حينما يهان العلماء..
21 رجب 1435
أمير سعيد

يروي ابن إياس في حوادث عام 921 هـ (1515 م) أن "المماليك الجلبان (أي أولئك الذين جلبوا كباراً مكلفين) عندما نودي في العسكر للتجريدة (الاحتشاد) والخروج لمواجهة العثمانيين، خرج هؤلاء يطلقون النار على القضاة والعلماء والتجار، وهجموا عليهم الحارات والبيوت، وأنزلوا الفقهاء من على بغالهم في وسط الأسواق وأخذوها من تحتهم" [ بدائع الزهور في وقائع الدهور (جـ4 صـ474)]، ويحكي من قبل ابن إياس في حوادث عام 872 هـ (1467 م) أن هؤلاء "الجلبان" الذين لم يتربوا تربية إيمانية حقيقية، وإنما قد جلبوا كباراً لرخص ثمنهم فتعاظم أمرهم وشرهم، قد عبثوا بالبلاد حتى إنهم "خطفوا عمائم الفقهاء" في هذا العام [ ابن إياس (جـ4 صـ400)]!

 

وحيث احتاج سلاطين المماليك في نهاية دولتهم إلى المال، فإنهم قد حصلوه بطرق مختلفة، ومنها "قطع أرزاق الناس، وخاصة الفقهاء والمتعممين وحرمانهم من مرتباتهم العينية أو إنقاصها" [ ابن إياس (جـ4 صـ150)].

 

خطف عمائم الفقهاء، إنزالهم من على بغالهم، إطلاق الرصاص عليهم، ثم التركيز عليهم في سياسة مصادرة "الأرزاق" والتضييق عليهم في رواتبهم، وحرمانهم من مرتباتهم العينية أو إنقاصها..

 

كانت تلك بعض ممارسات "الجلبان" وهم طائفة انحدرت من العمل العسكري البحت إلى القيام بأعمال "البلطجة" أو "التشبيح" في نهاية دولة المماليك وزاد عليها إغضاء طرف من قصر السلطان ذاته، إما بدافع الترضية للجلبان أو استهانة بأمر العلماء والفقهاء يعبر عن "رقة في الدين" أدى بهم إلى مصادرة رواتب هؤلاء وإغراء السفهاء بالتعرض لهم وإيذائهم.. هذه السياسة المزدوجة من "الجلبان" المتمردين والقصر، كانت إحدى أعراض هِرَم الدولة ودخولها في مرحلة الشيخوخة المتأخرة؛ فحيث تقوم دولة على الدين ثم تستهين برموزه وعلمائه فذاك مؤذن بزوالها..

 

وقد كان! حول هذه الأعوام، كانت دولة المماليك تستعد لأن تودع التاريخ للأبد؛ فببطرها التي كانته، وعدم اهتمامها بتنمية قدراتها العلمية والتقنية وترفها، وإهمالها لمتطلبات القوة والنمو والتوسع، وركونها إلى الأموال الطائلة التي وفرتها لها الضرائب التي كانت تفرضها على ممر التجارة العالمي الذي كانت تتحكم به عبر موانئ عديدة كانت المنفذ الوحيد بين شرقي العالم وغربيه في وقت سدت فيه جميع المنافذ بسبب المغول، ولعدم تحركها الكافي للتعاون مع العثمانيين في نجدة مسلمي الأندلس، جاءها العقاب من الغرب، حيث شجع زوال دولة الأندلس تماماً في العام 1492 م على تحرك مملكة البرتغال للبحث عن بديل لتجارة الأوروبيين لا تمر عبر مصر، لاسيما مع متابعتها لبقايا المقاومة الإسلامية في شمال غرب إفريقيا بعد تركهم للأندلس؛ فتهيأ السبيل إلى ما عُرف باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح (الذي لم يكن بالنسبة للمسلمين "اكتشافاً" جديداً)، وحولها أيضاً كان الخطر داهماً لسلطة المماليك مع توسع العثمانيين واضطلاعهم برعاية شؤون الأمة الإسلامية وإنهائهم لدولة المماليك في العام 1517 م إثر معركة مرج دابق الشهيرة.

 

 

والحق أن زوال الدول الإسلامية كثيراً ما يقترن بتراجع اهتمامها بدينها وعلمائها ورموزها، كما حصل في نهاية الدولة العثمانية ذاتها وغيرها من تلك الممالك الزائلة، كما أنه وبالمقابل؛ فإن احترام العلماء والفقهاء وتقديمهم، واستقلالهم الفكري والمادي هو عنوان ازدهار الممالك الإسلامية، وأحد مؤشرات ارتفاع نهضتها، وبزوغ دولتها، وتلك قاعدة مضطردة لا تكاد تتخلف، حتى لدى دولة المماليك العظيمة التي بدأت بحال، وانتهت ـ ككل دولة زائلة ـ إلى حال مؤسفة.

 

 

ومن ثم؛ فحين تفاجئنا الأخبار من هذا البلد الإسلامي أو ذاك، بتطاول بعض قنوات الإعلام العربي أو الإسلامي عن رموز الأمة وكواكبها البراقة الذين هم ملح هذه الأرض وزينتها، ويغرى بهم سفهاء الإعلام من مقدمي برامج مأجورين، وكتاب صحفيين، لا يكاد بعضهم يحسن يتوضأ أو يصلي؛ فإن الحادب على مستقبل هذه الأمة يستشعر القلق حيال ما ستفضي إليه مثل هذه الممارسات المشينة. ويزداد القلق عمقاً حين يتجاوز الأمر حد التحريض على علماء الأمة ورموزها إلى الشروع في وقف هذا واعتقال ذاك ومصادرة مال آخرين، وإلى بلوغ المهاجمين حد السباب والشتائم التي لا تشير إلا إلى تردي الأوضاع الاجتماعية إلى حدود الخطوط الحمر التي يؤذن تجاوزها بما هو أسوأ بكثير من تلك الأعراض المقلقة..

 

كما يبدو الأمر داعياً للانزعاج مع مشاهدة هذه الحالة تمس كثيراً من بلدان العالم العربي، وكأنها سياسة صارت في موضع الاتفاق والتكرار في كثير من بلدان العرب. ويزيد الطين بلة أن يكون المتجاوز بحقهم هم ممن بلغوا سناً تستدعي المروءة أن يتجاوز فيه عن هناتهم إن أخطؤوا؛ فكيف إن كان الهجوم عليهم هو لوقوفهم مواقف الرجال في زمان عزت فيه مثل هذه المواقف؛ أفهكذا يكافؤون وتثمن أدوارهم في نشر الشريعة وتعليم الدين وتخريج الأجيال من طلاب العلم ودارسيه؟! فاللهم إن هذا باطل لا يرضيك..