القبة الفولاذية "الإسرائيلية" فوق أرض مصرية!
10 جمادى الأول 1435
أمير سعيد

وصلت البرقية تحمل عبارة صارمة "التزموا بوقف إطلاق النار".. كتيبة من الشرطة المصرية كانت هناك، وتلقت الأمر الصادر إليها فالتزمت به على الفور، حتى بعد أن بدأ الغزاة بإطلاق الرصاص عليهم، "تحلوا بضبط النفس"؛ فلا يمكن أن يخالفوا الأوامر المركزية من القاهرة ولا الميدانية من سيناء، كانت حامية أردنية بالقرب منهم، لكن قائدها كان انجليزياً فامتنع عن التصدي لقوات صهيونية زحفت إلى المنطقة بسرعة..

 

انهمر الرصاص على ضباط وجنود الشرطة فسقطوا جميعاً صرعى، 350 سفكت دماؤهم على تلك البقعة الغالية من أرض مصر.. خانهم القادة والتزموا هم بـ"ضبط النفس" حتى آخر "نفس" ؛ حيث لا يمكن أن ترفع الشرطة بنادقها في وجه غازياً ما دام وقف إطلاق النار ما زال سارياً!

 

أم الرشراش، أو "إيلات" (بحسب التسمية الصهيونية)، هكذا سقطت.. كان هذا قبل 65 عاماً بالتمام، ففي 10 مارس 1949 وصلت القوات الصهيونية أخيراً إلى البحر الأحمر، واتخذت منفذاً لها قسم ظهر العرب وفصل مشرقهم عن مغربهم، وألغى ميناء الحج الشهير، أم الرشراش، القرية المصرية ذات الموقع الاستراتيجي الذي لا يبارى.. هكذا صار العرب مشرق ومغرب، وانقطع الشريان البري الوحيد بين بلدانهم.

 

في ذكرى احتلالها، ينصب الكيان الصهيوني بطارية صواريخ ضمن منظومة القبة الفولاذية للتصدي لصواريخ المقاومة بالقرب من أم الرشراش لتأمينها، ويمهد لإنشاء مطار "السلام" في البقعة التي اغتال فيها أفراد الشرطة المصريين؛ فالصهاينة يدركون جيداً شأن الميناء الوحيد لهم على البحر الأحمر، وهو ما دعاهم إلى أن يقدموا تنازلاً شكلياً للمصريين عن منتجع طابا كغطاء يغشى فكرة إعادة هذه القرية للسيادة المصرية؛ فلقد أطلقت عملية إعادة طابا عبر التحكيم الدولي قبل عقدين من الزمان للتسويق لأكذوبة عودة آخر حبة تراب مصرية إلى مصر، وطمرت تماماً قضية أم الرشراش، حتى إن وزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط قد ادعى أن أم الرشراش وفقاً لاتفاقية 1922 لم تصبح أرضاً مصرية، مع أن قوة من الشرطة المصرية كانت تحرسها مدنياً، وكانت تضم استراحة للملك فاروق بعد هذه الاتفاقية بربع قرن ونيف!

 

مصرية أم الرشراش لا تحتمل جدالاً؛ فحتى الرئيس المصري السابق مبارك قيل إنه قد طالب "الإسرائيليين" بالتفاوض حولها في العام 1985، وتردد أن مستشار مبارك السياسي د.أسامة الباز قد قال لرئيس الكيان الصهيوني عزرا فايتسمان أثناء المباحثات حول طابا "إذا كنت تجادل حول طابا فأعطنا أم الرشراش".

 

ويبدو أن فايتسمان لم يجادل كثيراً حول طابا؛ فما أتفه تلك البقعة إلى جوار أم الرشراش؛ فأعيدت لمصر بشروط مجحفة بعد "تحاكم دولي" بشأنها لم يكن له أن يكون دون ضوء أخضر من الولايات المتحدة.

 

وبالقطع؛ فإن طابا لا تقارن بأم الرشراش؛ إذ ما يساوى منتجع سياحي يضم فندقاً يزوره "الإسرائيليون" أكثر بكثير مما يزوره المصريون مقارنة بأم الرشراش، تلك القرى التي حولتها "إسرائيل" إلى ميناء كبير بعد احتلالها بثلاث سنوات، منهية بذلك مفهوم عروبة الأمن القومي للبحر الأحمر؛ الذي تحول من "بحيرة عربية" مثلما كان معروفاً إلى مياه دولية تطل عليها عدة دول عربية وغير عربية بالمفهوم الدولي!

 

ومنذ 65 عاماً لا تستطيع شاحنة خضروات المرور براً من الشام إلى مصر أو العكس إلا من خلال "عبّارة" أو المرور من داخل أرض فلسطين المحتلة بوثائق "إسرائيلية"، هذا بالطبع فضلاً عن أي تحرك عسكري أو أمني بين بلدان العالم العربي.

 

في المقابل؛ فإن أي غواصة، أو بارجة، أو حتى حاملة طائرات ـ إن وجدت ـ، لـ"إسرائيل" يمكنها أن تمخر عباب البحر الأحمر وتبحر مهددة جميع شواطئ الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، كما أنها مع إرتريا (التي تطل منها قوات صهيونية وإيرانية من مينائي مصوع "وسط" وعصب "جنوب")، علاوة على الطموح الإيراني الذي بدأ يتحقق بالاستيلاء على ميناء ميدي اليمني عبر قوات الحوثيين الموالية لطهران.

 

وباستثناء قضية يطالب مقيمها أمام محكمة مصرية بتحويل قضية أم الرشراش للتحكيم الدولي، لا تحظى باهتمام كاف في الإعلام المصري؛ فإن ذكر أم الرشراش تكاد تعصف به الأزمات والتحديات المصرية الداخلية، ولم تعد تثير حمية أحد لها تقريباً.

 

ربما تقادم الزمن على احتلالها محبط، ربما أيضاً تصاغر القوى العربية عموماً أمام العدو الصهيوني، ربما البعض لا يجعلها في صدارة الاهتمام، لاسيما والأزمة بسيناء أعمق وأكثر إزعاجاً لمن يخشون اعتبارها لاحقاً "منطقة فاشلة" تمهد لتدويل أمنها وربما فصلها عن مصر.. كل هذه الأمور مقعدة عن تحرك الجهات السياسية والقانونية وغيرها في تصعيد قضية القرية المصرية حالياً، لكن أي مبرر يستقيم الآن مع دخول الحديث عن "قناة سويس" بديلة للقناة المصرية حيز النقاش الجاد.. فمشروع "قناة البحرين" يتصاعد الاهتمام به الآن، وهو الواصل بين البحرين الأحمر والميت عن طريق أم الرشراش (إيلات) أو المشروع الآخر الذي يتردد على استحياء، وهو إيصال البحرين الأحمر والأبيض عن طريق حفر قناة ما بين ميناء أم الرشراش (إيلات) وميناء إسدود (أشدود)، بعمق أكبر بكثير من قناة السويس وتستطيع السماح بسفن عملاقة عميقة تجبر حالياً على سلوك رأس الرجاء الصالح بسبب عمق قناة السويس المحدود، وهذه القناة البديلة الأخيرة هي بديلة أيضاً لمشروع العالم الجيولوجي المصري د.خالد عودة، وهو مشروع وصل طابا/العريش..

 

باستثناء مشروع د.عودة المصري؛ فإن المشاريع الصهيونية خطيرة جداً بالنسبة لمصر، وإذا شرع الكيان الغاصب وصل البحرين الأحمر والأبيض فستكون تلك قناة عظمى، وبديل مناسب لمشروع محور قناة السويس الاستثماري الضخم.

 

حينها ـ لا قدر الله ـ ستكون قناة السويس بحيرة مناسبة جداً.. لصيد السمك!