" فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون "
9 ربيع الأول 1436
د. خالد رُوشه
إنه ذكر الله سبحانه , حياة القلوب والأبدان , به تنير الحياة وبغيره تظلم , من أدمنه أفلح ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا ويحشر يوم القيامة أعمى .

 

وأهل الذكر هم أهل البصيرة , والمدركون حقائق الأشياء , والمتصفون بالحكمة في القول والعمل , والمتعاملون مع الحوادث والمواقف معاملة الراشدين , فهم المستمسكون بالفضيلة مهما انتشرت الدناءة والوضاعة بين أهل الصراعات , وهم الثابتون على جميل الأخلاق ومحاسن الأفعال مهما تدنس الناس بمساوئها وقبيحها .

 

وهم أهل السرائر الطاهرة , والنوايا الحسنة الفاضلة , والعزائم الصادقة , والسلوك الإيجابي المصلح , المقتدون بخير الخلق .

 

وانظر الى نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذ يقول :"  ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى ، قال : ذكر الله تعالى " الترمذي

 

وقوله صلى الله عليه وسلم :"  ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله " أخرجه أحمد , وقوله صلى الله عليه وسلم لرجل قال له يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كَثُرت عليَّ، فأخبرْني بشيء أتشبَّث به، قال: " لا يزال لسانك رَطْبًا من ذِكر الله" الترمذي

 

وتصويره الفرق بين الذاكرين وغيرهم إذ يقول صلى الله عليه وسلم :" مَثَلُ الذي يذكر ربَّه، والذي لا يذكر ربَّه: مَثَلُ الحيِّ والميت " البخاري


والآية الكريمة التي نلفت إليها ههنا تأمر بتسبيح الله وتحميده , وبالاستمرار على ذلك , وبأن يبتدىء المؤمن يومه به وينهيه به , إقرارا منه بعظمة ربه سبحانه وبتنزيهه عن كل نقص وبكونه يستحق الحمد كله لنعمائه الكثيرة وآلائه الجليلة سبحانه .

 

قال سبحانه : " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون , وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون "

 

قال ابن كثير: " هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة ، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده ، في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه : عند المساء ، وهو إقبال الليل بظلامه ، وعند الصباح ، وهو إسفار النهار عن ضيائه .

 

ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد ، فقال : ( وله الحمد في السماوات والأرض ) أي : هو المحمود على ما خلق في السماوات والأرض , ثم قال : ( وعشيا وحين تظهرون ) فالعشاء هو : شدة الظلام ، والإظهار : قوة الضياء "

 

وقال بعض المفسرين : المراد منه الصلاة ، أي صلوا ، وذكروا أنه أشار إلى الصلوات الخمس ، وقال بعضهم أراد به التنزيه ، أي نزهوه عن صفات النقص وصفوه بصفات الكمال ، وهذا أقوى ، والمصير إليه أولى ; لأنه يتضمن الأول ; وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب ، وهو الاعتقاد الجازم ، وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن ، وبالأركان معهما جميعا وهو العمل الصالح .

 

قال في اضواء البيان : " يقول الله تعالى: " فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى "، وقوله تعالى : " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين " , وقوله تعالى : " فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ " , فتضمنت هذه الآيات الكريمات أمر الله تعالى بالتسبيح بعد أمره له بالصبر و "فيه دليل على أن التسبيح يعينه الله به على الصبر المأمور به ، والصلاة داخلة في التسبيح المذكور".

 

وقال الشوكاني :" فسبحوا الله، أي نزهوه عما لا يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي، وفي وقت الظهيرة "

 

وقال القرطبي : " خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض على الصلاة في هذه الأوقات. قال ابن عباس: الصلوات الخمس في القرآن، قيل له: أين؟ فقال: قال الله تعالى: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صلاة الفجر {وَعَشِيًّا} العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} الظهر، وقاله الضحاك وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب والصبح والعصر والظهر، قالوا: والعشاء الآخرة هي في آية أخرى في {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] وفي ذكر أوقات العورة  ,  وقال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} في الصلوات. وسمعت علي بن سليمان يقول: حقيقته عندي: فسبحوا الله في الصلوات، لان التسبيح يكون في الصلاة، وهو القول الثاني. والقول الثالث- فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون، ذكره الماوردي. وذكر القول الأول، ولفظه فيه: فصلوا لله حين تمسون وحين تصبحون."

 

فمن ابتدأ يومه بتسبيح الله سبحانه فقد جدد العهد مع ربه سبحانه , وقد خطا نحو القرب إليه سبحانه , فجعل من يومه عبادة وقربى , ون اختتمه كذلك فقد انتظم اليوم كله , وصار يومه وليلته اعترافا له سبحانه بربوبيته وألوهيته وفضله , فسكن قلبه بذكره وتسبيحه , وهدأت جوارحه , واقتربت منه الملائكة وفرت منه الشياطين .