انعطاف كبير يبدو بعد شارلي إيبدو
2 ربيع الثاني 1436
أمير سعيد

كفة الحرب كانت تميل بقوة باتجاه المحور، قبل أن يلجأ الحلفاء إلى الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، فتدور دفة المعركة في اتجاه آخر، اتجاه قيادة عسكرية فتية للغرب، لم تشأ من يومها أن تتخلى عن قيادتها..

 

دوايت ايزنهاور، القائد الأمريكي الأعلى للحلفاء، وأول قائد لحلف الناتو، قاد حينها كوكبة من كبار القادة العسكريين في الحرب، كالجنرال الأمريكي جورج باتون، والفرنسي شارل ديجول، ووينستون تشرشل، والفيلد مارشال البريطاني بيرنارد مونتجومري..  منذ هذا التاريخ لم يخضع أي جندي أمريكي لأي قائد عسكري آخر، اللهم إلا ربما في حالات رمزية.

 

الولايات المتحدة مذ خضعت لها أوروبا مضطرة قبل سبعين عاماً لم تقبل أن تتنازل عن عرشها هذا لأحد.. ولا حتى في مظاهرة رئاسية "رمزية" تضم نحو خمسين من قادة العالم، يقودها الرئيس الفرنسي، للتنديد بـ"الإرهاب"، بعد سقوط 17 فرنسياً في أحداث شارلي إيبدو وما تلاها.

 

يسألون: لِمَ أحجم أوباما عن المشاركة في مظاهرة باريس الكبيرة التي رتبت بعناية لتحدث انعطافة تكتيكية في علاقة أوروبا بمسلميها خصوصاً، والمسلمين عموماً.. يتهمه خصومه أحياناً بالتردد حيال إلقاء الولايات المتحدة بثقلها خلف هذا التحشيد الأوروبي، لكن لعلهم يغفلون أن السياسة الأمريكية ليست عاطفية، وتخضع لحسابات دقيقة، ويدرك واضعوها أنه في أوج صواعق 11 سبمتبر، التي أودت بحياة الآلاف لم تطلب إدارة بوش الجمهوريةُ، العالمَ بمظاهرة استعراضية كهذه، ولم تنشط لمثل هذا في حوادث تالية، فمن غير اللائق أن تلعب دور النائحة المستأجرة فيما لم تفعل حينما كانت ثكلى بالفعل.

 

وإذا كان الأمر لا يتعلق بـ"اللياقات"؛ فإن للولايات المتحدة حساباتها العملية الأخرى؛ فهي لا تخوض معارك نيابة عن الآخرين، ولئن شاركتهم، أو بالأحرى قادتهم؛ فهي تحسب بدقة التوقيت الذي ينبغي لها أن تتدخل فيه، وهو غالباً عند قطف الثمار لا وقت الري وإزالة الحشائش! هكذا فعلت في الحرب العالمية الثانية، وفي أزمة السويس، وغيرها.. وفي شارلي إيبدو تلمح صراعاً قادماً في أوروبا بين "المسيحيين" والمسلمين، قد يتخذ أشكالاً متعددة، وأحدها سيكون فكرياً.

 

تخوض الولايات المتحدة معاركها الشاملة ضد الإسلام والمسلمين، وربما احتلت المركز الأول في عدائها بعد أن احتلته بـ"جدارة" من قبل امبراطوريات كروسيا وبريطانيا، لكن لا يبدو أن في أعلى سلم أولوياتها في المرحلة الحالية مشاركة الأوروبيين في حربهم ضد الوجود الإسلامي في أوروبا، برغم وضع ذلك في استراتيجيتها كتحدٍ ينبغي التغلب عليه.

 

دولة يبلغ عدد سكانها ستة أضعاف عدد سكان فرنسا، منهم عدد أكبر بقليل من المسلمين ممن يعيشون في فرنسا، لا يمكنها أن تتخذ سياسة متطابقة حيالهم.. بلغة أيسر: مسلمو أمريكا لا يكادون يمثلون "عبئاً" عليها؛ في حين يمثل المسلمون البالغة نسبتهم نحو 12% من تعداد الفرنسيين "عبئاً ثقيلاً" على فرنسا "الكاثوليكية المتعصبة"، لذا؛ فالفرق لابد أن يختلف بين السياستين الأمريكية والفرنسية حيالهم، ويجعل واشنطن تحجم عن استخدام لفظ "الإرهاب الإسلامي"، فيما لا تتحفظ "الدبلوماسية الفرنسية" عن استعمالها.. فرنسا، كسائر أوروبا تسشعر "خطراً" قادماً عليها.

 

قبل ما يزيد عن أحد عشر عاماً، أجرى رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق، آرييل شارون مقابلة، نشرها موقع "إي يو بوليتيكس" المخصص لشؤون الاتحاد الأوروبي (تحديداً يوم24/11/2003)، بالغ فيها في تقدير حجم المسلمين بأوروبا بغرض التحذير منهم، قائلاً: " إن وجود المسلمين في أوروبا بشكل أقوى عن أي وقت مضى يهدد بالخطر يقينًا حياة اليهود، هناك نحو 70 مليون مسلم يعيشون في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي"! وزاد بتحريضه: "إن حكومات الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي لم تبذل قصارى جهدها لمعالجة مشكلة معاداة السامية بسبب الوجود القوي للمسلمين في أوروبا عن أي وقت مضى". ووصل في تصريح آخر له بعدد المسلمين في أوروبا إلى 118 مليون مسلم! لعله ضم في إحصاءاته تلك كل مسلمي تركيا وروسيا وليس دول الاتحاد الأوروبي فقط.. أيا ما كان؛ فتصريحاته لا تبتعد كثيراً عن تصريحات اليمين الأوروبي سواء في فرنسا أو غيرها. هم يقدرون حجم المسلمين في أوروبا على نحو يختلف عن تبسيطنا له بعض الشيء! فملايين المسلمين في دول البلقان وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا والدول الاسكندنافية.. تثير هلعاً لدى المتعصبين، لأسباب أيديولوجية وسياسية عديدة.

 

أبرز تلك الأسباب يتلخص في أن أوروبا التي حافظت على حريات داخلية واسعة تجد نفسها – بسبب كراهيتها للإسلام – مضطرة أن تتخذ سياسات أمنية حادة، واجتماعية متشددة، وتتجه إلى أن تكون "ديكتاتورية" شيئاً فشيئاً حيال بعض مواطنيها، التي ستتعامل معهم لاحقاً بطريقة "عنصرية".

 

تاريخياً، ظلت أوروبا شبه خالية من المسلمين، لكنها بسبب الفتوحات العثمانية، لاسيما ما بعد فتح القسطنطينية، أصبح هناك مسلمون "أصليون"، ثم مع اضطرار أوروبا للتعامل بالمثل فيما يخص الأقليات المسلمة النائشة في دول وقعت في حالة مراوحة بين الحكم العثماني المسلم، والأوروبي "المسيحي" صارت تعامل مسلميها معاملة متدرجة نحو الأفضل، ثم مع احتلالها لكثير من الدول الإسلامية هاجر كثيرون من تلك البلدان المحتلة بعد إفقارها وإذلالها إلى دول أوروبا، التي أفادت من وجودهم في نهضتها المادية خصوصاً المتعلمين والأكاديميين، لكن مع تزايد أعدادهم، وحصول كثيرين منهم وأبنائهم على جنسيات أوروبية، بدأت أوروبا "تفيق سريعاً من وهم الحريات التي مارستها" وتتجه نحو سياسة عنصرية شيئاً فشيئاً.

 

هذه السياسة لها تفسيراتها لدى اليمين الأوروبي النامي الآن في كثير من بلدان القارة العجوز؛ فهؤلاء القادمون الذين استقروا منذ عشرات السنين في أوروبا، وإن كانوا يخضعون – كالأوروبيين – لنمط حياة معين لا يتفق مع معتقداتهم، إلا أن أجواء الحرية النسبية التي يعيشون فيها غيرت من تكوينهم الاعتيادي للدول الإسلامية التي ترزح في معظمها تحت حكم أنظمة شمولية استبدادية تقتل الإبداع، وتميت الرغبة في التحرر، وتورث الذل والهوان. هذا يجعل من عشرات الملايين تلك، قوة مغايرة تماماً لتلك الموجودة في البلدان الإسلامية، من حيث، التعليم، والمناخ العملي الإبداعي، سيادة القانون.. بما يتيح لهم، الحديث بحرية (نسبية تتراجع الآن كثيراً) سياسياً، وتمكنهم من إنشاء مؤسساتهم الأهلية المستقلة التي لا يمكنهم في بلدانهم الأصلية إنشاء مثلها (مدارس، مستشفيات، مراكز إسلامية، جمعيات إغاثية، حقوقية.. الخ)، إضافة إلى توفرهم على رؤوس أموال لا تخضع بالضرورة لإملاءات دول ديكتاتورية متسلطة.. الخ

 

هذا، يُجسد الخطورة بعينها لديهم، لاسيما إن أضيفت إليه مظالم متجددة تؤجج مشاعر مسلمي أوروبا، ليس وحدها ما يخص ما يحدث في دول مسلمة كسوريا والعراق وفلسطين وإفريقيا الوسطى وغيرها مما تسبب فيه الغرب عموماً، وإنما تلك المظالم المتصاعدة في أوروبا ذاتها، ومنها تلك الانتقائية الواضحة في حماية العدوان على مقدسات المسلمين وحملات الإساءة ضدهم وضد دينهم، والتي لا تضاهيها ممارسات مشابهة ضد اليهود و"المسيحيين".

 

أوروبا تجد نفسها بين "نارين"، وخيارين أحلاهما "مر"، ما بين اتخاذ سياسة إقصائية تهميشية ضد المسلمين، والسماح بإهانتهم ومقدساتهم ومساجدهم، بما يفجر شعوراً مناهضاً لهم من قبل أوروبيين مسلمين، لا تستطيع بسهولة طردهم؛ فمناخ محاكم التفتيش مختلف عنه الآن، وهو في الوقت نفسه يجعلها تتآكل "حضارياً"، وتفقد أهم مبادئها التي صاغتها لتحقيق سلام داخلي من بعد حروب أوروبية داخلية ضروس قضت على عشرات الملايين في حربين فقط ضمن حروب استمرت لقرون، ويعرض أمنها بالخارج للخطر (قنصليات.. مصالح.. الخ). أو الصمت على تنامي هذا الحضور الإسلامي، وتركه يصبح رقماً حتى داخل البرلمانات والحكومات.

 

أوروبا، على ما يبدو، تعيش حيرة في اللجوء إلى أحد الخيارين، لكن بعض عواصمها الرئيسة، رأت أنه لـ"حسن حظها" – فيما يتبدى لها – فإن الكتلة الأكبر من المسلمين في أوروبا والعالم ما زالت غافلة، ويمكن لأوروبا أن تمزج بين الخيارين تدريجياً؛ فمن جهة يمكنها أن تعتمد على تلك الغفلة في "لعن الإسلام والإشادة به معاً"، وهي الآن تفعل..

 

نعم، سلكت عواصم أوروبا الكبرى المسارين معاً؛ فهي من جهة تشيد إشادة صفراء باردة بالإسلام و"براءته من الإرهاب"، وتثمن "غفلة" كثير من المسلمين، وتشجع عليها، كون "أكثر المسلمين ليسوا إرهابيين" أي لن يكافئوا الإساءة الغربية لمقدساتهم بالغضب والاحتجاج والرفض (حجم المظاهرات السلمية ضد إساءات شارلي إيبدو وزميلاتها الأوروبية المتضامنة تكاد تكون منعدمة، وهو تطور لافت يوضح نجاعة سياسة الإساءات الكثيرة خلال العقد الماضي في تعويد المسلمين عليها وألفتها!)، وهي بهذا تريد تحييد الكتلة البشرية الأكبر للمسلمين عن سياسات لا تستهدف "الإرهاب" وحده، وإنما التدين بحد ذاته.

 

ومن جهة أخرى، تتخذ أوروبا سياسة متشددة متصاعدة حيال المسلمين تحت ذريعة "محاربة الإرهاب" بالفعل؛ فقد تعددت أشكال هذه السياسة الجديدة، وفقاً لما ذكرته صحيفة "تركيا" فإن " بريطانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، والنرويج، والنمسا تُعِد الآن تعديلات دستورية للضغط على المسلمين؛ ومن ضمن التدابير التي ستتخذها إنجلترا متابعة تصرفات أطفال المسلمين من أعمار ثلاثة إلى أحد عشر عاماً لتحديد ميولهم تجاه الإرهاب، بينما ستطالب إسبانيا جيران عوائل المسلمين بتقديم تقارير عن تصرفاتهم، وإبلاغ المسؤولين عن أي تصرف مشبوه، أما إيطاليا فقد أعلنت بعضُ المدن عدم سماحها بإنشاء المساجد فيها، بينما ستمتنع النمسا عن تمديد إقامة أئمة المساجد، وتطالب النرويج مواطنيها بمراقبة المسلمين".

 

المسلمون في أوروبا - وفقاً لما تقدم - مقدمون على استحقاق تاريخي جديد، فلربما يستدير بهم الزمن؛ فيجدون أنفسهم كمسلمي الأندلس، موريسكيين، لكن بشكل "أنيق"، مواطنين أوروبيين، لكن بلادهم لا ترحب بهم، أو لا تريدهم إلا أن يكونوا مسخاً لغيرهم، وأن يصادروا حريتهم، عبر إعادة تعريف دينهم من خلال أقنية لا دينية جديدة، أو تتمظهر بالإسلام بغية "أوربة الإسلام"، وإعادة تفسيره طبقاً لما يمليه عليهم الاتحاد الأوروبي لا دينهم نفسه!

 

بالأمس، واليوم، ظل الغرب، وأدواته ببلداننا، تعيب على "متطرفينا" أن له "قراءة انتقائية لنصوص الدين الإسلامي" أو "تفسير خاص بهم"، لكنه الآن يخفق "حضارياً" في تجاوز هذا الامتحان، ويشاطر هؤلاء "المتطرفين" – بزعمه – "خطيئتهم" بتوحيد تفسير الإسلام وفقاً لما يدعونه؛ فيفعلون الشيء نفسه! أوليست مطالبتهم للمسلمين في أوروبا بتجديد - بل بوقاحة أشد، بتوحيد - الخطاب الديني، ليصادروا كل تراث المسلمين الفقهي المتنوع، ويجبروهم على فقه "ديكتاتوري" – إن جاز التعبير – يقهر هذه على ارتداء ما يشاؤونه، وهذا على فعل ما يوافقون عليه، ولو لم يتعارض تنوع آرائهم مع قوانينهم ومبادئهم في حرية الرأي والتعبير؟! فكيف لو كان ما يريدونه يصادم أصلاً حتى خلافاتنا الفقهية المعتبرة، ويأخذ بآراء من شذ من المعاصرين؟!