رمضان في تركيا.. ذكريات ونفحات إيمانية
14 رمضان 1435
علا محمود سامي

على الرغم من أن تركيا تعد من الدول الإسلامية، التي يمكن أن يتشابه فيها الاحتفال بقدوم شهر رمضان وأجواؤه على مدى ثلاثين يوما أو أقل يوما، إلا أن أنقرة وغيرها من المدن التركية تحتفظ بطابع خاص على مدى أيام الشهر المبارك، لاتزال محفوظة ومتوارثة في الذاكرة الجمعية التركية.

 

هذا الطابع ، تبدو ملامحه جلية في مختلف المدن والقرى التركية منذ حلول شهر شعبان، حتى يتعاظم مع بدايات الشهر الفضيل، إلى أن يختتم أيامه، مودعا الأتراك على موعد جديد في شهر لاحق، إلا أنهم مع ذلك يتذكرون نسماته، ولاينسون عبقاته.
وبقدر ما يعتبر الأتراك الشهر الكريم من الشهور التي يشحذون فيها الهمم لإعلاء روحانياتهم، إلا أنهم يجمعون خلاله العديد من الذكريات التي يخلفها لهم في كل عام، فيتذكرونها على الدوام، ويرويها الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد.
لذلك، فإن الشهر المبارك يخلف للأتراك العديد من الذكريات التي يحتفظون بها، وتعتبر بالنسبة لهم موضع فخار بالانتماء إلى الإسلام، والذي أكرمهم بصيام أيام رمضان، للدرجة التي تجعلهم ينتظرونه على لهاف عاما بعد آخر.

 

وعلى الرغم من طغيان العلمانية في بعض نواحي الحياة بتركيا، إلا أن أبناء هذا البلد لاينسون إرثهم الإسلامي، ارتدادا إلى عصر الخلافة الإسلامية، والحكم العثماني لها، وحتى العلمانيين منهم يدركون أن رمضان يضفي أجواء روحانية، لابد من استشراف نسماتها، والفوز بها، ويفرقون في ذلك بين علمانية شاملة في السياسة، وأخرى جزئية، ينبغي ألا تمس الشعائر الدينية، وأركان الإسلام.

 

ولذلك فإن مظاهر الشهر الكريم تبدو واضحة في أنحاء مختلفة من المدن التركية، مع حلول شهر شعبان، حتى أن الأتراك يبدأون على مدار هذا الشهر، الاستعداد لاستقبال شهر رمضان، للدرجة التي يشعر معها الزائر لتركيا أنه في بلد عربي، وليس فقط إسلامي، وأن إشكالية النطق بالعربية، تعممها الديانة الإسلامية.

 

ولذلك، خلال الشهر الكريم يلمس الزائر لتركيا تلك المظاهر لشهر رمضان المبارك، ونسماته الإيمانية ، يستعيد خلالها الأتراك ذكرياتهم معه، أو التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم، والتي يتفاعلون معها إلى أبعد حد متوارثين إياها، جيلا بعد آخر. غير أن التطور الذي طرأ على بلادهم لم يمنعهم من التمسك بموروثهم، خاصة وإذا كانت تصاحبه مسحة دينية.

 

قبيل حلول الشهر المبارك، تنتشر الزينات التي يبدعها الأطفال بالأوراق، كما تنتشر محال البقالة ، لتقدم لروادها بيع المكسرات بأنواعها المختلفة، والتي يقبل عليها الأتراك في استخدامها لإعداد موائدهم الرمضانية ، سواء في وجبات الإفطار، أو بينها وبين وجبة السحور، والتي تعرف ب"الحلوى العثمانلي"، وهى الحلوى المتوارثة جيلا بعد الآخر، ومنها التين المجفف واللوز وما يلزم لتحضير الحلويات من البقلاوة إلى القطايف و"الكلاج"، وغيرها من الحلويات التي تصنع في داخل المطبخ التركي، والتي يشتهر بها.

 

ومن هذه البقال تلك التي تعرض لراغبي الفول السوداني وعين الجمل والفستق على نطاق واسع، والتي تعتبر مكونا أساسيا ل"الحلوى العثمانلي"، كما يسمونها، فيما تنتشر التمور على نطاق واسع، وتتزايد أسعار القادم منها من دول الخليج العربية، وخاصة السعودية، وتحديدا المدنية المنورة.

 

ومع هذه الأجواء تبدو علامات الترحيب بين الأتراك بقدوم الشهر الكريم، حيث يتبادلون مع بعضهم البعض التحية والتهنئة بقدومه، فيما تعج المساجد باستقبال روادها بقيام المتبرعين من رجال الأعمال والجمعيات الخيرية بالنظر في تهيئة المساجد لاستقبال عمارها، والإنفاق عليها، استعدادا لهذه المناسبة الدينية الكبيرة.

 

لذلك تبدو المساجد في أبهى حللها، وإن كانت كذلك في غيره من شهور العام، إلا أنها تزادا جمالا ورعاية من عمارها خلال الشهر المبارك، خاصة وأن المساجد التركية عموما تمتاز بالجمال، ودقة المعمار الذي اتسم به العصر العثماني بمراحله المختلفة، وصدره إلى الدول العربية التي تواجد فيها، ولذلك فإن نفس الطرز المعمارية التي يعتبرها بعض المصريين إرثا من قبل العصر العثماني قديما، هى نفسها الطرز التي استطاع الأتراك الحفاظ عليها إلى يومنا، وتبدو جلية في تشييدهم لجوامع الحاضر، وخاصة الكبيرة منها.

 

في هذه المساجد يهتم القائمون عليها بإعادة فرشها، وتهيئة ساحاتها، والتي تستقبل الصائمين للإفطار بها، وفي ذلك يتنافس أهل الخير في إعداد الموائد الرمضانية، أو التي تعرف في بعض البلدان العربية"موائد الرحمن"  وتكليفها بكل ما يتسم به المطبخ التركي من طابع متميز، وفي هذا الإطار يحرص الأتراك على الإفطار على التمور ، ثم قطعة من الجبن أو حبات من الزيتون، يحتسون بعدها الحساء الدافئ ، ليقومون بعدها لتأدية صلاة المغرب.

 

وبعد الصلاة، والتي يحرصون على تأديتها في المساجد، يتناول الصائمون إفطارهم، ويتنوع بين خضراوات وأرز ولحوم ، غير أن الوجبة المفضلة للكثيرين منهم ، تلك المعروفة ب"كباب الحلة"، وهى اللحوم التي يتم طهيها في القدر الخاص بها، مع إضافة بعض البهارات، والتي تمنحها الطعام مذاقا خاصا.

 

والأتراك عادة يفضلون اللحوم على غيرها من البروتينات، ولذلك يتناول القليل منهم الأسماك والفراخ في هذا الشهر ، على نحو أقل كثيرا مما يتناولونه في غيره من شهور العام.
وبعد الإفطار، والخلود إلى راحة قصيرة، ينهض الأتراك لتأدية صلاتي العشاء والتراويح في الجوامع الكبيرة، والتي تنتشر بكثافة في أنحاء مختلفة من تركيا، ولعل أشهرها في ذلك الجامع المعروف باسم"السلطان أحمد" في اسطنبول، و"الجامع الكبير" في مدينة بورصة، إلى غيرها من الجوامع.

 

في مثل هذه المساجد يصطف المصلون، مصطحبين معهم أطفالهم في مشاهد يكسو عليها البهاء والزهو من جانب الأطفال ، والذين يحرصون على أن يكونوا في صحبة ذويهم رجالا ونساء، حتى إذا ما فرغ الجميع من صلواتهم ، كانت الجائزة للأطفال والتي يتم توزيعها عليهم، وهى "الحلوى العثمانلي".

 

هذه الحلوى قد تكون"القطايف"، والتي يتم حشوها بمكسرات مختلفة، أو غيرها من "الكنافة"، أو"الجلاش" ، أو "لقمة القاضي"، كما تعرف في بعض البلدان العربية، ويطلق الأتراك على كل هذه الحلوى "الحلوى العثمانلي"، وتنتشر في العديد من المحال التي تفتح خصيصا بعد صلاة التراويح لاستقبال روادها، بأسعار زهيدة للغاية.

 

ويحرص كثير من الأتراك على دعوة بعضهم البعض إلى هذه الحلوى، والجلوس على المقاعد التي يتم إعدادها لهذا الغرض في الشوارع الجانبية للأخرى الرئيسة. وكما أن للروحانيات نصيبها خلال الشهر الفضيل ، فإن للثقافة بألوانها المختلفة أيضا نصيب من نهم الأتراك عليها في شهر رمضان المبارك، حيث يخرج الأتراك إلى المكتبات واستطلاع الكتب التي ينتشر أصحابها لبيعها أمام الجوامع الكبيرة، في مشهد يعكس نهم الأتراك للقراءة.

 

هذا النهم يبدو أيضا في فترات النهار، وبعد انقضاء ساعات العمل، حيث يذهب الصائمون إلى المساجد لتلاوة القرآن الكريم، أو قراءة الكتب الدينية، أو الاستماع إلى الدروس والخطب الدينية، والتي تتواصل على مدى الشهر الكريم، فيما ينتشر باعة الكتب خارج الجوامع، لعرض الكتب الدينية وأخرى ثقافية على رواد الجوامع، ما يعكس نهما تركيا بشأن القراءة والإطلاع على كل ما فيها من ثقافة وفكر وعلم.

 

وخلال نهار رمضان، يحرص الصائمون بعد عودتهم من وظائفهم، أو غيرهم من كبار السن ، وخاصة من المتقاعدين على الذهاب إلى النافورات المنتشرة بالشوارع، أو الجلوس بالقرب من مواضع الوضوء التي تنتشر بغزارة بالقرب من المساجد، وتجاورها أسبلة ، حيث يحرصون على الخلود إلى راحة يستنشقون خلالها هواء نقيا، ويتنسمون عبر جلساتهم رياحا قد تخفف من الرطوبة التي تصاحب حرارة الطقس، وينتظرون خلال هذا الوقت ساعة الإفطار، أو آخرين يذهبون إلى التنزه في حمامات السباحة، قبل الإفطار

 

مواضع الوضوء هذه يتزايد عدد زائريها، خاصة بعد آذان المغرب ، حيث يحتسي منها المفطرون شرابهم، خاصة وأنها تنتشر بكثافة في شوارع المدن التركية المختلفة، والتي تشمل أسبلة، أصبحت تندثر في دول عربية عديدة، أبرزها مصر، بعدما كانت رائجة إبان الحكم العثماني للقاهرة، حتى أصبحت اليوم أثرا بعد عين، في حال العثور عليها، يتم اعتبارها أثرا، لا يتم توظيفه، بقدر ما تجرى صيانته، عكس ما هو حاصل في تركيا من تشييد لها في الحاضر، كما كانت في الماضي .