الحفاظ على المصداقية في زمن الصراع
26 رجب 1435
إسماعيل ياشا

«الملكيون أكثر من الملك» فئة من الناس يدافعون عن الملك ومن حوله أكثر من الملك نفسه، مهما أخطؤوا أو أصابوا، ويبالغون في القيام بهذه المهمة إلى درجة يستحقون عليها هذه الصفة، ولا يخلو بلد ولا مجتمع منهم، ولكنهم في الحقيقة يضرون الوطن ويسيئون إلى من يدافعون عنه قبل غيره.

 

هؤلاء يكثر عددهم في زمن الانقسام والصراع، وبعضهم يكون موظَّفا ومكلَّفا بهذه المهمة، وآخرون يسارعون لتولي «مهمتهم» دون أن يوظِّفهم أحد، بل هم يكلِّفون أنفسهم بـ «الدفاع عن الملك وبطانته» ويعتبرونه واجبا عليهم. وفي زمن الانقسام والصراع، يكثر التضليل والتزوير والمغالطة كوسائل الهجوم أو الدفاع في الحرب النفسية الدائرة، ويصعب الحصول على المعلومات الصحيحة، ويسهل الوقوع -مع الأسف الشديد- في فخ التضليل المقصود أو غير المقصود.

 

لما انتشرت صورة ركلة مستشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في مواقع الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وصلتني معلومات ممن كنت أثق بهم، تروي ما حدث هناك في مدينة «سوما» قبيل الركلة الشهيرة. وبناء على تلك المعلومات كتبت في مقالي السابق أن «الرجل الذي يظهر في الصورة ليس من سكان مدينة سوما ولا من أقارب الضحايا، بل هو من أعضاء منظمة «اتحاد تركيا للشباب» الموالية للنظام السوري وجاء إلى مدينة سوما من مدينة أزمير بعد وقوع الكارثة. ويقال إن الرجل اقترب من مستشار أردوغان وسب أمه عدة مرات، ولكن المستشار لم يلتفت إليه، ثم ضرب الرجل على قفا المستشار، ورد المستشار على هذا الاستفزاز وحدثت بينهما مضاربة».

 

وبعد أن نشِر المقال في الصحيفة، بثت إحدى القنوات التلفزيونية التركية مقطع فيديو يظهر فيه ما جرى، حيث يركل أحد المواطنين المحتجين إحدى السيارات أثناء مرور موكب أردوغان، ثم يحاول الهروب، ويعاقبه رجل أمن كان أمامه، ويسقط المواطن على الأرض، ويأتي المستشار ويوجّه إليه ركلات بغضب. بالإضافة إلى ذلك، نقلت وسائل الإعلام التركية نقلا عن المواطن «أردال كوجا بييك» الذي تعرض للركلات قوله إن المستشار «يوسف يركل» اتصل به وعبَّر عن ندمه وطلب منه أن يسامحه، وهو بدوره طلب من المستشار أن يسامحه، وكل واحد منهما سامح الآخر. ويضيف المواطن أنه يقيم في مدينة «سوما» ويعمل منذ عشر سنوات عاملا في المنجم، وأنه فقد ابن خاله في الكارثة وكان تحت تأثير ألمه حين ركل السيارة، ويقدِّم اعتذاره أيضا إلى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان.

 

ولأني ذكرت الرواية الأولى في مقالي السابق وجب علي أن أذكر هنا في هذا المقال ما نُشِر بعد ذلك من المعلومات. ومع أني نقلت في مقالي السابق جزءا مما روي بصيغة التمريض (يقال) لا بصيغة الجزم، وأن المصادر التي نقلت عنها قد تكون هي الأخرى ضحية التضليل، إلا أن ذلك كله لا يعفيني من المسؤولية، وبالتالي فإني أعتذر إلى القراء الكرام وأعبر عن أسفي الشديد لما تضمنه مقالي السابق من معلومات غير صحيحة.

 

منذ أن بدأتُ الكتابة في الشؤون التركية حاولت أن أفتح نافذة للقارئ العربي ليطلع من خلالها على ما يحدث في تركيا. لا أدعي الحياد في التحليل، وبالتأكيد أميل إلى ما أراه صحيحا وأدافع عنه، ولكني في نقل الصورة والمعلومة أحاول قدر المستطاع أن ألتزم بالصدق والأمانة، وبعد ذلك قد يتفق القارئ الكريم معي في تحليل الأحداث والتطورات أو يختلف، لأننا إن ضيَّعنا الأمانة وفقدنا المصداقية فلا خير فينا ولا فيما نكتبه وننقله.

 

اتصال المستشار «يوسف يركل» بالمواطن الذي ركله ليطلب منه السماح تصرف سليم، ولكن ذلك لا يكفي، بل هو مطالب بتقديم الاعتذار إلينا وإلى جميع المواطنين، لأنه أساء إلى سمعة تركيا بذلك التصرف الهمجي، وكذلك هو المسؤول بالدرجة الأولى عن فتح المجال لانتشار المعلومات المغلوطة، وكان عليه أن يشرح للرأي العام في الوهلة الأولى ما الذي حدث بالضبط ويقدم اعتذاره.

 

ليس هناك أسلوب في التعامل مع مثل هذه الأحداث والأزمات أمثل وأسلم من الصدق والشفافية، وإطلاع الرأي العام على ما يجري أولا بأول عن طريق المسؤولين والناطقين الرسميين، وإن كان هناك خطأ فالأولى الاعتراف به دون اللف والدوران. وهذا الأسلوب يقطع الطريق أيضا أمام انتشار الشائعات ويقلص المساحة التي يتحرك فيها «الملكيون أكثر من الملك».

 

المصدر/ العرب القطرية