تباكي الغرب على نصارى الموصل
24 رمضان 1435
د. عامر الهوشان

في الوقت الذي يتغافل فيه الغرب عن جريمة إراقة دماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها , بل ويتواطؤ ويشارك في تلك الجريمة البشعة التي ترتكب دون أي ذنب أو جريرة - اللهم إلا إصرار المسلمين على انتمائهم لدينهم وتمسكهم بحقوقهم المشروعة - يتباكى على أدنى تصرف يمس النصارى في أقصى الأرض , في تناقض واضح وصارخ لما يدعيه منذ عقود من حمايته وغيرته على حقوق الإنسان .
وليس هذا الأمر بجديد على الغرب أو دخيل عليه , بل هي حقيقة سياسته المنحازة والجائرة التي لم تعد تخفى على أحد , فصفحات التاريخ القديم والحديث شاهدة بذلك , و وقائع الأحداث المعاصرة خير ناطق بها .
لقد تجاوز عدد شهداء غزة حاجز 500 شهيد معظمهم من النساء والأطفال , ناهيك عن آلاف الجرحى والمهجرين من بيوتهم التي تسقط فوق رؤوسهم جراء القصف الصهيوني الوحشي المستمر عليهم منذ أسبوعين , دون أن يتعالى صوت الغرب لإيقاف هذا الدم وتلك الجراحات , بينما يتباكى اليوم لمجرد انتهاء مهلة حددها تنظيم "الدولة الإسلامية" لرحيل بعض العائلات النصرانية بمدينة الموصل العراقية .
وعلى الرغم من عدم موافقة المسلمين من أهل السنة على ما قام به تنظيم "الدولة الإسلامية" " بالعراق من تحدد مهلة للنصارى بالخروج من مدينة الموصل , والتي انتهت يوم أول أمس 21 من شهر رمضان ، بعد أن أمهلهم التنظيم للاختيار بين الإسلام ، أو دفع الجزية ، أو مغادرة المدينة ، الأمر الذي أدى إلى مغادرة أغلب سكان الموصل من المسيحيين إلى إقليم كردستان العراق ، خاصة أربيل .
إلا أن الملاحظة التي لا بد أن تسجل في هذا الإطار , هو ذلك التباكي الغربي على هذه الحادثة والتضخيم الإعلامي لها , بينما يحل بالمسلمين في العراق وغيرها ما هو أدهى من ذلك بكثير وأعظم , دون أن نسمع للغرب ذلك التباكي وتلك الضجة الإعلامية .
بل إنه لا يستبعد أن يكون للغرب يد و رغبة فيما يقوم به تنظيم "الدولة الإسلامية" , حيث سيمثل المبرر الأمثل للغرب للمزيد من اضطهاد المسلمين وشن الحرب الشعواء عليهم في كل مكان , خاصة مع ازدياد تصرفات "التنظيم" الخاطئة في كل من العراق وسورية , والتي غالبا ما تكون في صالح وخدمة أعداء الإسلام والمسلمين , سواء كان ذلك بقصد منهم أو بغير قصد .
لقد توالت ردود الأفعال المنددة بتصرف "تنظيم الدولة" بالعراق , فأدان الأمين العام للأمم المتحدة أمس الأحد ما وصفه "اضطهاد تنظيم الدولة للمسيحيين في مدينة الموصل بشمال العراق" ، واعتبره جريمة ضد الإنسانية , كما صدرت إدانات عراقية ودولية مماثلة , بينما لم نر منه ومن غيره من تلك الهيئات والدول هذا التنديد وهذه الحمية حين شن الرافضة حملة تهجير لأهل السنة من مدينة البصرة العراقية .
وفي الفاتيكان ندد البابا فرانسيسكو بما وصفه باضطهاد المسيحيين في مهد عقيدتهم ، وأعرب في قداسه الأسبوعي أمس الأحد عن قلقه بشأن الإنذار الأخير الذي وجهه تنظيم الدولة للمسيحيين , بينما لم نسمع منه أي نصيحة أو موعظة للنصارى بعدم ظلم المسلمين وإخراجهم من بيوتهم وديارهم , بل وقتلهم بأبشع الوسائل والطرق كما يحدث في كل من إفريقيا الوسطى وغيرها على أيدي المليشيات المسيحية هناك .
لقد عاش النصارى في كنف الدولة الإسلامية معززين مكرمين حين كانت القوة بيد المسلمين , والتاريخ مليء بالأحداث التي تثبت ضمان خلفاء المسلمين لحقوق النصارى كاملة , بدءا بوثيقة المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومرورا بالعهدة العمرية في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه , و وثيقة عمرو بن العاص لأقباط مصر , وليس انتهاء برعاية خلفاء الدولة العثمانية للنصارى ومنحهم الامتيازات التي لا يحلم بها أحد , فلماذا لم يراع النصارى تلك المعاملة ويقابلوها بالمثل ؟!!
وعلى الرغم من كل الاضطهاد والظلم الذي يلاقيه المسلمين على يد حكام بعض الدول الغربية النصرانية في العراق وغيرها , إلا أن ذلك لم يمنع هيئة علماء المسلمين في العراق من انتقاد تصرف تنظيم (الدولة الإسلامية) , ومطالبته بإصلاح هذا الخطأ الكبير الذي ارتكبته ضد النصارى في مدينة الموصل ، والسماح لهذا المكون بالرجوع إلى ديارهم .
ورأت الهيئة أن هذا العمل يُعد تجنيا على الأبرياء وخروجا عن السبيل التي أوصى بها نبي الإسلام ، وشرحها فقهاء المسلمين من بعده في التعامل مع هذا المكون ، وغيره من أهل الكتاب .. مؤكدة أنه لا يحق شرعا لأي جهة أن تتخذ مثل هذه الإجراءات التي تفتقر ـ إن سلمت صحتها ـ إلى دولة وسلطان يمثلان الأمة ، وقضاء شرعي معروف بنزاهته وكفاءته ، وعلماء في الفتوى مشهود لهم بالعلم والتقوى .
كما شددت الهيئة على حرمة استلاب البيوت والأموال والمقتنيات ، ودعت لتطبيق أحكام الغصب في الشريعة الإسلامية على كل حدث من هذا النوع ، ناهيك عن تنويهها بالواجب في هذه الظروف الصعبة , المتمثل بحماية المستضعفين من أبناء المناطق المحررة وتوفير العيش الكريم لهم ولا سيما الأقليات ؛ لقطع الطريق على أعداء الثورة والمتصيدين في الماء العكر....
إن الحقيقة أن المسلمين ينطلقون في تصرفاتهم وسلوكهم مع أعدائهم قبل أصدقائهم من ثوابت الدين الإسلامي وأحكامه الفقهية المستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , بينما تنطلق تصرفات الدول الغربية - التي تدعي الالتزام بالنصرانية وهي منه ومن تعاليمه براء – مع المسلمين من أحقاد لا مبرر لها , وكراهية لهذا الدين لا مسوغ لاستمرارها .
وإذا كان التوقف عن اضطهاد المسلمين ومعاملتهم بالمثل من قبل الغرب مستحيلة أو غير ممكنة , فليتوقفوا على الأقل عن الزعم بأنهم رعاة لحقوق الإنسان وحماة له , بينما هم في الحقيقة أكثر من ينتهك تلك الحقوق وأشد من يميز بين بني البشر .