القفزات الاستراتيجية العشرة لـ"العصف المأكول"
17 رمضان 1435
أمير سعيد

رغم أن الأخطر ربما لم يأت بعد في عملية "الجرف الصامد" (بحسب التسمية الصهيونية)، ووربما الأهم لم يأت أيضاً في العملية المقابلة لها "العصف المأكول"(بحسب تسمية القسام)؛ فإن ما انقضى من الحرب الدائرة في غزة المحررة وفلسطين المحتلة يكشف جانباً مهماً من التغييرات الاستراتيجية بالغة الأهمية التي أفرزتها مجريات الأحداث في الأيام الماضية.

 

ربما يتوقع شيء ما أفدح حينما تجد "إسرائيل" ذاتها أمام صخرة لا تستطيع تحريكها فتتجه إلى إحداث مجازر تفوق ما اقترفته في الأيام الأولى لعدوانها، أو ربما تخبئ المقاومة ما هو أشد وطأة على الكيان الصهيوني من عملياتها النوعية وهجماتها الصاروخية المتنوعة، ومع أن الكثيرين يترقبون تحولاً ما إذا ما أقدم الكيان الصهيوني على تحويل عدوانها إلى حرب برية، تبدو المقاومة في جهوزية عالية استعداداً لها، إلا أن ما حصل حتى الآن جدير بالتوقف عنده بحد ذاته قبل هذا التطور المرتقب، وسيكون التوقف في جانب رصد القفزات الاستراتيجية الهائلة، التي وثبتها المقاومة الفلسطينية، لاسيما حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فيما مر من أيام الحرب المحدودة القائمة في فلسطين المحتلة، وغزة المحررة..

 

أولاً: بين يدي "العصف المأكول" ـ حتى الآن ـ عمليتان بحريتان نوعيتان، إحداهما تمت لاختراق قاعدة زيكيم العسكرية الصهيونية من البحر، والثانية على شاطئ السودانية بقطاع غزة حيث وقعت مجموعة من قوات النخبة البحرية الصهيونية (شيتت 13) في كمين أسفر عن سقوط خسائر بشرية تتوقع المصادر الفلسطينية أن تكون "قتلى" واعترف جيش الكيان الصهيوني بكونها أوقعت 4 إصابات في صفوف الكوماندوز المقتحم، الذي فر تحت وابل كثيف من القصف، مخفقاً في تحقيق أي اختراق للدفاعات البحرية للقسام.

 

هاتان العمليتان وإن خضعتا لتعتيم شديد من الجيش الصهيوني، وهو الطرف الذي يمكنه تأكيد أو نفي وقوع خسائر بشرية، إلا أن ما رشح من تكهنات حولها يشي بأنهما قد مثلتا صدمة قوية للجيش الصهيوني، ولفكرة قدرته على صد هجوم من ضفادع بشرية فلسطينية أو تحقيق اختراق في دفاعات بحرية فلسطينية توقع أن تكون ضعيفة.

 

هذا، إذا أضيف له احتمالات كبيرة بأن غزة قد تمكنت من تحقيق اختراقات بحرية مؤثرة في جدار الحصار المضروب عليها براً وبحراً وجواً، وإلا لما أمكنها في ظل تدمير كل الأنفاق التي تربطها بمصر تقريباً من تحديث دفاعاتها وتقوية قدراتها للحد المشاهد الآن، وإذا أضيف إليه ما تسرب إعلامياً من رغبة حماس في أن يكون لغزة ميناء ومطار مستقلان، وأن تخرج من الحرب الحالية باستقلال في سيادتها على منافذها، وانعتاقها من فكرة المعابر كلية؛ فإننا نكون بصدد حديث عن شروع في بناء قوة بحرية ناشئة تكون مستقبلاً قادرة على إحداث نوع من السيادة البحرية.

 

بين يديها أيضاً، استخدام طائرات بدون طيار متنوعة أعلنت القسام عن تصنيعها، وأكدت تحليقها فوق وزارة الحرب الصهيونية، في إحدى تحولات المشهد بشكل جذري، بعد إطلاق مفاجآت صواريخ القسام ذات التأثير الأعلى عن كل الصراعات السابقة.

 

ثانياً: كان لقصف تل أبيب بتوقيت محدد، وبدعوة للإعلام لتغطيته، وللصهاينة أن يدخلوا جحورهم، رسائل عديدة، جديدة أيضاً، وهي تحول استراتيجي لافت، فالكيان ظهر عاجزاً عن ترصد منصات الصواريخ عند إطلاقها، وعاجزاً على اعتراضها في معظم الحالات، وعاجزاً عن طمأنة "شعبه" الغاصب، فاقداً القدرة في قلب العاصمة على حمايته رغم التهديد المسبق، عاجزاً عن فرض حياة طبيعية في عاصمة الكيان، وبدا الصهاينة أنفسهم أكثر تصديقاً لحماس عن قادة جيشهم! فلقد أخذ الجميع تهديدات القسام على محمل الجد، وهرع ملايين الصهاينة إلى الجحور دون استئذان حكومتهم، وهذه هزيمة نفسية وعسكرية غير مسبوقة.

 

ثالثاً: ثمة تحول حربي كبير حصل في عملية "العصف المأكول"، هو أنه ولأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني، يبدو الكيان الصهيوني بطيئاً في حركته، بليداً في تكتيكاته، نمطياً في هجماته، وتتسلم المقاومة دفة المبادأة والمبادرة، فهي التي نفذت عدداً من العمليات النوعية، وهي التي تدير الحرب النفسية باقتدار، وهي التي تبدو غير متعجلة في أمر إنهاء العملية. وهنا الملاحظ أن الأهداف الصهيونية صارت متواضعة إلى حد ما، والمناورات صارت محدودة، إلى حد لم يعد خافياً حتى على رجل الشارع العربي، الذي تحول من متابعة "مأساة غزة" لتشجيع "انتصارها" ـ من دون إغفال عدد الشهداء الذي قارب المائتين حتى كتابة هذه السطور ـ وهذا الانطباع ليس اعتباطياً، وهو من دون شك ليس حكراً على شعور عربي عاطفي، حيث ينطق الإعلام العبري بمثله، وتتحدث قيادات الكيان بلغته ذاتها.

 

رابعاً: من أبرز جديد هذا النوع من الاشتباكات والصراعات بين المقاومة والكيان الغاصب أن القسام وبعض الأجنحة العسكرية الأخرى تمكنت من تحديد واستهداف مواقع شديدة الحساسية والحصانة والتأثير، كالمطار الرئيس في الكيان الصهيوني، بن جوريون، منطقة ديمونا، مطار اللد، الموانئ الأساسية، المصانع الحربية، وصناعة المشتقات النفطية شديدة الخطورة عند تفجيرها (قد تحدث إصابة مباشرة لمصنع بتروكيماويات أسدود آلاف القتلى).

 

خامساً: أبرزت حالة الحرب إخفاقاً استخبارياً كبيراً للكيان الصهيوني يؤشر إلى تغير المؤشر لصالح المقاومة الفلسطينية، وقد تمثل ذلك فيما يلي:
ـ إخفاق الاستخبارات العسكرية "الإسرائيلية" في تحديد أماكن قادة الأجنحة العسكرية.
ـ شبكة الأنفاق التي نسجتها المقاومة تشبه الطلاسم عند أجهزة الاستخبارات الصهيونية عجزت عن حلها حتى الآن.
ـ فشل كامل في تتبع منصات الصواريخ وأماكن تخزينها رغم تحركها بشكل متصل تعبر عنه كثافة الصواريخ المطلقة من القطاع بكافة الأنواع.
ـ عجز الكيان الصهيوني عن التكهن بنوعية وقدرات ومدى الصواريخ التي أبقتها المقاومة سراً ريثما تنفجر الحرب، وقد كان.
ـ إدارة الحرب النفسية، وهو أحد مهمات الاستخبارات العسكرية، مالت بقوة لصالح كتائب القسام وأخواتها؛ فقد أديرت عملية قصف تل أبيب بحرفية عالية، وأوقعت المقاومة قوات استطلاعية صهيونية برية وبحرية في كمائن نصبتها لها باقتدار، وبثت شائعات في العمق الصهيوني لاسيما في عاصمة الكيان، وأرسلت رسائل تتحدث عن قصف واختطاف واختراق.. الخ، وأبقت الشارع الصهيوني في رعب متصل، وأجادت إرسال الرسائل الإعلامية عبر قادة حماس من زوايا مختلفة.

 

سادساً: أحدث التدرج في الاستهداف، والقدرة على رفع سقف الحرب أو تخفيضها توازن رعب، ألجم حركة الكيان الصهيوني؛ فإنها في هذه الحرب، ولأول مرة لم تعد "إسرائيل" تجرؤ حتى عن الحديث عن تطلعها إلى قتل قادة حماس، وهي الحركة التي تصفها بالإرهابية، وتستحل قتل قادتها المتعاقبين على مر السنين، ولا يعد هذا "الزهد" إلا تخوفاً من أن تكون الحركة قد باتت قادرة على إيقاع الأذى بأهداف كبرى في الكيان ككبار المسؤولين فيه، أو بعض المنشآت الحساسية كمجلس الوزراء ومقر الكنيست ووزارة الدفاع، حتى غدا الأمر كما لو كان مساجلة تقف "إسرائيل" مشلولة عن المضي في طريقها حتى النهاية قدماً. وهذا تغير استراتيجي هائل، جديد على لغة الصراع الفلسطينية/الصهيونية.
وهذا بدوره أدى إلى استمرار حالة باهتة من العدوان، تفتقر إلى القدرة على إحداث أي نكاية حقيقية في حركة حماس ذاتها، بناها، وقياداتها، وكوادرها، ومقدراتها، وتقتصر على استهداف الأطفال والنساء وحتى ذوي الاحتياجات الخاصة، ومما زاد طينتها بلة، أنها عجزت حتى على تنفيذ سياسة الأرض المحروقة حين لم يستجب الأهالي في شمال غزة لتنبيهات الكيان الصهيوني بإخلائه تمهيداً لتوغل بري مرتقب.

 

سابعاً: وعلى غير المتوقع تماماً؛ فحيث ظن الجميع، عواصم صهيونية، ومتعاطفة، أن المقاومة قد حرقت كل مراكبها بعد موقفها المبدئي من النظام السوري؛ وبعد تدمير الغالبية العظمى من الأنفاق التي تربط غزة بسيناء وبالعالم بالتبعية، ومع دخول علاقة حماس ببعض الأنظمة العربية نفقاً مظلماً، وحيث ساد اعتقاد بأنها غدت فريسة سهلة محاصرة؛ فإن المقاومة تمكنت من تحويل "عيب العزلة" إلى "مزية الاستقلال"؛ فبرغم عدم قطع كل العلائق مع دول إقليمية، إلا أن المحصلة النهائية هي أن المقاومة الفلسطينية خصوصاً حماس قد صارت رقماً منفرداً في المنطقة، وأنها لم تعد جزءًا من حلف يمكن تصويرها فيه على أنها تابع لهذا الطرف أو ذاك؛ فإذا كان بعض أسلحة القسام وتكتيكاتها قد تمت نسبتها إلى العسكرية الإيرانية أو السورية؛ فإنها اليوم تختلف، ولئن كانت أفادت بلا شك من الاتجاه الشرقي؛ فإنها الآن تتفوق أحياناً على بعض مكوناته، حتى "حزب الله" نفسه، الذراع العربي الغربي لإيران.

 

الأخطر لدى الصهاينة الآن، أن حماس لم يعد ممكناً الضغط عليها من قبل مصر ولا إيران، إلا بشكل محدود، وأنها صارت تتطلع إلى تحقيق الاستغناء الكامل عن هذا المحور أو ذاك، وهذا الوضع "استراتيجياً" هو نواة لـ "قوة إقليمية" مستقلة. وأيضاً بالنظر إلى اعتبار بعض العواصم كتائب القسام ذراعاً عسكرياً ليس لحماس فقط، وإنما لحاضنتها الفكرية؛ فإنه وحين عُدت إجراءات بعض الدول كسراً لتلك الحالة؛ فإن خروج القسام قوية من معركة كهذه سيعد ترسيخاً لفكرة ثبات هذا الجناح دولياً.

 

ثامناً: برغم ما تبديه حماس في تلك العملية، أو ما بدا بالفعل؛ فإنه لا يمكن إنكار مساهمة قوى إقليمية، عربية، وتركيا في دعم جهود المقاومة الفلسطينية، على الأقل من الناحية اللوجستية والمادية، وعليه؛ فإن هرولة العواصم الغربية لمحاولة وقف الحرب سيسهم في تقوية هذا المحور الثالث الناشئ في المنطقة والذي تعرض لهزة عنيفة مع ابتعاد القاهرة عنه منذ ما يقرب من عام، ولربما أفاد الزعيم التركي أردوغان كثيراً في حال ما جرت الرياح بما تشتهي سفنه، ولجأ إليه العالم لإيقاف الحرب، ووضع نفسه في موقع متقدم إقليمياً ودولياً، وهذا يصنع تغييراً لافتاً في موازين القوى الإقليمية والدولية. يضاف إلى هذا تقدير الاستخبارات الصهيونية والغربية أن أي تفوق تحدثه المقاومة في فلسطين وأي تطوير تقوم به، قد ينقل بطريقة تلقائية إلى الثوار في سوريا والعراق، والذين يتمتعون بقدرات تتفوق أحياناً في مجالات وتتخلف في أخرى، بما قد يحدث تكاملاً يغير قواعد اللعبة كلها في المنطقة.

 

تاسعاً: لقد مثل إنشاء شبكة من الأنفاق الداخلية تحت أرض غزة تحييداً ناجزاً لسلاح الجو الصهيوني المتفوق، ذي القدرة العالية عالمياً، وتمكنت القسام، وحماس من تأمين كافة قياداتها وكوادرها السياسية والعسكرية، ومارست تمويهاً بارعاً حتى الآن، وتمكنت من إخفاء صواريخها، وتأمين حاجياتها، مستفيدة من تجربة "حزب الله" في الجنوب اللبناني، وكذا من تجارب مماثلة في الكتلة الشرقية قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، لاسيما في ألمانيا الشرقية، ورومانيا وغيرها.

 

عاشراً: ما حصل حتى الآن هو اختبار قاسٍ للأسلحة الأمريكية في المنطقة، برغم فارق القوة بين حماس والكيان الصهيوني؛ فكل معركة تخسرها تل أبيب تعد امتهاناً للسلاح الأمريكي الذي يمثل كافة عناصر التسليح الصهيوني، وإذا كانت بعض المعارك شهدت في الماضي تفوقاً شرقياً في بعض الأسلحة؛ فإن الحديث الآن ليس عن سلاح شرقي، وإنما عن سلاح صنع بطريقة بدائية وفي ظروف صعبة لا يمكن بحال مقارنتها بمصانع السلاح الأمريكية، التي أخفقت حتى الآن في مشاركة برامج "إسرائيل" للقبة الفولاذية وغيرها من وسائل "الدفاع"، وكذا ظهرت الكلفة العالية والتخبط لحد اعتراض طائرة القسام دون طيار بمنظومة باتريوت باهظة الثمن، وإفلات بعض الطائرات من هذه المنظومة.

 

أخيراً؛ فإنه لم تغمد السيوف بعد، ولم تزل المعركة مترعة بالمفاجآت والرسائل، وربما التغييرات الاستراتيجية التي سيكون لها ما بعدها.. وستخرج الأسرار التي تطويها الحالة الحربية شيئاً فشيئاً، لاسيما بعد أن تقل حالة الفزع الصهيونية الشديدة، والتي أوجزتها صحيفة يديعوت  أحرونوت العبرية في افتتاحيتها بالقول: "إن المقاومة استطاعت أن تدخل 6 مليون صهيوني إلى الملاجئ واستطاعت إخراج 2 مليون فلسطيني لمشاهدة الهجمة الصاروخية علينا"!