لحظةُ الاحتضار .. بين حيرةِ المتكلمين .. ويقينِ العجائز
29 ربيع الأول 1436
د. عمر بن عبد الله المقبل

شيّعْنا في الأسبوع الماضي امرأةً تجمعني بها آصرةٌ من قرابة ومصاهرة، وليست هذه المقالة في الحديث عنها ـ مع أنها تستحق رحمها الله ـ لكنه حديث ينطلق من بعض مواقفها؛ ليعبِّر عن نموذجٍ يتكرر في أترابها من كبار السنِّ رجالاً ونساءً.

 

 

عُمّرِتْ المرأةُ المذكورة نحو المائة عام، وفي أواخر حياتها، اعتراها ما يعتري كبيرَ السنّ من ضعف، فكانت تسمع من أبنائها الدعاءَ المعتاد بطول العُمُر، ونحو ذلك، فكانت تقول: (يكفي ما عِشْنا .. لقد اشتقتُ للموت)! وتُتَمْتِم بكلماتٍ تُشعِرك بالشوق للقاء الله.

 

 

هذه التمتمات المعبِّرة عن الشوق للموت، ظهرتْ جلياً وبوضوح عند نزول الموت ـ كما حدثني ابنُها ـ فإنها لما ضَعُف تنفّسها في الساعات الأخيرة، وأرادوا الذهاب بها إلى المستشفى؛ كانت تردد هذه الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾[الجمعة: 8]، فلما نزل بها الموتُ، لم تزِد على أن قالت: هلا بالله .. هلا بالله .. هلا بالله! أشهد أن البعثَ حقٌّ، ثم فاضت روحُها رحمها الله!

 

 

إنها لحظات لا يمكن التمثيل فيها أبداً، بل المتحدّث الرئيس فيها هو القلبُ الذي كان يعيش أجملَ لحظاته، وهو يُدْبِرُ عن هذه الحياة المنغصّة؛ ليُقبِل على فواتح الرحمة الإلهية، نقولها إحساناً منّا للظنّ بالرب الكريم الذي كانت تعبدُه هذه المرأة، وأمثالها من المؤمنين الموقنين بل المشتاقين للقاء الله.

 

 

يحدّثني ابنُها أنها في تلك الليلة ـ التي فاضت فيها روحُها قرابة الساعة الثانية عشرة والنصف ليلاً ـ قرأتْ بعد المغرب الأذكارَ كاملةً، ومنها: سيد الاستغفار، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عن كلمات هذا الدعاء العظيم: «مَن قاله من النهار موقنًا به، فمات من يومه قبل أن يُمْسي؛ فهو من أهل الجنة، ومَن قاله من الليل وهو موقنٌ به، فمات قبل أن يُصبِح؛ فهو من أهل الجنة»([1]).

 

 

هذا النوع من كبار السنّ، لم يدخلوا يوماً مدرسةً يتعلمون فيها، ولا جلسوا بين يَدَي معلّمٍ في الكتاتيب، لكنّهم رضعوا معاني اليقين عبر كلماتٍ يسيرة تلقّوها في صِغَرهم من والديهم، وافقت فطرةً نقيّة لم تتلوث بشيءٍ من نواقض الفطرة ونواقصها، ولا عبثِ الفكر، بل كانت حياتهم عامرةً بحب الله ورسوله، والقيامِ بأنواعٍ مِن العباداتِ البدنية واللسانية والمالية، التي يُرى أثرُها في بوارِق السرور الذي لا تُخطئه العينُ والأذن، سواءٌ في فلتات اللسان، أو على صفحاتِ الوجه، رغم المصائبِ التي تمرّ، والمنغصات التي لا تخلو منها هذه الحياة.

 

 

لقد طاف بي طائفٌ ـ وابنها يحدثني عن خاتمة أمّه، والتي لها نظائر كثيرة ـ من أخبار العلماء الذين خاضوا في علوم الفلسفة والكلام، ممن عاشوا لحظاتِ الوداع الدنيوي، وختامِ المطاف في هذه الحياة، وكيف اتفقتْ كلماتُهم على الحيرة، والقلق، والرغبةِ في الموت على دِين العجائز، الذي لم يتلوث بهذه العلوم التي عَظُم ضرَرُها.

 

 

هذا أبو المعالي الجويني يقول في آخر حياته: "لقد خضتُ البحرَ الخِضَمَّ، وخلّيت أهلَ الإسلام وعلومَهم، ودخلتُ في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته؛ فالويل لابن الجويني! وها أنا أموت على عقيدة أمي، ويُروَى أنه قال: على عقيدة عجائز نيسابور". وقال مرةً لأصحابه: "لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلتُ به"([2]).

 

 

وهذا الفخر الرازي يقول ـ بعد صولات وجولات في علم الكلام ـ: "مَن التزم دِين العجائز فهو الفائز"([3]).

 

 

واليوم تَعود المطالبةُ لسلوك طريقةِ هؤلاء ـ الذين جرّبوا مَرارةَ البعدِ عن العلومِ الصحيحة ـ لكن باسم الحرية الفكرية، والاستقلال في النظر، والاطلاعِ المطلق على تراثِ الآخرين، دون تمييزٍ أو تمحيص، أو تفريقٍ بين قادرٍ على التمييز مِن غيره!

 

 

وإنّ أولَ مَن سيكتوي بنارِ هذه الدعوى المطلقة والمجرّدة من كل قيْد: هم الداعون أنفسهم ـ إن لم يتداركهم الله برحمته ـ! فهل يريدون تكرار تجربة الجويني أو الرازي؟! أخشى أن يموتوا قبل أن يَستدركوا! فضلاً عن تحمّلِهم أوزارَ مَن ضَلوا أو شكّوا في محكماتِ دِينهم بسبب دعواتهم غير المنضبطة..!

 

 

فاللهم موتاً على الإسلام والسنة، موتاً يمتلئ القلبُ معه شوقاً إلى لقائك يا أرحم الراحمين.

 

المصدر : الموقع الرسمي للدكتور عمر المقبل

  
============

([1]) البخاري ح(6306).
([2]) ينظر: مجموع الفتاوى (4/ 73)، و"بيان التلبيس" كلاهما لابن تيمية(1/ 407).
([3]) لسان الميزان (4/ 427).