خطر عولمة الأسرة المسلمة من جديد
24 جمادى الثانية 1436
د. عامر الهوشان

مع النجاح النسبي الذي حققه الغرب في مجال العولمة السياسية والاقتصادية , حيث النظم السياسية الغربية هي الأكثر تداولا بين دول العالم اليوم , ناهيك عن اجتياح مفهوم السوق الرأسمالي الحر اقتصاديات العالم , وهيمنة الشركات الكبرى عابرة القارات على الاقتصاد العالمي , إلا أن العولمة الاجتماعية تبقى هي الأكثر أهمية بالنسبة للغرب , نظرا لتأثيرها المباشر على واقع حياة المسلمين , وعلى التزامهم الديني . ومن هنا كان اهتمام أعداء الإسلام شديدا بالعولمة الاجتماعية , والتي تشمل فيما تشمله الأسرة المسلمة , تلك الأسرة التي ما تزال رغم الهجمات التغريبية العنيفة , وحملات العولمة المتتالية , تحافظ على قدر من التزامها بالمبادئ والقيم الإسلامية التي تحفظ ذلك الكيان الأساسي في المجتمع المسلم . وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين كاملين على المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد بالقاهرة في سبتمبر من عام 1994م , إلا أن الغرب لم ييأس بعد – على ما يبدو - من إمكانية تطبيق بنود ذلك المؤتمر في البلاد الإسلامية , و التي تتناقض مع أبسط مبادئ وقيم الدين الحنيف . فالأمم المتحدة - التي هي في الحقيقة صنيعة الغرب ووسيلته للتسلل إلى المجتمعات الإسلامية للنيل من مبادئ وقيم دينهم الإسلام - تحاول هذه الأيام من جديد تفعيل قرارات مؤتمر السكان بالقاهرة , وذلك من خلال مشروع قرار يحمل مزيدا من الضغوط لتطبيق وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان (عام 1994) , وذلك أثناء جلسة لجنة السكان والتنمية بالأمم المتحدة في نيويورك في الفترة بين 13 و17 أبريل/نيسان الجاري , تحت عنوان "إدماج قضايا السكان في التنمية المستدامة والأجندة التنموية لما بعد 2015م . وبعيدا عن الألفاظ المنمقة والعبارات المطاطة التي تستخدمها لغة بنود مؤتمر السكان , فإن حقيقة هذه البنود هو : هدم كيان الأسرة المسلمة , وإفساد أخلاق الجيل المسلم ذكورا وإناثا , ونشر الإباحية في صفوف شباب وفتيات المسلمين , ومعارضة جميع أحكام الدين الإسلامي . ويمكن إجمال جوهر وحقيقة ما تدعو إليه بنود المؤتمر الذي يحاول مشروع القرار الجديد الضغط على الدول لتطبيقه بما يلي : 1- الدعوة إلى الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة ، والقضاء التام على أي فوارق بينهما ، حتى فيما قررته الشرائع السماوية ، واقتضته الفطرة ، وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها . وعقدت الوثيقة لذلك فصلاً كاملاً هو الفصل الرابع بعنوان " المساواة بين الجنسين والإنصاف وتمكين المرأة .... وهو ما يتعارض مع القرآن والسنة والواقع الذي يؤكد وجود فوارق جوهرية بينهما . 2- الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعا ، واتخذت الوثيقة له من الوسائل الآتي : • السماح بحرية الجنس ، وأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج ، والدعوة إلى الإجراءات الكفيلة بذلك . • التنفير من الزواج المبكر ، ومعاقبة من يتزوج قبل السن القانونية , وإتاحة بدائل تغني عن الزواج المبكر ، من قبيل توفير فرص التعليم والعمل . • العمل على نشر وسائل منع الحمل ، والحد من خصوبة الرجال وتحديد النسل ، بدعوى تنظيم الأسرة ، والسماح بالإجهاض المأمون وإنشاء مستشفيات خاصة له ، وحث الحكومات على ذلك ، وتكون التكاليف قليلة جدا . • التركيز على التعليم المختلط بين الجنسين ، وتطويره؛ لأنه من أعظم أسباب إزالة الفوارق بين الجنسين ، وتعويق الزواج المبكر ، وتنشيط الاتصال الجنسي . • التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكر : سن الطفولة والمراهقة . • تسخير الإعلام لتحقيق هذه الأهداف . إن هذه البنود هي في الحقيقة إلغاء تام للتعاليم الدينية وعلى رأسها التعاليم الإسلامية , بل هي إلغاء تام للقيم الإنسانية والاعتبارات الأخلاقية , وإعلان واضح وصريح للإباحية , وحرب ومحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم , وسلب قوامة الدين الإسلامي على العباد , فضلا عن سلب ولاية الآباء والأمهات على الأبناء , وسلب قوامة الرجل على المرأة , المقررة شرعا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . لقد كانت أولى ردود الفعل على انعقاد جلسة الأمم المتحدة لهذا الغرض الخبيث من قبل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين , الذي أصدر بيانا شديد اللهجة بشأن هذا التحرك الأممي , معتبرا أن تبني أي إجراءات في هذا الإطار يهدد استقرار الأسرة وتماسكها وقيم المجتمع , داعيا الدول الإسلامية إلى رفض كل الوثائق الدولية التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية , وعدم سحب تحفظاتها على تلك الوثائق التي تضغط الأمم المتحدة لسحبها . لقد كشف بيان الاتحاد على الكثير من المغالطات والتناقضات في المسعى الأممي الأخير أهمها : 1- كشف حقيقة ما يسمى "مساواة النوع" (الجندر) التي يؤكدها القرار من أجل تحقيق التنمية المستدامة ، مؤكدا أنها في الحقيقة مطالبة بإلغاء كافة الفوارق بين الرجل والمرأة للوصول إلى التساوي المطلق ، فضلا عن أنها مساواة بين الأسوياء والشواذ . 2- التناقض الظاهر بين اعتبار تلك الوثائق تقييد الحريات الجنسية للجميع انتهاكا لحقوق الإنسان ، بينما تغض الطرف أمام الانتهاكات الصارخة التي تتعرض لها المرأة والفتاة المسلمة في كثير من أنحاء العالم - مثل سوريا وفلسطين والعراق وبورما وافريقيا الوسطى وغيرها- من قتل وحرق واغتصاب ممنهج وتعذيب واعتقالات تعسفية!! فهل ستكون هناك ردود فعل أخرى على هذه الخطوة الأممية التي تهدد كيان الأسرة المسلمة وخاصة على مستوى الحكومات العربية والإسلامية ؟؟