تركيا.. هذا هو موقف العرب وهذه هي الأسباب
30 جمادى الأول 1435
ربيع الحافظ

خصوم الحكومة التركية الذين يعملون على إسقاطها يريدون أقلمة الصراع معها في ما بات يعرف في التقويم السياسي التركي بـ"أحداث 17 ديسمبر"، ويريدون أن يقولوا للمواطن التركي: إن العرب معنا صفا واحدا في هذه المعركة.

المواطن التركي الذي ليس على تماس ثقافي كافٍ مع محيطه العربي لا يعلم إلى من يلتفت المواطن العربي في أزماته في حال اُستفتي: ألمنظمة تشيّد المدارس ودور الأيتام، أم لنظام سياسي يتقن فن إدارة الدولة والاقتصاد ويسمو بهما من الحضيض إلى مصاف الدول الكبرى؟ والمتوقع أن يأتي الاستفتاء حاسما لصالح الخيار الثاني، السبب هو أن الأول حاضر والثاني منعدم، وانعدامه هو سبب الأزمات وتفاقمها والتي ستستمر ما غاب هذا النظام.

سبب آخر هو التحول في طريقة تفكير المواطن العربي بعد عقد من الكوارث السياسية تجاوز به التفكير الجغرافي، من معالمه استدعاء النجاحات الإقليمية لمعالجة أزمات محلية، والتطلع إلى القوة السياسية الإقليمية المنسجمة مع قيمه، والتي وإن اختلف معها لكنه يأمنها على نفسه وعرضه وماله والذي هو جوهر أزمته.

هذه المستجدات أجزاء لبوصلة تشير عقاربها صوب النظام السياسي في الدولة التي غدت الممثل الأخير لهذه القيم في المنطقة وبات استقراره شطر اهتماماته التي يقتفي أخبارها كل صباح.

 

هذه أوبة مفاهيم وآليات -في آن واحد- إلى نمط إقليمي أزيح عنه الإنسان العربي لصالح تفكير قومي قبل قرن لا بآليات ثقافية وإنما بحدث عسكري خارجي (الحرب العالمية الأولى) ثم بقوالب ثقافية تكفلت بحراستها الدولة القطرية التي ذهبت أو في طريقها إلى الذهاب وهذه هي أوبة المفاهيم، أما أوبة الآلية فهي ترميم الجسور مع الكيان السياسي الإقليمي الذي يعيش حالة تعافٍ وجعله مرساة يمنع انجراف ما تبقى من شظايا مجتمعات رحلت عنها دولها، الأوبتان حدثان طبيعيان أذِن بحدوثهما زوال المانع.

كراريس الماضي القريب التي يقلبها المواطن العربي بنهم اليوم ليرى من أين أتى وكيف وصل إلى هنا تنبئه أن الانتقال من الذهنية الإقليمية إلى القطرية -أو الانحسار الفكري المرافق للانحسار الجغرافي- كان مشقة ثقافية، فيما تنبئه تجربة الحياة أن استعادة الذهنية الإقليمية -أو التمدد الذهني- مشقة أعظم وطموح لا يتأتى خلال جيل واحد، وهو ما تؤيده نظريات الاجتماع، لكنه يراه يحدث من أقصر الطرق الذي هو الأزمات أو "الظرف الاجتماعي الذي تراجع فيه القناعات".

 

هذا هو المشهد الإقليمي، وما تمثله تركيا بنظامها السياسي الحالي هو قلبه وموضع النبض منه، فالحياة عادت إليه فقط في حقبته والغير يريدون تقدم الصفوف اليوم.

عجبا -يتساءل العربي- كيف تحتجب معطيات إستراتيجية تصف سلوك العرب والأتراك السياسي والاجتماعي تجاه بعضهم في أزماتهم المشتركة وتصف آليات استعادتهم عافيتهم عن مثقف يتصدى لمهمة الإرشاد في مجتمعه؟ وكيف تحتجب مستجدات ميدانية مستفيضة عن متابع للحدث اليومي؟ ألا يخدش هذا -يتساءل العربي- في خطاب خصوم الحكومة الموجه إلى المواطن العادي الذي سيصدقه؟

تساؤلات العربي ليست تخيلات لإنسان خارج تركيا بعيدا عن مدنها وأسواقها، المجتمع التركي يعيش اليوم إعادة اصطفاف أدبي واسع، شخوصه مثقفون وشرائح شعبية وأنصار للمنظمة التي تقود المعركة ضد الحكومة المعروفة بجماعة فتح الله غولن أو "خدمة"، وكتّاب لامعون أعلنوا لقرائهم مغادرتهم هذه الصحيفة إلى تلك لأن التحام الكلمة بالضمير مطلب أخلاقي.

 

الاصطفاف الجديد الذي يمثل ولادة حقيقية لشارع تركي جديد لا علاقة له بالحزب الحاكم أو دين أو عرق فيه التركي والكردي والأرمني، هو احتجاج أخلاقي على ما يعتبره هذا الشارع فجورا سياسيا يهدد نظاما سياسيا جلب لدولته سمة الكبرياء السياسي والاجتماعي والرخاء الاقتصادي الذي تعرف به اليوم.

الاحتجاج المحلي تمدد إقليميا عندما وسع خصوم الحكومة دائرة الصراع بدعوة العرب إلى مؤتمر إقليمي في إسطنبول برعاية "خدمة" تحت اسم "منتدى المفكرين العرب والأتراك" وشعار "تجربة الإسلاميين في الحكم".

القاسم الأعظم بين الضيوف الذين تراوحوا بين فقيه ووزير سابق في النظام الرسمي العربي هو وصم الحكومة التركية بالفساد وصياغة خطاب فكري يدعو إلى إسقاطها.

مكان وعنوان المؤتمر أحدث استفزازا أدبيا آنيا في الوسط العربي، ومن أحاديث العرب في مجالسهم هو موكب الضيوف من مطار إسطنبول الذي سيمر على جسور وأنفاق وخطوط قطارات فوق الأرض وتحت الأرض وتحت الماء ومستشفيات ومدارس زودت بأحدث وسائل التعليم الرقمي مما لا يعرفه أطفال اليابان وكوريا الجنوبية وأحياء فقيرة منح أطفالها بطاقات نقدية يشترون بها حاجاتهم أسوة بأطفال العوائل الميسورة قبل أن يصل الموكب إلى مقر المؤتمر الذي سيدعو فيه الضيوف إلى إسقاط الحكومة المسؤولة عن المنجزات، هل هذا سلوك سوي؟ يتساءل العرب.

ويتساءلون: هل خلت حقبة سياسية في التاريخ الإسلامي من فساد ما؟ الحقبة الراشدة هي الاستثناء، والوحيدة في تاريخ البشرية التي تطابق فيه منحنى النظرية السياسية مع منحنى التطبيق، ورجح الزيغ على الاستقامة في محطات معينة، ومع ذلك يباهي المسلمون بتقويمهم السياسي كاملا فالعبرة بالمآلات لا بالاستثناءات، ثم أليس القدوم من بيئات سياسية فاسدة للتحدث عن فساد في بيئة نابضة هو الفساد بعينه؟

من حق التركي أن يسأل شقيقه العربي: هؤلاء الذين هبوا إلى بلادنا للتنديد بحكومتنا ماذا أنجزوا في مجتمعاتهم؟ ما أطروحاتهم الفكرية لإصلاح بيئات سياسية فاسدة قدموا منها؟ بماذا تعرفهم مجتمعاتهم؟ هل تخصصاتهم وسيرهم الوظيفية تؤهلهم للحديث عن قضية بحجم وتعقيدات إدارة دولة؟

 

رسالة خصوم الحكومة إلى المواطن التركي تصطدم بواقع إقليمي يولد على رقعة سياسية تميزت عن سواها بفقدها نظاما إقليميا يحفظ مصالحها، وبتخلفها عن ركب التكتلات العالمية وعزوفها عن ترميم نظام إقليمي سالف عصم -رغم أخطائه- وحدتها الجغرافية وشخصيتها وهو ما تدفع فاتورته اليوم أبهظ الأثمان.

الرسالة دهس بأحذية غليظة على غراس إقليمي لم يقوَ عوده، واعتداء على عقل المواطن التركي الذي يودع ثقته في العلماء ويعدهم أهلا للإصغاء في المطلق، وهي امتهان لمشاعر العربي الذي يرى أنه مادة خام يزج بها في أواني استحضار عنوان إقليمي لمعركة سقطت فيها القيم.

 

ليس من الصعب ملاحظة نشوء نسق فكري مشترك بين العربي والتركي، الظاهرة المتوارية منذ أمد بعيد تمثل تغلبا لثقافة الواقعية الإقليمية التي يعيش معالمها المواطن على ثقافة التوجيه السياسي -وأحيانا الأكاديمي- غير المواكبة للتغيرات، وهو تغير مهم باتجاه الشخصية الإقليمية ومعلم مبكر على التحاق الخريطة السياسية للمنطقة بخريطة الثقافة الجديدة على الأرض.
مثّل اصطفاف المحيط العربي إلى جانب النظام السياسي في الدولة الأخيرة في المنطقة امتثالا ثقافيا لخريطة سياسية لم تولد بعد.

في المقابل، مثّل الاصطفاف حدثا بالغ الأهمية للنظام السياسي عكسه هرع أجهزة إعلامه إلى إطلاق صحف ومواقع إنترنت باللغتين العربية والإنجليزية للتواصل مع عمق إستراتيجي اكتشفه في لحظة الأزمة، وتغذيته بالرواية الأخرى للمعركة واستدراك ثغرة تعبوية خطيرة كشفتها منعطفات الصراع نجحت في عزل الحكومة -أو كادت- عن المحيط.

 

كان اصطفاف العرب والأتراك في مواجهة مشهد أحداث 17 ديسمبر اصطفاف أسباب، بعد أشهر قليلة تتكرر الحاجة إلى الاصطفاف، هذه المرة أمام تداعيات المشهد.

المشهد بالنسبة للمواطن التركي هو أن الحكومة المستهدفة بالإسقاط هي أول حكومة أغلبية في تاريخ تركيا، والتي أخرجت البلاد من حقبة حكومات ائتلافية هزيلة بلغت ستين حكومة ونقلتها من الشلل بجميع أشكاله إلى الاستقرار بجميع أشكاله، وأن خصومها يقدمون مشروع انقلاب على حكومة لا يملكون بديلا عنها، والمنظمة التي تقود الصراع لا يتجاوز نصيبها من أصوات الشعب
4%، والأمر يعني شيئا واحدا: انزلاق الدولة من جديد في حقبة الحكومات الائتلافية وضعفها أو تفككها أمام مشاريع إقليمية مناوئة وتغيرات سياسية عميقة في المنطقة.

مؤرخون أتراك تحدثوا عن تشابه بين طريقة التغلغل في أجهزة الدولة وزعزعة نظامها السياسي من الداخل أو ما بات يعرف بـ"الدولة الموازية" الذي تتهم به منظمة "خدمة" وبين تنظيمات سرية نخرت جسد الدولة العثمانية ممثلة بجمعية الاتحاد والترقي انتهت بسقوطها وبتخلخل سياسي وأمني وثقافي كارثي لا طاقة لأهل الرأي -بعد ذهاب الدولة- بالتعامل معه أو التحكم ببوصلة المجتمع، والمشهد حينئذ يسوسه النفعيون، العبث بالنظام السياسي الحالي لن يقل كارثية عن مشهد الأمس.

المشهد بقراءة المواطن العربي هو أن تقويض النظام السياسي لآخر دولة في المنطقة هو ضربة أخرى لها لا يمكن فصلها عن سابقتها.

 

في المرة السابقة -سقوط النظام الإقليمي العثماني- تراجع العرب والترك معا إلى الخطوط الخلفية وأتموا اصطفافا على أساس القومية وأقاموا الدولة القومية، لم يتبقَ اليوم أرض يمكن التراجع إليها أو راية أيديولوجية جاهزة بالإمكان إعادة الاصطفاف تحتها.

خلخلة الدولة الأخيرة لن تكون تداعياته محلية ولن تقل خطورة عن تداعيات معركة الاتحاد والترقي وإن اختلفت الدوافع لا بل تتجاوزها، فقد كانت أمام شظايا الدولة العثمانية فرصة إعادة إنتاج نفسها وتحولت إلى دول قطرية منحت المجتمعات الجديدة فرصة ترميم الشخصية الثقافية ونشوء مفهوم المواطنة، أما تقويض الدولة الأخيرة فيخلي المنطقة من عوامل التعافي الطبيعية للمنظومات الإقليمية ويجردها من آلية إعادة الاصطفاف إلى أجل لا يعلمه إلا الله.

 

لقد دخلت الرقعة الجغرافية العربية التركية الطور الإقليمي من جديد، طور ميدانه المجتمعات وآلياته منظمات المجتمع الأهلي وهدفه استدراك الفراغ الإستراتيجي الذي تسببه شقاقات الأنظمة، وتوعية المجتمع الإقليمي بعوامل قوته والذود عن نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تنجز على بقعة منه تعتبر قاعدة خلفية لإصلاح إقليمي.

 

في كل جولة خسرها الخصوم كان الدستور والقوانين والتشريعات حاضرة، وكانت بمثابة السيف الذي حسمت به الحكومة الجولة، والمؤشرات تدل على جر الخصوم إلى ساحة المعركة القادمة بعيدا عن الوسط الثقافي والمخملي وتغير طبيعتها من معركة تدار بالعقول إلى أخرى تدار بالأيدي والأقدام، ومن معركة ساحتها خشبة المسرح إلى أخرى ساحتها الشارع، حيث يلتقي الشغب المحلي بالشغب الإقليمي ويكون شغبا إقليميا.
هذا صراع لا يجزئه تسفيه الخصم، وبعد عقد من الإنجازات الكبرى باتت حكومة العدالة والتنمية بحاجة حرجة إلى الاستثمار في الثقافة الإقليمية والتصدي لحالة السيولة الفكرية في المنطقة التي تجعلها هدفا رخوا لحروب ثقافية قادمة، وإلى ذراع ثقافية تسد ثغرات الدولة في وجه المشاريع الإفسادية وتوفر تعبئة اللحظة الأخيرة.

 

لا تخلو العلاقات العربية التركية من عتاب، لكن النظام السياسي -الذي آخى بين نزاهة المسلم والكفاءة الإدارية وتجاوز الحدود الطبقية والعرقية وأصبح مظلة للمجتمع- هو ما يحتاجه المواطن العربي في بيئته التي ذهبت فيها الدولة وانعدمت فيها آليات الإصلاح.

هذا هو جوهر خلاف العربي مع خصوم الحكومة التركية، ومن حقه رفع الصوت بالقول: استقرار الدولة الإقليمية ليس شأنا محليا، وأفعالكم عبث بمصالح المنطقة.

عندما تلتهم النيران منزلا يتخذ النزلاء من الغرفة التي نجت قاعدة لعمليات ترميم المنزل، وتعافي منطقة التهمتها النيران يبدأ من صد ألسنة النيران عن مكان نجا فيها من الاحتراق.

 

المصدر:الجزيرة