نفي النسب بالبصمة الوراثية
15 صفر 1436
د. نايف بن جمعان الجريدان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
تُطلق البصمة الوراثية على الكشف الذي يحدد هوية الإنسان، وصلته بمن تسبب في وجوده عن طريق تحليل جزء أو أجزاء الحمض النووي (DNA) المتمركز في نواة أي خلية، وعرف المجمع الفقهي البصمة الوراثية بأنها البينة الجينية –نسبة إلى الجينات، أي: المورثات- التي تدل على هوية كل إنسان بعينة(1).
ومن أهم مجالات الاستفادة من البصمة الوراثية : نفي النسب أو إثباته من الناحية الجينية وما يتعلق به كتمييز المختلطين في المستشفيات، أو حال الاشتباه في أطفال الأنابيب ، أو عند الاختلاف أو التنازع في طفل مفقود بسبب الكوارث أو الحوادث، أو طفل لقيط، أو حال الاشتراك في وطء شبهة وحصول الحمل، أو عند وجود احتمال حمل المرأة من رجلين من خلال بيضتين مختلفتين في وقت متقارب، كما لو تم اغتصاب المرأة بأكثر من رجل في وقت واحد، أو عند ادعاء شخص عنده بينة بنسب طفل عند آخر قد نسب إليه من قبل بلا بينة(2).
ومن المعلوم أن الطريقة التي جاءت بها النصوص الشرعية لنفي النسب هي اللعان بأن يشهد كل من الزوجين عدة شهادات مؤكدة مقرونة باللعن من جانب الزوج، وبالغضب من جانب الزوجة، قائم مقام حد القذف في حق الزوج وقائم مقام حد الزنا في حق الزوجة، فهل تقوم البصمة الوراثية مقام اللعان في إثبات النسب، وهذه المسألة من المسائل المعاصرة التي اختلف فيها العلماء، ويمكن إرجاع اختلافهم إلى قولين:

القول الأول:
ويقضي بأن البصمة الوراثية لا تثبت النسب، وهو قول جمهور الفقهاء(3) ، وأنه لا ينتفي النسب الشرعي الثابت بالفراش (الزوجية) إلا باللعان فقط، وبهذا القول صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي حيث جاء فيه: "لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوارثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان"(4).

واستدل أصحاب هذا القول بعدة أدلها أهمها:
1- قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} (5).
فالآية الكريم دلت على أن الطريق الوحيد لنفي النسب هو اللعان، والأخذ بالبصمة الوراثية يُعد زيادة على كتاب الله(6)، ثم إننا لا نستطيع أن نعتمد على البصمة فحسب ، وهي قرينة ولا أكثر ، ونقيم عليها حد الزنا على الزوجة، بل لا بد من البينة ، فكيف نقدم البصمة على اللعان ولا نقدمها على الحد(7).

2- ما أخرجه مسلم في صحيحه(8)، أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ، جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ يَا عَاصِمُ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ، فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَسَلْ لِي عَنْ ذَلِكَ يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ، فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا؟ قَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللهِ، لَا أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا» ، قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ» .
قال ابن حجر رحمه الله تعليقا على هذا الحديث: " أن الْفِرَاشَ يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ بِزَمْعَةَ فِي النَّسَبِ وَالشَّبَهَ يَقْتَضِي إِلْحَاقَهُ بِعُتْبَةَ فَأَعْطَى الْفَرْعَ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ فَرُوعِيَ الْفِرَاشُ فِي النَّسَبِ وَالشَّبَهُ الْبَيِّنُ فِي الِاحْتِجَابِ"(9).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أهدر الشبه البين وهو الذي يعتمد على الصفات الوراثية، وأبقى الحكم الأصلي وهو الولد للفراش، فلا ينفى النسب إلا باللعان(10).

القول الثاني:
أن البصمة الوراثية تثبت النسب، وذكر لأصحاب هذا القول اتجاهات ثلاثة:
الأول: أنه يمكن الاستغناء عن اللعان، والاكتفاء بنتيجة البصمة الوراثية إذا تيقن الزوج أن الحمل ليس منه؛ كأن يكون الزوج خصيا أو عنينا أو مجبوبا أو لا يولد لمثله.
والثاني: وأن الطفل لا ينفي نسبه باللعان إذا جاءت البصمة الوراثية تؤكد صحة نسبه للزوج ولو لاعن، وينفي باللعان فقط إذا جاءت البصمة تؤكد قوله ، ويعد دليلا تكميليا.
والثالث: إنه إذا ثبت يقينا بالبصمة الوراثية أن الحمل أو الولد ليس من الزوج فلا وجه لإجراء اللعان ، وينفي النسب بذلك، إلا أنه يكون للزوجة الحق في طلب اللعان لنفي الحد عنها لاحتمال أن يكون حملها بسبب وطء وشبهة، وإذا ثبت عن طريق البصمة الوراثية أن الولد من الزوج وجب عليه حد القذف(11).

ومما استدل به أصحاب هذا القول ما يلي:
1- قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ...}(12)، فهذه الآية ذكرت درء العذاب ولم تذكر نفي النسب، وليس ثمة تلازم بين اللعان والنسب، فعنئذ يلجأ الرجل إلى الملاعنة ويدرء عن نفسه العذاب ولا يمنع أن ينسب الطفل إليه إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية(13).
ثم إن الشارع يتشوف إلى إثبات النسب رعاية لحق الصغير ، ومخالفة البصمة لقول الزوج في النفي يتنافي مع أصل من أصول الشريعة في حفظ الأنساب، وإنفاذ اللعان مع مخالفة البصمة لقول الزوج مع خراب حفظ الذمم عند بعض الناس في هذا الزمان وتعدد حالات باعث الكيد للزوجة يوجب عدم نفي نسب الطفل إحقاقا للحق وباعثا لاستقرار الأوضاع الصحيحة في المجتمع(14).

2- أن نتائج البصمة الوراثية نتائج يقينية قطعية لكونها مبنية على الحس، وإذا أجرينا تحليل البصمة الوراثية وثبت أن الطفل من الزوج وأراد أن ينفيه فكيف نقطع النسب ونكذب الحس والواقع ونخالف العقل، ولا يمكن البتة أن يتعارض الشرع الحيكم مع العقل السليم في مثل هذه المسائل المعقولة المعنى وهي ليست تعبدية فإنكار الزوج وطلب اللعان بعد ظهور النتيجة نوع من المكابرة والشرع يتنزه أن يثبت حكما بُني على الكابرة(15).

الراجح في هذه المسألة:
رجح بعض الباحثين المعاصرين القول بأن البصمة الوراثية تثبت النسب لقوة أدلة أصحاب القول الثاني، وأن الآية التي استدل بها أصحاب القول الأول قيدت إجراء اللعان، إذا لم يكن ثمة شاهد إلا الزوج، ومفهومه أنه لو كان هناك بينة من شهود فإنه لا يجري اللعان، بل يثبت ما رمى به الزوج زوجته ، فإنه لو كانت هناك بينة أخرى غير الشهادة فلا وجه لإجراء اللعان كما هو الحال لو أقرت الزوجة زوجها فيما رماها به من الزنا فإذا منعنا وقوع اللعان لوجود سبب مانع له فما قيمته مع وجود بينة قطعية (البصمة الوراثية) تخالف الزوج فيما ادعاه(16). والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
-----------
(1) ينظر: قرار مجلس المجمع الفقهي في دورته السادسة عشرة، المنعقدة في مكة 21-26/10/1426هـ ، الموافق 5-10/1/2002م، وانظر: أثر الدم والبصمة الوراثية في الإثبات، بسام القواسمي، ص 63-64.
(2) أثر الدم والبصمة الوراثية في الإثبات، بسام القواسمي، ص 63-64.
(3) ينظر: البحر الرائق، لابن نجيم، (4/130)، حاشية الدسوقي، (3/398)، المهذب للشيرازي، (2/120)، المغني لابن قدامة، (11/125).
(4) قرار مجلس المجمع الفقهي في دورته السادسة عشرة، المنعقدة في مكة 21-26/10/1426هـ ، الموافق 5-10/1/2002م
(5) الآيات (6-9) من سورة النور.
(6) ينظر: مناقشة البصمة الوراثية ، د. صالح الفوزان، في الدورة السادسة عشرة، في المجمع الفقهي، 1422هـ، 2002م.
(7) أثر الدم والبصمة الوراثية في الإثبات، بسام القواسمي، ص (84).
(8) في كتاب اللعان، (2/1129)، حديث رقم (1492).
(9) فتح الباري لابن حجر (12/ 38).
(10) أثر الدم والبصمة الوراثية في الإثبات، بسام القواسمي، ص (82).
(11) ذهب إلى القول بالإتجاه الأول: د. يوسف القرضاوي، كما في مناقشات المسألة في الدورة السادسة عشرة، ومن دورات المجمع الفقهي بمكة، في 25/10/1422هـ، 9/1/2001م. وذهب إلى الاتجاه الثاني: نصر فريد واصل، وهو مفتي الديار المصرية سابقا، وهو موثق في بحثه المقدم في الدورة السادسة عشرة، ومن دورات المجمع الفقهي بمكة، في 25/10/1422هـ، 9/1/2001م، بعنوان: البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها، ص (30)، وهذا القول عليه الفتوى في الإفتاء المصري. وأما الاتجاه الثالث فقد قال به سعد الدين هلالي، في بحثه الموسوم بـ: البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية، المقدمة للمنظمة الإعلامية للعلوم الجينية28/1/1421هـ - 3/5/2000م، ص (11)، وينظر: أثر الدم والبصمة الوراثية في الإثبات، بسام القواسمي، ص (84-85).
(12) الآية رقم (6)، من سورة النور.
(13) من مناقشة الصديق الضرير في الدورة السادسة عشر بمكة ي 25/10/1422هـ، 9/1/2001م.
(14)البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها ،نصر فريد واصل، وهو بحث مقدم في الدورة السادسة عشر، ومن دورات المجمع الفقهي بمكة، في 25/10/1422هـ، 9/1/2001م، ص (30)
(15) ينظر: أثر الدم والبصمة الوراثية في الإثبات، بسام القواسمي، ص (86-87).
(16) أثر الدم والبصمة الوراثية في الإثبات، بسام القواسمي، ص (82).