الاستقرار العاطفي للأسرة المسلمة
25 جمادى الثانية 1435
يحيى البوليني

نظرة قاصرة ورؤية ضيقة أن يتم اختزال مفهوم المسئولية عن الأسر المسلمة في ذهن الزوج بالعمل والسعي المادي لكسب الرزق وتأمين حاجات الزوجة والأبناء المادية من مطعم ومشرب وملبس ومسكن , وأن يتم اختزال مهمة الزوجة في الاهتمام المادي بالبيت والقيام بشئونه ..

 

وبرغم أهمية كلا العملين وضرورتهما وكونهما واجبين لقيام الأسر واستمراريتها إلا أنهما لابد وأن يوضعا في حجمهما الصحيح , فلا تبنى البيوت المسلمة فقط على مجرد فكرة الطعام لتتوزع مسئوليته بين الزوجين ما بين إحضاره وتحضيره فحسب . فمفهوم الحياة الأسرية في الإسلام أشمل وأوسع ويتعدى هذه النظرة الضيقة التي يختزل الناس فيها المسئولية الزواجية ,

 

فالأسرة هي المحضن النفسي والتربوي والثقافي الذي يحتضن لبناته منذ أن تتفتح عيونها حتى تخرج للمجتمع لتؤدي دورها فيه , وان اقتصار المسئولية أو تخيل انتهاء أدائها عند مفهوم الطعام فقط هو تقليص وتملص من المسئولية الزواجية وينتج عنه من الخلل الكثير .

 

 

ولا يحتاج لكثير من البيان أن قيام الزوج بتأمين حاجيات أسرته من واجباته التي كلف بها شرعا لقول الله عز وجل: "وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ " ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" [1] .

 

 

وربما يغلب على كثير من الزوجات انصرافهن وانشغالهن بالكلية نحو تدبير شئون البيت من تحضير طعام أو تنظيف بيت وغير ذلك من الأعمال التي تقوم بها الزوجة من الأصل تكرمة منها , إذ كما قال جمهور العلماء بأنه لا حق للزوج على زوجته في الخدمة إلا أن تقوم بها مختارة دون إلزام , في حين تقصر الزوجة فيما هو أوجب والذي لن يقوم به غيرها وهو رعاية الأبناء وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة .

 

 

فلم تكن قلة الطعام أو قلة الموارد المالية عموما يوما ما السبب الرئيسي لتفكك الأسر أو انهيارها , فكثيرا ما رأينا وسمعنا عن اسر تماسكت وتعاونت وعبرت الأزمات وهي تعاني من مشكلة نقص المادة لمستويات شديدة وذلك بقدر ما سمعنا عن تفكك اسر وانهيارها على الرغم من توفر العامل المادي لديها , ويمكن للأسر أن تقاوم الانهيار بسبب النقص المادي لمدة طويلة بعكس الأسر التي يمكن أن تعاني أي نوع من الخلل غيره إذ يكون تحللها وانهيارها سريعا .

 

 

وكم عانت أفضل البيوت من شدة الفقر وقلة الطعام وهي أبياته صلى الله عليه وسلم وأبيات أصحابه الكرام , فعند البخاري عن عروة عن عائشة أنها قالت لعروة : يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار , قال عروة قلت يا خالة فما كان يقيتكم ؟ قالت : الأسودان التمر والماء إلا أنه كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار وكانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانها فيسقيناه "

 

وكثيرا ما كان ينوي صيام تطوع في أيام لم يكن في بيوته طعام , فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أيضا قَالَتْ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَأْتِينِي فَيَقُولُ : أَعِنْدَكِ غَدَاءٌ ؟ فَأَقُولُ : لا ، فَيَقُولُ : إِنِّي صَائِمٌ " [2] , وحملت لنا كتب السنة حديث الثلاثة – وهم أفضل أهل الأرض حينئذ – نبينا محمد وصاحبيه الذين لم يخرجهم من بيوتهم إلا الجوع [3].

 

 

فعلى الرغم من هذه الحالة التي كانت عليها غالبية بيوت الصحابة بما في ذلك بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها أخرجت أفضل جيل مسلم على الإطلاق , وكانت بيوته خير البيوت وأسعدها وأهنأها , فليس هناك ثمة شرط بين استقرار الأسر وبين الطعام والشراب فيه .

 

 

ولكن الأهم من إحضار الطعام وتحضيره في البيوت هو وجود العاطفة التي تجمع القلوب في الأسر , وثبات تلك العاطفة بما يسمى بالاستقرار العاطفي في الأسرة عامل من اكبر وأهم عوامل حياتها وحسن إثمارها , فوجود الجفاء وفقدان العاطفة بين أفراد الأسرة معجل بفنائها ومدمر لها حتى لو ظلت قائمة شكليا حفاظا على الشكل العام والصورة المجتمعية . فحينما ينشغل الأبوان ويكون لكل من أفراد الأسرة عالمه الخاص الذي لا يتقاطع ولا يتماس مع عوالم باقي الأفراد يأتي نذير الخطر وبريد الشر الكبير , ولهذا يجب على الزوج والزوجة أن يتداركا أسرتهما ويتحملا مسئوليتهما قبل فوات الأوان .

 

 

إن الفكرة الأساسية للتقصير في الجانب العاطفي عند الزوجين تكمن في وجود خلل أو سوء فهم للواجبات الزوجية من أحدهما أو من كليهما , إذ يتصور الرجل أنه إذا أتى لأبنائه بأحسن الطعام وأحسن الشراب وأجمل وأغلى الملابس وأفخر الأدوات التي يحتاجونها فيظن أنه هكذا فعل كل ما عليه وأنهم لا ينقصهم شيء وانه من الجحود أن يطالب أي منهم بأي شئ أو أن يتهمه احد بالتقصير إن غاب عن أبنائه المدة الطويلة في عمل أو في سهر أو مع أصدقاء طالما انه يوفر لهم ما يحتاجونه .

 

 

وحينما تتصور الأم كذلك أنها تقوم بمهام منزلها والاهتمام بأبنائها من ناحية الاهتمام بطعامهم وشرابهم وتلبية مطالبهم البدنية فقط أو إيكال أمرهم لخادمة أو مربية تقوم على توفير ذلك لهم أنهم الآن لا ينقصهم شئ وليس عليها أي تقصير في جانبهم وأنها فعلت كل ما هو مطلوب منها .

 

 

إن اهتمام الأبوين بالجانب المادي فقط في الأبناء وترك الجانب النفسي الروحي فيهم يجعل البيوت أشبه بالقبور لا يتحملها ساكنوها من الأحياء , ويجعل من وجودها مكانا يأوي إليه كل منهم ليتناول طعامه وليحصل على مكان لنومه ليخرج منها غير عابئ بها ولا محب ولا راغب , ويجعل العلاقة بين أفرادها علاقة روتينية جافة ليس فيها حياة , فالحياة أخذ وعطاء , وما يحتاجه أبناؤك اليوم ولم يجدوه منك ستحتاجه أنت غدا , وبالقطع لن تجده فلن تحصد من الشوك العنب .

 

 

إن أخطر ما في هذا المفهوم من اختزال قيمة الأبوين التربوية والنفسية في مجرد إحضار الطعام وتحضيره ؛ أن يصير الأبناء – ذكورا وإناثا – لقمة سائغة لأي غريب يلتف حولهم ويمنحهم قدرا ولو قليل من الاهتمام ويعطيهم اليسير من الوقت ليسمع ما حبسوه داخل صدورهم , وليدعمهم بالقول والتشجيع , حينها سيكون هذا الغريب - وما أكثرهم على مواقع التواصل وفي برامج المحادثات - اقرب إليهم من أهليهم , وربما يكون الغريب عابثا لاهيا يتصيد فرائسه بدقة وبعناية , وساعتها سيحدث ما لا يحمد أبدا عقباه , وحينها لن يلوم الأبوان إلا نفسيهما .

 

 

ولكن الأمر الذي سيثير غرابتك ودهشتك وتعجبك هو قول أحدهما أو قولهما معا : ما قصرنا في شئ , وفرنا لهم كل شئ , لم يكن ينقصهم شئ !! , يا أفاضل : ليس بالطعام وحده تحيا الأسر .

 

-------------

[1] رواه مسلم (1218).

[2] صحيح مسلم / 1156

[3] الحديث بطوله يرويه الإمام الترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه , وذكره لألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي , وقال عنه صحيح ، الصحيحة ( 1641 ) ، مختصر الشمائل ( 113 )