مفهوم الشرعية في "القمة العربية"
10 جمادى الثانية 1436
أمير سعيد

الارتياح العربي الشعبي لعاصفة الحزم، والفرح بتقليم أظافر إيران، والكبح الجزئي لمخططاتها في المنطقة، لا يعني بداهة ترحيب الشعوب العربية بكل ما هو صادر عن "القمة العربية"، لاسيما لو كانت تلك الأخيرة إنما جاءت في أعقاب بدء العملية العسكرية ضد ميليشيات الحوثي والقوات الإيرانية وتوابعها في اليمن، ولم تصدر عاصفة الحزم عنها كمؤتمر لدول جامعة عربية يفترض أنها أنشئت خصيصاً لحل المشاكل العربية.

 

 

عاصفة الحزم، ضربة جيدة موفقة، في توقيت ملائم إن لم يكن متأخراً بعض الشيء، وإزاحة المحتل الإيراني ضرورة حتمية.. لا مراء في هذا.. وتحرير اليمنيين من هذا الاحتلال وكسر شوكة مغتصبي السلطة الحوثيين، كله هو واجب الوقت.. لكن في مقابل جميع هذا، يحق لنا أن نسأل "مؤتمر القمة العربية"، ما هو مفهومك للشرعية ومدى إيمانك بها؟ مثلما سألناه مراراً: ما هو تعريفه للإرهاب؟ ومن قبل للعدوان الصهيوني؟ وعن اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي كان ينبغي لها أن تشمل كل باغٍ ومحتل أثيم.

 

 

لذا؛ فإن "القمة العربية"، برغم تحفظ كثيرين على توجيه اللوم لها، خلافاً لسابقاتها، إما مراعاة للظرف، أو تجسيداً لحالة التراجع الملحوظ في المساحة "الممنوحة" لحرية التعبير في كثير من البلدان العربية على خلفية تسميم المناخات السياسية العربية على وجه العموم.. هذه "القمة"، لا ينبغي أن تكون بمنأى عن النقد، كونها مثلت حالة من الاضطراب ربما لم يسبق لها مثيل على هذا النحو منذ أنشئت الجامعة العربية قبل ستين سنة.

 

 

ولعل أهم ما يسترعي الانتباه والنقد هذه المرة، ليس الضعف والعجز والتبعية الاعتيادية في مثل هذه القمم عن حلحلة أمور جوهرية، كالعجز عن حل المشكلة السورية والليبية والفلسطينية والعراقية.. الخ، ولا الضعف عن مجرد اتخاذ موقف أكثر صرامة حيال المناطق المحتلة لأكثر من خمس دول عربية (بشكل مباشر معلوم)، وإنما في أخطر سؤال يمكن أن يطرح في مثل هذه القمم: وهو سؤال الشرعية.

 

 

سؤال الشرعية اليوم ليس مطروحاً على "القمة العربية" كواحدة من أكثر التجمعات والتحالفات الدولية فشلاً في التاريخ الحديث، فحسب، وإنما هو مطروح على العالم كله، كونه مؤذن بتفسخ القواعد الدولية العامة التي وإن كانت قد ولدت مشوهة، إلا أنها عمدت إلى محاولة تجميل مظهرها وإخفاء قبح ازدواجيتها.

 

سؤال الشرعية كان ينبغي أن يوجه للحكام المجتمعين في شرم الشيخ، فيقال: على أي أرضية أنتم واقفون؟!
ومن أين تكتسب "الشرعية"، ليحظى هذا الحاكم أو ذاك بمقعد بينكم؟

 

 

أهي شرعية السلاح والقوة؟ فلماذا إذن استبعدت "القمة" بشار الأسد، وهو لم يزل ممسكاً بتلابيب السلطة، يحكم قبضته على دواليب الحكم، رئاسة وحكومة وبرلمانا ومحليات في سوريا، ولم تزل سفاراته مفتوحة في كل أنحاء العالم؟! (هذا مع التأكيد قطعاً أنه لا يستحق إلا المحاكمة كمجرم حرب، ومرتكب جرائم ضد الإنسانية)

 

 

أم هي شرعية "العاصمة"، التي يبسط سلطته عليها أي نظام؟ فلماذا احتل عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي المنحل مقعد ليبيا؟ ومن امتلك صك الشرعية ليمنحه إياه، وبرلمانه لا يمكنه ممارسة دوره في العاصمة وفقاً للدستور.

 

 

أم هي شرعية "القانون"؟ فبرلمان عقيلة منحل وفقاً لأحكام المحكمة العليا الليبية، ولا يمكنه بحال أن يمثل ليبيا، لا من منطلق القوة، ولا الدستور، ولا القضاء الدستوري، ولا حتى "الشرعية الانتخابية"، فالرجل لم يحصل إلا على مئات الأصوات فقط ليكون نائباً، ورئاسته لمجلس النواب فيها نظر من عدة وجوه! فكيف يمرر الاعتراف العربي والدولي في مؤتمر القمة بـ"شرعية" لم يتم التوافق عليها في ليبيا، ولا تمثل لا الأكثرية ولا القوة ولا الدستور ولا الثورة؟!

 

 

أم هي شرعية "الثورات"؟ والتي أفرزت في إحدى توافقاتها "الرئيس هادي" نفسه، وإلا فما مبرر نقد تلك "الثورات" في قلب قاعة المؤتمر ذاتها؟ وما مبرر استبعاد الائتلاف السوري من الحضور بعد أن كان دعي في "قمة" سابقة، وهو الممثل للثورة في تقدير الجامعة من قبل؟

 

 

أم هي شرعية "التحالفات"؟ وإلا فما الذي يجعل محمود عباس يحرض مطمئناً على سلطة غزة "الفعلية"، بينما هو ذاته قد فقد شرعيته بانتهاء مدة رئاسته منذ سنوات، وما يجري على غزة ينسحب على الضفة سواء بسواء من الناحية القانونية والدستورية من حيث الشرعية، وتأجيل الانتخابات النيابية دون تفسير (طالبته الفصائل متحدية بتحديد موعد للانتخابات فلم يقبل).

 

 

أم هي شرعية "استمساك الرؤساء بالشرعية الانتخابية الديمقراطية"؛ فإن هادي ليس هو النموذج الأمثل لحالة الصمود والإصرار؛ فالفريق هادي الذي جاء بالتوافق، وفي انتخابات انفرد بخوضها وحده، ويمثل تعبيراً عن النظام السابق أكثر منه تعبيراً عن "الثورة اليمنية" التي وضع حصولها الأساس لـ"شرعية هادي" ذاتها، هو عينه الذي وقع اتفاق السلم مع الحوثيين واضعاً إياهم كجزء من نظام الحكم الحالي، وقدم استقالته فعلياً من رئاسة اليمن، سواء أكان مكرهاً أم زاهداً! وهو الذي ترك العاصمة ثم ترك العاصمة البديلة ثم غادر البلاد، وشرع في جولة خارجية لعدم تمكنه من دخول بلاده مطمئناً.

 

 

كل هذا، يعني أن العرب لم يتوافقوا بعد على مفهوم "الشرعية"، وهو سؤال استحقاقي يكبح المنطقة كلها عن الوقوع في الفوضى.. لا أعني فوضى السلاح، وإنما فوضى الشرعية الحقيقية.. لأنها حين تغيب، كإرادة حقيقية للشعوب تعبر عنها في أجواء مطمئنة حضارية؛ فإن كل طائفة أو فريق سيسعى لفرضها بقوته، وبتوافقات لا شعبية، وتشرعن لحكم الأقليات المتغلبة.

 

 

إن هذا المفهوم، مثله مثل "الإرهاب" بحاجة إلى تحرير، وضبط، واتفاق على معايير محددة، وإلا لصارت الجامعة العربية مرآة للعالم الذي أضحى يؤمن بـ"شرعية الفوضى"، أو بشرعية الهوى لا شرعية الدساتير والقوانين.. وإن لم تفعل هذه "القمة"، وجامعتها؛ فلا يُظن أنها تهرب إلى الأمام ناجحة في طريقها الغامض.. لأن الدول لا تبنى على الفوضى.. بل هذا التجمع الذي يلتئم جامعاً للعرب سينهار من قريب، ليس لأسباب سياسية فحسب، وإنما لأسباب أخلاقية مبدئية أيضاً.