قفزة تركية إستراتيجية إلى القرن الإفريقي
11 جمادى الثانية 1436
أمير سعيد

«قبل 14  قرنًا لجأ خمسة عشر مسلمًا إلى إثيوبيا، ولم يطردهم ملك ذاك العصر، ولم يسخر من معتقداتهم، ولم يسب مقدساتهم، ولم يتدخل في عباداتهم، بل ولم يسلمهم للظالمين الذين يريدون استعادتهم.
واليوم إن سألتم بعض المجتمعات والدول والمثقفين سيقولون لكم إن ذلك العصر كان عصر جهل وتخلف وظلام. ولكننا لأجل هذا نقول إنه لم يكن أبدًا عصر جهل أو تخلف أو ظلام (...) كان للإنسان، بل وحتى للحرب أخلاقها.. ما كان لأحد أن يمس النساء والأطفال والشيوخ والعاجزين...في ذلك المجتمع لم يكن هناك قتل عام أو إبادات جماعية.

 

 

واليوم... القنابل الذرية، والأسلحة النووية، والأسلحة الكيميائية والتقليدية التي تبيد الناس جماعات جماعات! كل هذا لم يكن أي منه موجودًا في ذلك العصر (...) الإنسانية اليوم تقع خلف موقف إثيوبيا النبيل من المسلمين»، هكذا خاطب الرئيس التركي الإثيوبيين في جامعة أديس أبابا، خلال زيارته لمنطقة القرن الإفريقي، حيث سعى من خلالها إلى إيجاد أرضية متينة للعمل المشترك لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده، الذي توليه أنقرة أهمية كبيرة في تلك البقعة الإستراتيجية المهمة. 

 

 

تحدث أردوغان حينئذ عن «التعايش»، ولعله رنا إلى أن تسفر جهود بلاده التنموية في المنطقة إلى تذويب الصراعات والثارات القديمة بين دول وقبائل المنطقة لاسيما بين إثيوبيا والصومال دفعًا للعمل الاقتصادي المشترك، والذي سيمنح أنقرة حظًا في بناء مستقبل المنطقة والتأثير في سياساتها.

 

 

كان الزعيم التركي يخطب هناك، فيما كانت مليشيات الحوثيين تجتاح دار الرئاسة في العاصمة اليمنية مؤذنة بسقوط عاصمة جديدة في يد الإيرانيين، الذين لم يتوانوا من بعد عن الهيمنة على مضيق باب المندب. وكأن تلك الجولة ما كان لها أن تتأخر عن هذا التوقيت، الذي قد يوفر قدرًا ولو ضئيلًا من التوازن الجيوستراتيجي في المنطقة.

 

 

قاد القدر أردوغان لأن يقطع زيارته تلك، ويتجه مباشرة إلى العاصمة السعودية لحضور جنازة الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وهي العاصمة التي ربما تشاطر أنقرة القلق ذاته من اقتراب نظام طهران من مضيق نفطي عالمي آخر بعد مضيق هرمز.

 

 

إيران هنا منذ زمن في القرن الإفريقي، تحديدًا في ميناء مصوع الإرتري، حيث توجد حامية عسكرية من الحرس الثوري، والآن في ميناء الحديدة اليمني الخاضع كغيره لمليشيات الحوثي، ولها علاقات متينة مع كينيا نسجها رئيس إيران السابق أحمدي نجاد، وقبلها اخترق الكيان الصهيوني باستخباراته واستثماراته «جمهورية أرض الصومال» الانفصالية، بعد نجاحه في التغلغل في أوغندة، وكينيا، فمع جولة وزير الخارجية الصهيوني ليبرمان قبل ست سنوات إلى تلك المنطقة تعزز الوجود الصهيوني هناك.

 

 

تركيا «الأتاتوركية» كانت بعيدة جدًا عن المنطقة، لكن مع تولي خبير إستراتيجي «عثماني» لوزارة الخارجية التركية بدأت أنقرة تولي اهتمامًا متصاعدًا بالمنطقة، فما بين إطلاق سياسة انفتاحية تجاه إفريقيا عمومًا والقرن الإفريقي خصوصًا في عام 2003، ثم إعلان عام إفريقيا في تركيا 2005، وبين تلك الزيارة المهمة الأخيرة لأردوغان، كان ثمت جهد لافت قفز بتركيا لأن تصبح ثالث دولة نشطة في إفريقيا بعد الصين والهند. وما بين عقد أول قمة للتعاون التركي الإفريقي في مدينة إسطنبول بمشاركة 49 دولة إفريقية في عام 2008، وتلك اللحظة التي تتدفق فيها الشركات التركية إلى القرن الإفريقي، أصبحت تركيا لاعبًا لا يستهان به في منطقة غير بعيدة أبدًا عن اهتمام «العثمانيين الجدد».

 

 

تركيا تحركت متأخرة بطبيعة الحال، لكنها غدت مؤثرة في المنطقة، وأصبحت لاعبًا يخصم حضوره من حظوظ الآخرين. يقول الكاتب التركي أردان زنتورك: «كانت إسرائيل تهدف إلى جعل إثيوبيا، كينيا ثانية، بتجهيز جيشها بالسلاح وتزويدها بنظام تعليمي وسياسة زراعية، إلا أنّ الاستثمارات الصناعية التي قامت بها تركيا في إثيوبيا بمقدار 3 مليار قد زعزعت بدون شك الهدف الإسرائيلي» [أردان زنتورك، إسرائيل وتركيا في النزاع الإفريقي، صحيفة ستار، 28 يناير 2015]. ففي الحقيقة، ثمت ما بات يشغل الكيان الصهيوني أكثر عن القرن الإفريقي، من دون أن يفقدها أوراقها هناك بدرجة كبيرة، كما أن إيران المنشغلة بحروبها ضد المسلمين في العراق وسوريا واليمن، وإن كان لديها طموحها في القرن الإفريقي، وأدواتها وعلاقاتها مع بعض القوى السياسية والمسلحة هناك، إلا أن تحركها «الناعم» أصبح مكبلًا مع مشكلاتها الاقتصادية إثر تراجع أسعار النفط، واستنزاف النزاعات المسلحة التي تخوضها لميزانيتها الخارجية، ما جعلها تقتصر على بعض الاستثمارات المحدودة لشركات إماراتية يستثمر فيها رجال أعمال إيرانيون في بعض تلك الدول لاسيما إثيوبيا.

 

 

وبرغم أهمية القرن الإفريقي؛ فإن تركيا «الأتاتوركية» التي انكفأت على ذاتها تجاهلته تمامًا، بل حتى عارضت بقاياها توجه الحكومة التركية الحالية لهذه المنطقة الإستراتيجية متذرعة بفقر المنطقة، واضطرار الحكومة لضخ أموال ضخمة فيما لا تدرك معانيه، لكن «العثمانية» لم تدر ظهرها لمنطقة تدرك أهميتها جيدًا؛ فهاجم أردوغان منتقديه في هذا بقوله: «لا يمكننا أن نغض بصرنا عن أراضي أجدادنا، إننا نسير على خطى أجدادنا، وسنحيي ذكراهم في كل الدول التي تواجدوا فيها، وسنورث ذكراهم للأجيال القادمة. فمن ينتقد زيارتي من المعارضة، لا يعرف أجداده جيدًا». [صحيفة صباح التركية، 31 يناير]. على أن الأمر يتجاوز هذه «العاطفة التاريخية»! فأردوغان وفريقه يدركون جيدًا، لمَ كان الأجداد هناك. يفسر ذلك الكاتب التركي البارع إبراهيم قره غل بقوله: «لم نستطع قراءة الواقع مثل العثمانيين! نحن قوم لا نقرأ الخريطة بشكل جيد، تأخرنا كثيرًا عن العثمانيين فيما ‏يخص الجيوبوليتيك، ولم نستطع أن نفهم سبب تمسك العثمانيين باليمن ‏وببعض الدول الأخرى ببسالة حين كان وضعهم العسكري متدهورًا‎.‎

 

 

لو نظرنا إلى الخطط السياسية والعسكرية في زمن الدولة العثمانية لعرفنا ‏كم نحن ضعفاء في هذا المجال... لقد كانت رؤية العثمانيين في أضعف ‏أوقاتهم أفضل من نظرتنا وقراءتنا للواقع اليوم‎». [إبراهيم قره غل رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة يني شفق، الانقلاب الإيراني في اليمن، 24 يناير 2015]. هم إذن قرؤوها الآن جيدًا، لذا صاروا هناك برغم كل الفقر المدقع الذي لم يشجع أحدًا سوى أردوغان على زيارته التاريخية في أغسطس من عام 2011، والتي فاجأ بها الجميع حين زار عاصمة هي الأخطر أمنًا في العالم حينئذ، مقديشو، ثم عاود خطوته الشجاعة في يناير الماضي بزيارة لا تقل عنها خطورة حين استبقه فصيل مسلح بتفجير استهدف دبلوماسيين ومسؤولين أتراكًا في فندق أقاموا به قبل يوم واحد من زيارة أردوغان، حيث تعتبره حركة شباب المجاهدين المتهمة بالمسؤولية عن تلك العملية، امتدادًا للنفوذ الأمريكي، وتسعى لإحباط مشروعاته التنموية في الصومال. وهو التفجير الذي أجمع مراقبون محليون على أنه يبعث برسالة إلى الأتراك أن «دعوا الصومال في بؤسها».

 

 

اتخذت سياسة تركيا مراحل متدرجة لإقامة علاقات وثيقة مع دول وشعوب المنطقة؛ فهي بدأت بسياسة تقديم المساعدات والخدمات الإغاثية؛ فقد حظت الصومال على سبيل المثال بنصيب جيد من مساعدات تركية بلغت نحو 4,5 مليار دولار للدول الفقيرة، ثم مزجت ما بين هذا وتنمية البلاد وإقامة مشروعات البنى التحتية، وقد افتتح أردوغان خلال زيارته الأخيرة في 25 يناير الماضي مشروع توسعة مطار مقديشو الدولي، وإعادة ترميم وتوسيع ميناء مقديشو الدولي، وافتتاح مستشفى «رجب طيب أردوغان» يحوي 200 سرير، ويسلم بعد خمسة أعوام من الأطباء الأتراك إلى الإدارة الصومالية الكاملة، وتعهد تركيا ببناء 10 آلاف وحدة سكنية في الصومال للمحتاجين، ووفرت منحًا دراسية مجانية لأكثر من ثلاثة آلاف طالب صومالي للدراسة في الجامعات التركية. ويبدو أن المرحلة التالية ستكون أكثر تأثيرًا من سابقاتها في الواقع الصومالي؛ فأنقرة التي عملت على جمع الفرقاء الصوماليين من قبل في مدينة إسطنبول التركية، وتسعى لرأب الصدع فيما بين القبائل، والدول الانفصالية، تسعى لموازنة الوجود الإيراني والصهيوني في سواحل البحر الأحمر الجنوبية ومضيق باب المندب، وليس أدل على اهتمامها المتزايد بالصومال من حرصها على أن السفارة التركية المزمع بناؤها في مقديشو «ستكون أكبر السفارات التركية في العالم على مساحة تبلغ نحو 65 ألف متر مربع، وتحوي أبنية بمساحة 10 آلاف متر مربع، وهذا يعكس بالطبع اهتمام تركيا المتزايد بعلاقتها مع الصومال. هذا الاهتمام الذي لا شك أنه يقابل باهتمام أكبر من الصوماليين أنفسهم، للحد الذي جعل معه الرئيس الصومالي يصرح: «مشى مع أردوغان في الشارع مليون من الصوماليين، ولكن كنا مجبورين على أخذ هذه الاحتياطات لدرء الأخطار».. ليس الأخطار وحدها فقط، وإنما استثمار هذه الزيارة بأكثر من صعيد، ليس أقلها التأكيد على أن الصومال يخطو خطوات، ولو كانت بطيئة، لتحقيق قدر من الاستقرار والهدوء.

 

 

وإثيوبيا، التي زارها الزعيم التركي أردوغان، ليست دولة هامشية؛ فهي إحدى مرتكزات السياسة الغربية في القرن الإفريقي، وهي واحدة من أكبر ثلاث دول إفريقية من حيث عدد السكان (نيجيريا، ومصر، وإثيوبيا)، وهي تضم عشرات الملايين من المسلمين، وهي إحدى نقاط الارتكاز في السياسة التركية الخاصة بالقرن الإفريقي، التي لا تتعاطى مع المصالح الاقتصادية وحدها في رسم سياستها الخارجية؛ فهي تبقى محملة بإرث تاريخي عريق لم يعتد أن يرى العالم من نافذة الاقتصاد فحسب.

 

 

لكن إذا نظرنا من خلالها سنجد أن مصالح تركيا الاقتصادية في إثيوبيا قادتها إلى رفع حجم تبادلها التجاري معها منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا من 27 مليون دولار إلى نصف مليار هذا العام، وتقاطرت منها أكثر من مائة شركة إلى إثيوبيا يعمل لديها أكثر من ستين ألف إثيوبي، في مشروعات ضخمة أبرزها خطوط السكك الحديدية السريعة، التي تصل إحداها إثيوبيا بجيبوتي، وكذا العديد من المشروعات التي تستهدف تلك السوق الواعدة.

 

 

وإذا عبرنا إلى جيبوتي، سنجد أن تلك الدولة التي تزدحم بترسانة أسلحة غربية وقوات حماية متعددة تعد رئة بحرية لإثيوبيا (الحبيسة)، بوسعها أن تحقق تكاملًا في مجال النقل البحري وتصدير المنتجات الإثيوبية، ولهذا ظهر مشروع السكك الحديدية التركي ليفي للطرفين بهذا، ويعزز من مكانة تركيا مع حليفيها.

 

 

ستكون تركيا حال إقامة مشروعاتها في تلك الدول أكثر تأثيرًا وحضورًا، وحيث تدفقت قطع بحرية لقوى دولية منذ سنوات قليلة إلى المنطقة بحجة مكافحة القرصنة؛ فإن أنقرة تسعى هي الأخرى إلى التمركز هناك تحت ذات اللافتة والمنطق.

 

 

هكذا تراها السياسة التركية، واحدة من أهم المناطق التي يتوجب عليها أن تكون فيها حاضرة، وهكذا تشجع أصدقاءها العرب على أن يكونوا هناك لصناعة مستقبل «الشرق الأوسط» في إحدى مرتكزاته الإستراتيجية الكبرى. أوليس لافتًا أن يخطب أردوغان هناك فيقول: «لو أن الدول النفطية تنفق زكاة نفطها فقط في هذه الدول فلن يبقى فقر ولا بؤس»؟! ليس فقرًا وبؤسًا فقط، بل لإقامة إستراتيجية مشتركة تركية - عربية لمجابهة التغول الصهيوإيراني في خاصرة العرب.

 

 

 :: مجلة البيان العدد  333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.