الانتخابات في تونس.. كل شئ ممكن في السياسة
6 محرم 1436
عبد الباقي خليفة

دخلت تونس مرحلة جديدة بعد الإنتخابات التي شهدتها في 26 أكتوبر 2014 م، والتي جرت رياحها بغير ما اشتهت سفن كثيرة  فقد أفرزت حزبين كبيرين، هما حزب نداء تونس { 81 مقعدا } وحزب حركة النهضة { 77 مقعدا } حسب آخر ما أظهرته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مساء الثلاثاء 28 أكتوبر 2014 م. كما كشفت الإنتخابات عن صعود أحزاب كانت تعد من أحزاب الصفر فاصل، وسقوط أحزاب أخرى حصلت في الإنتخابات الماضية على المراتب الثالثة والرابعة. فالحزب الوطني الحر وكذلك الجبهة الشعبية، كانا من أحزاب الصفر فاصل في الإنتخابات الماضية يحصلان على المرتبة الثالثة والرابعة في هذه الإنتخابات. بينما يدخل خزبا التكتل من أجل العمل والحريات، والمؤتمر من أجل الجمهورية،إلى دائرة الصفر فاصل، وقد كانا من الأحزاب الكبرى داخل المجلس الوطني التأسيسي وضلعين في الترويكة التي حكمت لمدة عامين بقيادة حزب حركة النهضة. إلى جانب أحزاب أخرى كتيار المحبة، { العريضة الشعبية، سابقا} والحزب الجمهوري { الحزب الاشتراكي الديمقراطي، سابقا} وعدد آخر من الأحزاب، في حين لم تخرج الغالبية العظمى من الأحزاب من دائرة الصفر.

 

أسباب التغيير الكبير: هناك أسباب متعددة لهذا التغيير الكبير في الخارطة السياسية في تونس، ومن أهمها{ 1 } لم تكن هناك ثورة بالمعنى التقليدي للكلمة، حيث ظلت الإدارة في يد النظام الذي أطاحت برأسه الثورة وبقي الجسم كجسد الأفعى يبحث له عن رأس، وكان الباجي قايد السبسي.

 

{ 2 } لم يقم الثوار بتشكيل أول حكومة في أعقاب فرار المخلوع بن علي يوم 14 يناير 2011 م وإنما قام ضباط في الأمن الرئاسي باستدعاء وزراء بن علي ليشكلوا أول حكومة بعد الثورة . ثم تولي الباجي قايد السبسي قيادة المرحلة الإنتقالية الأولى.
وفي المرحلة الإنتقالية الأولى تم تجنيد مفاصل الدولة، أو الدولة العميقة ، فيما عرف بعد ذلك بالثورة المضادة. والتي تركت بصماتها واضحة أثناء حكم الترويكة { 2012 / 2013 / }.

 

{ 3 } تم إخفاء الكثير من الملفات التي تدين رموز النظام السابق، ووقع ابتزاز الكثيرين من الساسة ورجال الأعمال من خلالها.

 

{ 4 } تم ترقية الكثير من الموظفين في الدولة، ووضع آخرين في أماكن حساسة، وتم تلغيم الكثير من الملفات ومن بينها عملية الزيادة في الأجور التي أرهقت ميزانيات الدولة في عهد الترويكة ولا تزال.

 

{ 5 } لم تمض سوى أيام قليلة على انتخابات 23 أكتوبر 2011 م حتى ارتفعت الأصوات المعارضة مطالبة بعدم التصويت على ميزانية 2012 م التي وضعتها حكومة الباجي قايد السبسي{ الحليف } وذلك بهدف إحداث بلبلة في البلاد، لأن عدم التصويت يعني عدم صرف الرواتب لمدة 4 أشهر وما يعني ذلك للموظفين في الدولة وللمجتمع أي احداث هزات اجتماعية واحتجاجات عنيف .

 

{ 6 } تم الإتفاق بين أحزاب المعارضة وقتذاك على إفشال الترويكة الحاكمة، وصدرت تصريحات، من أشهرها ما أعلنه القيادي اليساري محمد الكيلاني" إفشال النهضة وعدم نجاحها قضية حياة أو موت ، يجب أن لا ينجحوا لأن ذلك سيدفع الشعب لانتخابهم مرة أخرى".

 

{ 7 } لم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل سعت المعارضة، ومن بينها مكونات نداء تونس في ما بعد، وعلى رأسهم الباجي قايد السبسي، لدى سفراء الدول الأجنبية بتونس، وتحريضهم على عدم منح تونس قروضا جديدة، لأن حكومة الترويكة بقيادة النهضة ستسقط ، حسب تعبيرهم.

 

{ 8 } شهدت البلاد عددا كبيرا من الإضرابات تجاوز ال 43 ألف إضراب، وهو رقم قياسي، لم يشهد له العالم مثيلا ، بما في ذلك إضرابات اليونان، واسبانيا، وفرنسا، وايطاليا، وأمريكا اللاتينية، مجتمعة. وأغلبها اضرابات عشوائية هدفها الإضرار بالاقتصاد حتى لا تتمكن الترويكة من فعل أي شئ.

 

{ 9 } في 2013 م وتحديدا في شهري فبراير، ويوليو، تمت عمليتي اغتيال طالت عنصرين من المعارضة هما شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، وكان الهدف هو نفسه، إسقاط حكم الترويكة بقيادة النهضة، واتهامها بقتلهما أو الضلوع في عمليتي الاغتيال. وقد أدى الإغتيال الأول لاسقاط حكومة حمادي الجبالي، والثاني لاستقالة حكومة علي العريض، وتولي حكومة تكنوقراط { خبراء } مقاليد السلطة في البلاد في مطلع 2014 م . وقد أعقب الاغتيالين حركات احتجاج منظمة، عرفت الأولى بانقلاب الجنائز ، والثاني بانقلاب الارز بالفاكهة، حيث اعتصمت المعارضة في باردوا أين يوجد المجلس التأسيسي{ البرلمان } وتحول الاعتصام إلى ولائم فيها الأرز بالفاكهة. أما انقلاب الجنائز فقد كان هناك من خطط لتحويل جنازة شكري بلعيد إلى ثورة شعبية بيد أن الوقت والأمطار لم تسعف المخططين لتنفيذ ما استقروا عليه . كما فشلت محاولات افتكاك مراكز السلطة في المحافظات بعد اغتيال البراهمي. غير أن ذلك سرع من عملية انتقال السلطة إلى حكومة تكنوقراط ، وخروج النهضة من الحكومة. أو بتعبير أدق، النهضة والترويكة عموما، خرجتا من الحكومة وبقيت في الحكم بتعبير الغنوشي، وذلك من خلال الرئاسة، ورئاسة المجلس التأسيسي، والأغلبية فيه. 

 

{ 10 } يمكن التأكيد على أن الإرهاب الذي شهدته تونس، كان أحد الرافعات التي مهدت للمشهد السياسي الحالي  بعد الانتخابات. فطالما ربطت وسائل اعلام كانت على علاقة وثيقة بنظام المخلوع بين الإرهاب والترويكة، وتحديدا حزب حركة النهضة. وقد نجحت إلى حد ما في زرع هذا الإعتقاد في عقول البسطاء. وكانت ثالثة الأثافي العملية الأمنية التي أختير لها يوم 23 أكتوبر لتنفيذها ضد عناصر توصف بالمتشددة،أي قبل 3 أيام من موعد الانتخابات { 26 أكتوبر } وهو ما كان له تأثير على بعض الناخبين. و23 أكتوبر هو ذكرى انتخابات 2011 م والموعد الذي حددته قناة الجزيرة لبث شريط وثائقي عن اغتيال بلعيد. وهو شريط أزعج خصوم النهضة في تونس، وعملوا على تأجيل بثه وهو ما حدث فعلا.

 

التساؤل الجدير بالبحث هو، هل كان الناخبون الذين صوتوا للأحزاب التي اختفت في هذه الإنتخابات، من قواعد حزب المخلوع، والتي صوتت في الانتخابات الماضية لهذه الأحزاب ظنا منها أنها معارضة للنهضة ، وعندما تشكلت أحزاب من المنظومة القديمة، عادت إلى مواقعها السابقة، وهو ما يفسر تلاشي أحزاب وظهور أخرى تشارك في الإنتخابات لأول مرة كحزب نداء تونس، والذي يعد من الأحزاب التي أفرزتها عملية حل حزب التجمع المنحل ؟

 

وهل كانت الحملة الانتخابية لحركة النهضة، قد أحيت شعبيتها،ولكن ليس بالقدر الذي يجعلها في المقدمة، وفي المقابل أرعبت خصومها فجعلتهم يتكتلون في مواجهتها بانتخاب حزب واحد فقط، هو نداء تونس، وهو ما أثبتته قائمات الناخبين في ما بعد. في حين قاطع كثير من السلفيين وحزب التحرير الاسلاميين الانتخابات بحجة أنها حرام ، وهو ما ساهم في صعود العلمانيين { دعاة فصل الدولة عن الدين } واللائكيين{ اللادينيين و دعاة دولة بلا دين} . 

 

مستقبل التحالفات السياسية: رغم أن ملامح الحكومة التونسية القادمة لم تتضح حتى الآن ، إلا أن جميع الاحتمالات واردة. ومن بينها { 1 } تحالف حزب نداء تونس{ 81 مقعدا غير مؤكدة ، حيث يمكن أن تتقلص} ، مع الجبهة الشعبية{ 12 مقعدا } وبقية الأحزاب التي أفرزتها عملية حل حزب التجمع الذي كان يقوده المخلوع بن علي. وهناك استبعاد لتحالف، الاتحاد الوطني الحر { 17 مقعدا } مع حزب النداء، وذلك لترشح رئيسه سليم الرياحي للانتخابات الرئاسية . وهناك من يستبعد امكانية تحالف الجبهة الشعبية مع نداء تونس للتباين الشاسع بين الحزبين في البرامج والتصورات الاقتصادية والاجتماعية . كما استبعدت مصادر مطلعة امكانية التحالف بين النداء والاتحاد الوطني الحر. وترجح هذه المصادر، تحالف حزب النداء مع حركة النهضة، من أجل قيام سلطة قوية تمثلها القوتان السياسيتان الأساسيتان والأهم في البلاد { النهضة والنداء } من أجل حفظ استقرار البلاد وأمنها . ويقف شق في نداء تونس، مع التحالف مع الجبهة الشعبية، في حين يفضل شق آخر التحالف مع حزب حركة النهضة. وكان رئيس حزب النداء الباجي قايد السبسي قد ذكر في وقت سابق، أن " النداء والنهضة خطين متوازيين لا يلتقيان إلا بإذن الله وإذا التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله " ورغم أن القيادي اليساري في حزب نداء تونس محسن مرزوق، قد ذكر بأن النهضة لا تشبههم وأن الجبهة الشعبية هي حليف النداء، إلا أنه لا يعبر عن موقف نداء تونس، وإنما عن الشق اليساري داخله ، ومسألة دخول النهضة في الحكم مع النداء، أو بقاءها في المعارضة وارد، ولا يمكن التعويل على التصريحات، التي غالبا ما تكون مخالفة للواقع ولما يجري في الكواليس، فلا شئ غير ممكن في السياسة .