بوتفليقة وأردوغان.. الموت والحياة
14 رجب 1435
أمير سعيد

كانت واحدة من أشرس الحملات الانتخابية وأشدها إرهاقاً على الإطلاق؛ فالجولات الانتخابية جاب فيها كبار المسؤولين في الدولة التركية أرجاء البلاد، وقطعوها من شرقها إلى غربها في مدة وجيزة، وبلغ التعب لدى قادة الحزب الحاكم فيها حده الأقصى، وبرغم كونها انتخابات محلية لا تستدعي بالضرورة كل هذا الجهد من رئيس الوزراء، إلا أن حزبه سعى لاستغلال الكاريزما الخاصة به، والتي تميزه عن سائر القادة الأتراك من الأحزاب المختلفة في ترجيح كفة مرشحي الحزب في المحافظات التركية.

التحدي كان كبيراً جداً، وقد أتت ساعة الحقيقة فيما كان رجب طيب أردوغان قد استُنزف جهداً حتى بدا ذلك على صوته.. أمر طبيعي، لكنه لم يكن كذلك في إعلام العالم العربي المناوئ له، والموالي للولايات المتحدة الأمريكية؛ فتصدرت عناوين من قبيل "بحة في حنجرة أردوغان تجعل صوته كصياح الديك" كأبرز ما يلفت انتباه تلك الوسائل الإعلامية الصهيوعربية؛ فبدلاً من تحليل المشهد، ونقل صورة دقيقة عن مجريات الانتخابات كان لمز أردوغان هو سيد مواقفها؛ فهي ختمت تمنياتها بهزيمة حزب أردوغان قبل ساعات من التصويت، وبعد دعاية سوداء شنتها على الرجل وحزبه، أذكر منها مثلاً هذا العنوان الموحي استخدمه موقع فضائية "عبرية" شهيرة "أردوغان يتعهد بسحق تويتر وفيسبوك ويوتيوب واجتثاثها"!

ليس في استدعاء هذا المشهد إلا لأجل المقارنة بينه وبين تعاطي هذا الإعلام مع انتخابات أخرى إلى الغرب من تركيا، حيث ترشح بوتفليقة ولم يظهر مطلقاً في الحملات الانتخابية، ليس على انتخابات محلية لا تضطره لمباشرة جولات بنفسه، بل رئاسية تحتم عليه التحدث فيها إلى شعبه كمرشح، وكرئيس كذلك، لكنه لم يفعل، ولم تعلق وسائل الإعلام الصهيوعربية، وأدلى بصوته قعيداً، وتجاوزت تلك الوسائل عن هذا أيضاً، ثم أدلى بقسمه جالساً بصوت واهدٍ لا يكاد يسمع، ولا يوحي بالتركيز، ولم تعلق هذه الوسائل أيضاً!!

الإعلام كما أنه يصوغ طريقة تفكير الجماهير ويتمكن إلى حد ما من صناعة رأي عام للغالبية الشاردة، كذلك هو يكشف عن مضامين السياسة التي تتخذها الأنظمة، والأهم أنه يومئ إلى أفكار تمهد لتنفيذ استراتيجيات دولية هي الدافعة لهذا الإعلام بالتحرك في هذا الاتجاه أو ذاك.

في الحالة الجزائرية؛ يظل بوتفليقة صاحب عملية "سيف الحجاج" التي شنت في جبال الجزائر وقراها غير مثير لحفيظة الغرب، ولا ينبش في تاريخ "عهدته" الأولى، لكن في الحالة التركية؛ فإن أردوغان "يسحق" تويتر، وكأنه ارتكب مجزرة إنسانية كتلك التي نفذت في أكثر من بلد عربي على مدى الشهور بل الأعوام الماضية وأغمض الغرب عنها عينيه!

وفي الحالة الجزائرية، لا أحد تقريباً تحدث عن ماكينة الفساد التي يغطيها وجود عديم القدرة البدنية والنفسية والإرادية على رأس سلطة تعبث بثروات دولتها طغمة أتخمت من المال الحرام، فيما عُرف باسم "جنرالات النفط" و"جنرالات السكر" في بلد ما زال يعاني من أزمات بطالة تقوض أحلام شبابها من "الحيطيين" وغيرهم، وتحرم الملايين من الإفادة من ثروات نفطية وغازية هائلة؛ فالغرب يستفيد كلياً من أوجه الفساد المتنوعة في العالم العربي، بل يقتات اقتصاده عليها، لذا؛ فهو يتدخل فوراً حالما يجد رقابة شعبية على ثروات ينتهبها بشكل مباشر (عبر البنوك) أو عبر الشراكة والامتيازات، لاسيما تلك التي يوفرها "جنرالات فرنسا" أصدقاء الغرب وأدواته..أما في الحالة التركية؛ فإن الغرب حدق عينيه جيداً في شبهات لفساد يطال بعض أعضاء حكومة أردوغان، واتهامات هي لم تزل في عهدة القضاء التركي، بغرض تشويه حكومة العدالة والتنمية الحاكمة قبيل الانتخابات المحلية الماضية، وبتوقيت دقيق مشبوه!

في الحالتين يلاحظ أن النظام الذي يعد له الغرب بقوة عدته لإطاحته، ولم تفلح معه "الروشتة" العربية حتى الآن في صناعة مظاهرات محدودة وتضخيمها وإحداث بعض أعمال العنف بغية تأجيج الحراك الجماهيري ضده، هو النظام الديمقراطي التركي، وليس الجزائري قطعاً؛ فلا أثر تجده هناك في الجزائر، بل شراكة أوروبية وتأييد مطلق لنظام القعيد.. أما بالقرب من وسط أوروبا، في تركيا؛ فإن المحكمة الدستورية تجس النبض، وتبدأ بإطلاق بالوناتها التحذيرية باتجاه فكرة حل الحزب الحاكم أو إطاحة الحكومة بأي ذريعة، لم تعدمها تلك المحكمة على مدى تاريخها المثير للجدل.

إن الغرب لا يخشى نظاماً ميتاً كالنظام الجزائري، بل على العكس يبدو حريصاً على ضخ الدماء في عروقه وإنعاشه بالتنفس الاصطناعي، فيما يبدو قلقاً للغاية من نظام حي فتي كنظام أردوغان، لذا يجد الأول نفسه في مأمن من أي حراك مفتعل ضده، وإن وجد شعبياً فإن الغرب يقف مسانداً للنظام على طول الخط (مثلما قال ميتران يوماً: "لن أسمح بدولة إسلامية في الجنوب" بعد نجاح الجبهة الإسلامية للإنقاذ.. وقد فعل).. وعلى النقيض؛ فإن حادثة حديقة غزني صورها الغرب كما لو كانت "حديقة الموت"، ونفخ في أحداثها، ثم هو من بعد مستعد للانقضاض على نظام أردوغان أو دفعه في أقل تقدير للتطبيع مع الكيان الصهيوني..

لكن مع كل هذا؛ فإنه يبقى أن هذا بطريق الحياة وذاك يحتضر.. وتلك سنن الدول..