بالنفي قطعاً إذ إن الإعلام بأشكاله المختلفة يمكن أن يقدم نموذجاً معرفياً يخدم المتلقي بحرفية ومهنية دون توجيهه أو استمالته، وهذا عن طريق تقديم المحتوى الإعلامي المهني، الذي يسعى إلى تقديم المعرفة بصورها المختلفة إلى المتلقي، وعندها لا يمكن وصف هذه الوسيلة الإعلامية بأنها وسيلة تخدم ملاكها بقدر ما يتم تصنيفها بأنها تخدم متلقيها، وعندها ستحظى بثقتهم، ومن ثم تحقق أهدافها الاقتصادية كأحد عناصر استمرارها، فالمعلن يبحث دائماً عن الوسيلة صاحبة الجمهور الأوسع.

 

والمعيار المتحكم في مهنية الوسيلة الإعلامية هنا هو الضمير المهني ذاته، فضلا عن ضرورة وضع مدونة سلوك أو ميثاق شرف إعلامي لهذه الوسيلة الإعلامية فتلتزم بها، ومن ثم يلتزم بها أصحابها، فيكون المحتوى الإعلامي وقتها مستنداً لضمير صاحبه من ناحية، وملتزماً بميثاق الشرف من ناحية أخرى، فيتم تقديم محتوى إعلامي هادف يليق بفكرة الإعلام ذاتها، وتقديم كل ما هو مفيد للمتلقي، فيصير بالتالي متلقياً فاعلاً في محيطه ومجتمعه.

 

وليس هذا من قبيل المثالية، بل إن هذا هو الواقع بالفعل، والأمر الذي ينبغي أن تكون عليه الوسائل الإعلامية المختلفة، فهذا هو الأساس، وغيره هو الاستثناء، غير أن إغراق الفضاء العربي بأشكال إعلامية مختلفة جعل كل ما هو استثناء بمثابة حق أصيل!!.

 

وهنا نعود إلى الغرض الأساسي من الإعلام، وهو بمعنى الإخبار عن الشيء، وعلى الرغم من تعدد مفاهيم الإعلام في حد ذاته، إلا أن إعلام المتلقي بما يدور هو الذي ينبغي أن يكون، دون أن تكون محاولات لتطويعه من قبل وسائل الاعلام المختلفة لخدمة توجهات أو أغرض بعينها، وهو ما سيكون محكوما عليه بالفشل، بعدما أصبح الفضاء مشاعا للجميع، وتعددت أشكال الانتشار، إذ إن المتلقي ذاته يمكن أن يشكل بنفسه وسيلة إعلامية، مستفيدا في ذلك من الوسائط التقنية، وفق ما يعرف ب"المواطن الصحفي"، وهو ما يبدو جليا في انتشار صفحات التواصل الاجتماعي، فضلا عن المواقع الالكترونية الشخصية، التي تعبر عن صاحبها، فيبث منها ما يرغب في إعلام الناس عنه، وإن لم تتوفر له مهنية هذا الإعلام، فإنها محاولة منه على الطريق ليكون مصدراً للمعرفة.

 

وختاما، فإن الإعلام الهادف المعبر عن ضمائر أصحابه، الملتزم بمختلف أشكال المواثيق المهنية هو المستفيد من حالة الضبابية والعشوائية لهذا الطيف الواسع من الإعلام، وليس العكس مطلقا، إذ إن البضاعة الجيدة هي التي تفرض نفسها، أما المنتج الرديء فيلفظه السوق ومشتروه، حتى وإن حقق رواجاً مؤقتاً.