5 محرم 1436

السؤال

أنا أعيش مع زوجي في دولة عربية، وقد أرسلت لأختي لكي تعمل معه، حتى أساعدها في تحسين ظروفها المادية، فصارت تقيم معنا بالبيت، فلاحظت أنهما يتمازحان بينهما كثيرا، والأدهى من ذلك أنني استيقظت يوما فوجدتهم بجوار بعض، ومع ذلك أنكر زوجي وطلب منى أن أسامحه، وفعلا سامحته فلدينا بنتان ولكنني لا أعرف كيف أتصرف مع أختي بعد ذلك، فأرجوكم أن تفيدوني في هذه المسألة..

أجاب عنها:
صفية الودغيري

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي السائلة الكريمة، بداية أشكر لك رسالتك وطرحك لاستشارتك..
أما بخصوص مشكلتك التي وردت في رسالتك، فهي ظاهرة صارت مُشاعة داخل المجتمعات التي ينتشر فيها الاختلاط بغير المحارم سواء بالشارع، أو العمل، أو الأسواق، أو الأماكن العمومية، أو داخل البيت..
مما ينتج عنها حالات مسيئة لديننا، وقيمنا، وأخلاقنا، وعاداتنا المحافظة، وحالات تفسُّخ للعلاقات الزوجية والأسرية، وانهيار قواعدها المتينة، وزَعْزَعَة صِرْحِها الشَّامِخ والمُحافِظ على أمْنها وسلامتها واستقرارِها..
وأسباب ذلك في حالات كثيرة يرجِع إلى انتشار الفساد الأخلاقي والديني، وإشاعَة النزوات، وإثارة الشَّهوات، والإفراط في الإقبال على الملذات، والتخلِّي عن تنظيم العلاقة بين الجنسين، وفق ضوابطها الشرعية تحميها من الوقوع في الحرام والمحظور..
ومشكلتك أختي الكريمة سببها الأساسي هو:
ـ الاختلاط الذي سمح بالتواصل والاحتكاك اليومي بين أختك وزوجِك في العمل وداخل البيت، وكسر الحواجز الفاصِلَة بينهما، مما سمح بارتباطهما عاطفِيًّا، حتى تعدَّى إلى انتهاك حدود الاحترام، والحِشمة، والأدب، والتقيُّد بالكلام الملتزِم، والمُتَّزِن بميزان الدين والشرع، فآل الأمر بينهما إلى ما شاهدتِه من الانطلاق والتحرُّر في الحديث والمِزاح، ووصل إلى حدِّ اكتشافِك لوجود علاقة بينهما، قد لا تتعدَّى تلك الحادثة والمشهد الذي رأيته وهما معا..
وهذا مآل كل من انحرف عن حياضِ شريعة الله، فصمَّام الأمان في سدِّ الذرائع، وإغلاق كل الأبواب المؤِّدِّية إلى الاختلاط، وحماية السِّياج الرَّباني بين الرجل والمرأة حتى لا يقعان في الفاحشة والرَّذيلة، والسعي الحثيث إلى إشاعة العفة، والاستقامة، والمحافظة على البيوت وأمْنها من الفتن، والانقياد لنصوص الكتاب والسنة، من غضِّ البصر كقوله تعالى للرجال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، وقوله للنساء: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)، وحديث جَرِيرِ بن عبدالله قال: (سَأَلْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي)
وهذا غيض من فيض ما أقامته الشريعة، التي جعلت ضابط الشهوة في النهي عن إِتْباعِ النَّظرة بالنَّظرة، ونهيِ النبي صلى الله عليه وسلم الرجال من الدُّخول على النساء، ومنعِهم من الاختلاط بينهم وبين النساء في الطريق أثناء الخروج من المسجد، ومنعِ كلُِّّ أشكال الاختلاط المحرَّمة..
فكيف يجوز بعد ذلك تسْويغ اجتماع الرجل بالمرأة خارج إطار الزوجية، والاستهانة بما يترتَّب عن ذلك من محرَّمات، والتَّساهل في شأن الخلوة بينهما سواء بالبيت أو العمل، والمُكْث لساعات طويلة يتجاذبان خلالها أطراف الحديث، ويتمازحان، وما من شأنه أن يوقع في قلبيهما الرِّجس ويشعِل فتيل الشهوة، وتعرَّض الشيطان لهما بتزيين الحرام؟!
ـ والسبب الثاني يعود إلى سوء تصرُّفِك وتدبيرك، فقد قصدتِ صنيعَ المعروف فوقعتِ في المحظور، وأردْتِ وصَل رحِمِك بصلات الأخوَّة والوفاء، فكان وصلاً مآله الانقطاع، وفي مثل حالتك يصدُق المثل العربي: " ما هكذا تورد يا سعد الإبل"..
فصنائِعُ المعروف ينبغي أن تأتي من مَوْرِدِها الطيِّب ومشْربِ الطَّاعة العَذْب..
ـ والسبب الثالث ناتِج عن تردُّدك في وضعِ حدود وضوابط تنظم العلاقة بين زوجك وأختك، وتجعلها في أضيق الحدود، حتى لا تأخذ تلك الأبعاد التي أدركتها، من التَّمادي والاستهتار في تصرُّفاتهِما ونزواتهِما..
إضافةً إلى قصورِك عن أداء وظيفتك المَنوطة بك، المتعلِّقة بمباشرتك لمسؤوليتك في حماية بيتك وأسرتك من رياح الفتن والأهواء، وتوفير أسباب الرَّقابة والحصانة الأسرية، بحيث يكون وجود أختك داخل بيتك محصورا بمجموعة من الالتزامات والضوابط، التي لا تسمح بأي خلوة بينها وبين زوجك، ولا تسمح حتى في إطار العمل بالتواصل الذي يتعدَّى حدود وظيفتها..
إن غايتي أختي الكريمة من ذِكرِ هذه الأسباب، أنني أسعى إلى مساعدتك في إيجاد حلول ناجِعَة، وحتما إذا أنتِ فَهِمْت أبْعادَها ستكون برْدًا وسَلامًا على قلبك، وستسعين إلى تصحيح أخطائك، ولعلَّ ما وقَعَ لك فيه حِكْمة لم تكتشفيها بعد، ولعلَّ هذه الإساءة التي آلَمَتْك في طيِّها نعمة تقْصُر معرفتك عن إدراكِ حقيقتها، التي ستظْهر لك في الأيام القابلة.. ويكفيك حاليا أن تؤهِّلي نفسك لجلسة تصْفية لقلبك مما ران عليه من أصداءِ الذنوب والآثام، وتصفية روحك من مكدِّرات المعاصي والفتن، وتطهير جسدك من أسباب التقصير المخِل بالسعي الطيب الحلال، والمُحْبِط للعمل المثمر المنتج..
وافْسِحي لصدرك مساحةً رحبة للعفو والمغفرة، وابْدَئي صفحة جديدة مشرقة في علاقتك بأختك وزوجك..
واعْلمي بأن كل عبد يُبتلى بقدر ما اكتسب وجنَت يداه مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).. فليكن كسبك ومكسبك حلالا طيبا، وليكن سعيك للخير دليلك ومرشدك للطاعة..
ومن الخطوات العملية اللازمة لحلِّّ مشكلتك ما يلي..
أولا: وظِّفي حكمتك ورجاحة عقلك، وقوَّة عزيمتك الدِّينية في فَرْضِ وجودِك وكينونتك داخل البيت، ووثِّقي علاقتك بزوجك بميثاق الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالبيوت الآمنة المطمئنة هي البيوت المؤمنة التي ليس للشيطان عليها سلطان..
وأنت سلطانة بيتك المدبِّرة لشؤونه، والمنظِّمة لقوانينه، والمنفِّذة لقراراته والمُصْدِرَة لأحكامه، فالواجب عليك أن تحافظي على هذه المملكة الصغيرة، وتضعي لها حدودًا شرعية تُلْزِم كل فردٍ داخلها أن يحْتكم لكتاب الله وسنة نبيه، ويراعي رقابة الله وخشيته في السر والعلن..
ثانيا: صحِّحي طبيعة العلاقة التي كانت بين أختك وزوجك، واقْطعي ذلك الحبل الذي يصلهما بصلات محرَّمة، حتى ولو أدى الأمر إلى أن تترك أختك عملها مع زوجك، وتغادر بيتك وتعود إلى أهلها، وليجعل الله لها بعد ذلك مخرجا وبابا واسعا للرزق يكفيها ويعفَّها، ولو أردت مساعدتها فهناك سبل شتى بعيدا عن بيتك وهمل زوجك، ويكفيكِ عِظةً وإرشادًا تحذير النبي محمد صلى الله عليه وسلم من اختلاط الرّجال بالنساء حتى في المساجد، وفصلِ صفوف النّساء عن الرّجال، فعن أم سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ).. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنْ انْصَرَفَ مِنْ الْقَوْمِ".
وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا)..
ويكفيكِ أن الأصل الأصيل في شريعتنا الغراء، أنها تراعي في شؤونها كلها المقاصدِ والغايات التي وُضِعَت لأجل تحقيقِ مصلحة العباد، ومن المقاصِد الضَّرورية التي تتقدم على من دونها من المقاصِد، حفظ الدين والنفس..
فالأولى بك أختي الكريمة حفظ بيتك من انتهاك حرمة الدين والعرض والنفس، وحماية زوجك وأختك من الاختلاط الموصِل إلى الوقوع في الحرام، المُؤدي إلى ما هو أدهى وأمر..
ثالثا: تحدَّثي إلى زوجك، وتقرَّبي منه خاصة خلال هذه المرحلة العصيبة، فهو يحتاج إلى وجودك، وحضورِك في ذاكرته ووجدانه، ويحتاج إلى الأنثى التي تملأ عينه وقلبه وتفكيره، وتحتويه بالكامل، وتشاركه مشاعره وأفكاره، وأحزانه وأفراحه، ومشاكله، ومعاناته اليومية، وتتقاسَم معه تفاصيل حياته اليومية، بكل جزئياتها الصغيرة والكبيرة..
وامْلئي شعوره بالفراغ العاطفي والاحتياج النفسي، الذي قد يكون أحد الأسباب التي دفعته إلى الانسجام مع أختك، والاستئناس بمجالستِها ومُفاكهتها، والتَّمادي في التمازح معها..
رابعا: اتخذي موقفا ملتزما وجريئا تجاه أختك، بقلب يسع الكثير من الحب، وعقل رشيد يتسع لأفكار وحلول تصل بعلاقتكما إلى بر الأمان والسلامة، وصارحيها بما في نفسك اتجاهها، وأنصِتي إلى شَكْواها، ومبرِّراتِها، وأسبابها، حتى ولو لم يكن لها ما يبرٍّر تصرُّفاتها المسيئة لك، وبيِّني لها أن هذا الوضع الحالي ما عاد يسمح لك باستقبالها في بيتك، ولا باسْتمرارها في العمل مع زوجك، حفاظا على استقرار حياتك الزوجية، وحفاظا على أواصر العلاقة الأخوية بينكما..

واجعلي حوارك يرتقي إلى مستوى حفاظك على اتِّزان الأخت المحِبَّة لأختها، المستعِدَّة لامتصاص غضبها، والتَّغاضى عن أخطائها، والسعي لإصلاحها وإرشادِها إلى طريق الإيمان، بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، والنصيحة المؤثِّرة، بأسلوب الرِّفق الذي لا يغيضُ القلوب ولا يجرحها..
واشْرحي لها بأنها امرأة مسلمة والواجب عليها أن تحكِّم شرع الله في قولها وفعلها، وفي تصرُّفاتها وسلوكها، وأن الدين الإسلامي يحتِّم عليها أن تنضبط بضوابط الشرع، وأحكام المرأة المسلمة في علاقتها بخالقها، وبالمخلوقين، وأن تضَع حدود فاصِلة بينها وبين أي رجل ليس من محارمِها، حتى ولو كان زوج أختها فهو أجنبي عنها، ويلزمها الانضِباط في علاقتها معه بضوابط شرعية..
وقد يصعب عليك أن تواجهي هذا الموقف لوحدك في ابتداء الأمر، ولكن ليس لك خيارٌ سواه لوضع حدٍّ فاصل لهذه المعاناة، وتأكدي بأن الزمن كفيلٌ بأن يصلح الأمور بعد ذلك، ويصل ما انقطع بينكما، ويعيد المياه العذبة إلى مجاريها..
وختاما.. اعلمي أختي الكريمة حفظك الله أن المرأة المسلمة المؤمنة هي المستسلِمة لأمر الله تعالى، والتي تكفي نفسها وبنات جنسها وأخواتها من شرِّ كل بليَّة تأتيها من مواطن الفساد والرذيلة، ويكفيها للسلامة تحصين نفسها بالامتثال لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، لكي تفوز بالرضوان والجنان، وتسلم من فتن الاختلاط وما يفتحه من أبواب الشر المشرَّعة للفساد والانحلال الأخلاقي..
وفي هذا المقام أنقل مقالة رائعة في بابها للعلامة ابن القيم في كتابه " الطرق الحكمية في السياسة الشرعية": (ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصلُ كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة)..
فعليك أختي الكريمة بوضع حدٍّ فاصل وحازِم لإنهاء هذه المشكلة، ومهما ترتَّب على ذلك من تبعات ستظل أهون بكثير من البقاء على هذا الحال المحفوف بمخاطر الوقوع بالحرام..
أسأل الله العلي القدير بمَنِّه وكرمِه أن يجمعَ بينك وبين زوجك في طاعته، ويلُمَّ شَملكما، ويؤلف بينكما، ويوصل ما انقطع بينكما بصلات الأُلْفَة والمودة، ويغفر لكما ويهديكما سبل السلام والصلاح والاستقامة على الحق المبين..