4 رمضان 1435

السؤال

فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البرك حفظه الله، قال بعض المتحدثين في مقطع صوتي متداول: «الاشتغال بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم له من الفضل ما لا يكون مترتبًا على تلاوة القرآن؛ وذلك أنك إذا قرأت القرآن فلك بكل حرف عشر حسنات، أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنك إن صليت عليه مرة صلى الله عليك بها عشرًا، وصلاة واحدة من الله تعدل كل الثواب»، فما رأيكم فيما قال؟

أجاب عنها:
عبد الرحمن البراك

الجواب

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد؛ فإن الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم مما أمر الله به في كتابه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56]، وعلَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه التشهد في الصلاة وقد فرض عليهم، وفيه: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»، وعلَّمهم كيف يصلون عليه: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد»، والصلاة عليه في التشهد الأخير قيل: ركن، وقيل: واجب، وقيل: سنة. والأقرب أنه واجب.
والصلاة منا على النبي صلى الله عليه وسلم دعاءٌ منا له بأن يصلي الله عليه، وصلاة الله عليه ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما أن صلاتنا على النبي عليه الصلاة والسلام ذكرٌ لله تعالى، وهكذا كل داع فإنه ذاكر لله، وقد ندب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة والسلام عليه في مواضع: كدخول المسجد والخروج منه، وابتداء الدعاء وختمه، بل قد جاء الوعيد لمن ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، كما رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه، ولا سيما يوم الجمعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا» رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي». رواه أبو داود والنسائي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب رضي الله عنه لما قال له: أجعل لك صلاتي كلها، قال عليه الصلاة والسلام: «إذن تُكفى همك، ويُغفر ذنبك» رواه الترمذي (2457) وقال: حسن صحيح، وجود إسناده الحافظ في الفتح. فقول أُبيٍّ: «أجْعلُ لك صلاتي كلها» أي دعائي، أي أجعل بدل دعائي لنفسي صلاةً عليك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإنَّ هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا جعل مكان دعائه الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم، كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته؛ فإنه كلَّما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرًا، وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة: «آمين، ولك بمثله»، فدعاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك».
فعلم مما تقدم أن الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضل الدعاء وأفضل الذكر، وأما القول بتفضيل التعبد بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على التعبد بتلاوة القرآن مطلقًا، فباطلٌ؛ فإن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة المقتدى بهم، وهو مخالفٌ للمأثور عن السلف من الترغيب في تلاوة القرآن، والتنافس في ذلك، ولا سيما في قيام الليل وفي شهر رمضان، ومخالفٌ لدلالة الكتاب والسنة؛ فمن ذلك ثناؤه تعالى على المتعبدين بتلاوة الآيات، كقوله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون}[آل عمران:113]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور}[فاطر:29] الآيات، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون}[الأنفال:2].
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقراءة القرآن والتهجد به، فقال تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً}[المزَّمل:2] إلى قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}[المزَّمل:4]، وقال:{فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[المزَّمل:20]، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار» الحديث، وقرن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة القرآن بالصلاة والصيام في حديث الخوارج في الصحيح، وفيه: «ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء»، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم لا ترجعون إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه» يعني القرآن. أخرجه الحاكم وصححه عن أبي ذر ووافقه الذهبي.
وأما الاستدلال على تفضيل التعبد بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على التعبد بقراءة القرآن بقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا»، فمعناه داخل في عموم قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }[الأنعام:160]، وهو كذلك سبحانه يجزي الذاكرين، يذكرهم ويصلي عليهم، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}[البقرة:152]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب]، وقد استفاضت السنة بتفضيل كلمات الذكر الأربع: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، والترغيب في الإكثار منها مطلقا ومقيَّدًا، ومع ذلك فتلاوة القرآن أفضل من الذكر المطلق بها، وقد جعل الله القراءة في الصلاة ركنَ الصلاة من الأقوال، وذلك باتفاق العلماء، وهو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته، قال: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن»، وما سوى القراءة من أذكار الصلاة فهو إما ركن أو واجب أو سنة، على تفصيل معروف بين العلماء، ولم تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلا في التشهد، وهي الصلاة الإبراهيمية بالصيغة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
وبعد؛ فالقول بتفضيل التعبد بالإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على التعبد بالإكثار من تلاوة القرآن مطلقًا هو مذهب كثير من أصحاب الطرق الصوفية الضالة؛ لذلك يبتدع شيوخهم صيغًا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعلون لكل صيغة من هذه الصيغ اسما تعرف به، كصلاة الفاتح والصلاة النارية، ثم يفترون لهذه الصلوات فضائل، منها تفضيلها على قراءة القرآن، وعلى أعمال الولي من أولياء الله، ولو عاش أزمانًا متطاولة، فمن ذلك ما قيل في فضل صلاة الفاتح أن المرة الواحدة منها تعدل ستمئة ألف صلاة، بل قيل عنها إنها تعدل من القرآن ستة آلاف مرة، كما في كتاب جواهر المعاني لعلي حرازم الفاسي من كتبهم، وهذا قليل من كثير. هذا مع أن في بعض الصلوات المبتدعة عبارات شركية، كما في قول صاحب دلائل الخيرات: «اللهم صلِّ على محمد ما سجعت الحمائم...، ونفعت التمائم»، وتعليق التمائم من الشرك، كما في الحديث.
هذا؛ وقد تبين مما تقدم أن ما ورد في المقطع الصوتي متضمنٌ للمعنى الباطل الذي تبين وجه بطلانه، وهو تفضيل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن، فعليه لا يجوز تداول هذا المقطع، ولا يجوز اعتقاد ما فيه من تفضيل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم على تلاوة القرآن؛ فإنه ضلال مبين، وما فاه به هذا الرجل الجاهل هو نزرٌ من الفكر الصوفي القائم على الغلوِّ في النبي صلى الله عليه وسلم، فاحذروا أيها الإخوة من الرجال والنساء ترويج مثل هذه الدعاوى التي لا مستند لها، لئلا تشاركوا الرجل في الضلال والإضلال. نسأله تعالى الهدى، ونعوذ به من الضلال. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أملاه:
عبد الرحمن بن ناصر البراك
حرر في 25 شعبان 1435ه