التقوى ثمرة مباركة في القلوب المؤمنة
10 رمضان 1435
يحيى البوليني

يتكرر الحديث عن التقوى في رمضان وفي كل رمضان , ولم لا ؟ وما الضير في ذلك ؟ فأي شئ أعظم من تكرار تذكير كل منا لنفسه ولأحبته باستصحاب التقوى في رمضان وفي غير رمضان ؟
فهل هناك من هم أكثر ربحا وسعادة في الدارين من المتقين , فالهدى للمتقين , والموعظة للمتقين , والأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده ولكن العاقبة دائما وأبدا للمتقين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا , هذا مقامهم في الدنيا أما في الآخرة فإن لهم حسن مئاب , وإن المغفرة والجنة التي عرضها السماوات والأرض أزلفت وأعدت للمتقين, بل إن الآخرة كلها , بكل ما فيها من نعم وخيرات للمتقين وليست لغيرهم , فهم في جنات النعيم وفي جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر , فمن أعظم منهم فوزا في الدنيا والآخرة ؟ .
فالتقوى هي الغاية المأمولة التي يتطلع لها المؤمنون أن تتحقق لهم كثمرة في رمضان , فما كان الصيام لتجويع بطن ومنعه من الطعام والشراب الحلال أو منع شهوة فرج مباحة فحسب , فما هما إلا تنفيذ أمر وإعلان تسليم لله عز وجل في أمره , لنقول بلسان الحال لربنا سبحانه " سمعنا وأطعنا " في إخبات وإنابة وخشوع وخضوع , وتذلل واستغفار , لنلحقها بقولنا "غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "
والتقوى ثمرة مباركة تنمو في القلوب المؤمنة لعدة بذور تزرع فيها , فنعم البذرة ونعم الثمرة ونعم الزارع الذي يتعهد تلك البذرة في قلبه ويسقيها بماء طاعته لربه فتثمر تلك الثمرة المباركة .
فالتقوى ثمرة للعبادة , فقال سبحانه " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " , فكل عبادة مخلصة لله – مهما كانت في عينك صغيرة - تقربك إلى ربك سبحانه , تنبت في قلبك تعظيما لربك وإجلالا له .
وكل طاعة لله بامتثال أمر أو ترك نهي تجلي القلب وتزيده نورا وبهاء وتزيد في تقوى العبد لربه وكل ابتعاد عن الطاعات وانخراط في الشهوات يطمس القلب ويباعد بينه وبين تحقيق التقوى , فيقول صلى الله عليه وسلم " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " (1)
والتقوى ثمرة الصيام المأمولة , لما فيه من مراقبة للنفس وإخلاص عبادة لا يعلم بها إلا الله , فقال سبحانه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " .
والتقوى ثمرة الحج , بل هي أعظم زاد الحجيج في رحلتهم لأداء فريضة ربهم , فيقول سبحانه " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ " .
والتقوى ثمرة إقامة شرع الله في أرضه , كما قال سبحانه "وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" , فكل أداء وتطبيق لشريعة الله في ارض المسلمين يزيد من تقوى العباد جميعهم – حاكمهم ومحكومهم غنيهم وفقيرهم - , وما ضعف أثر التقوى في قلوب العباد وما كان سبب ظهور الأمراض الخُلقية في امة الإسلام إلا نتيجة لعدم تطبيق شرع الله في أرضه أو بتطبيقه على الضعيف فقط ومحاباة وترك القوي الغني من تطبيق شرع الله عليه كما حذرنا صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة رضي الله عنه " فلما كان العشي قام رسول الله خطيبا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: " أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها "
والتقوى ثمرة اتباع صراط الله المستقيم والسير على المنهج الإسلامي دون انحراف عقدي أو فكري أو عقلي , كما قال ربنا سبحانه " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " , فكل انحراف عقائدي أو بدعي أو فكري مهما كان في عين العبد صغيرا سينال من حرارة التقوى في قلبه , فلا يظن كل من أُشرب بالبدع والأهواء وملا بها قلبه وشغل بها سمعه وبصره ولسانه أن قلبه سيسلم من هذه الآفات والشرور , ولهذا نجد أصحاب الأهواء والبدع أكثر الناس جرأة على انتهاك محارم الله لافتقادهم للتقوى أو لضعف تأثيرها في قلوبهم , والعكس بالعكس فكلما ضبط المسلم نفسه على مقياس الشريعة واتبع صراط الله المستقيم كلما كانت خشيته لله أعظم وتقواه لله أعمق أثرا .
------
(1) صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه 231 , باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين