بالتيمور.. أمريكا ما زالت عنصرية
10 رجب 1436
عبد الحكيم الظافر

كلما أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تظهر حالها كواحة للحريات وإذابة العنصريات، وتجسيداً لحلم الحرية، وتمثاله الذي كان يستقبل المهاجرين إليها قبل قرون عبر الأطلسي.

في بالتيمور أكبر مدن ولاية ميريلاند الأمريكية تكررت الجريمة، تعدٍ سافر على شاب ينحدر من جذور إفريقية، أي أنه "أسود" من قبل الشرطة الأمريكية وأفرادها "البيض"، أثناء القبض عليه ما أسفر عن إصابته بكسر في العمود الفقري أدى إلى وفاته بعد أيام.

القصة تبدأ عندما اعترض أفراد من الشرطة الأمريكية طريق الشاب فريدي غراي (25 عاماً) بغرض إلقاء القبض عليه، بزعم حيازته لسكين بحسب تقرير الشرطة، لكنهم تعاملوا معه معاملة عنيفة، تعودها الأمريكيون من شرطتهم في الآونة الأخيرة ارتداداً إلى العنصرية التي حاولت الولايات المتحدة الظهور بمكافحتها فأخفقت، ما أدى لإصابته إصابة بالغة، واستمر يعاني منها منذ 12 إبريل الحالي، حتى قضت عليه يوم 19 من الشهر ذاته، طبقاً لشهادة ذويه.

لم يعتبرها "السود" في المدينة التي تضم عدداً كبيراً منهم حادثة عادية، وإنما عنصرية بامتياز، فانتفضوا محتجين، في أعقاب جنازة الشاب، بأعمال عنف لمدة عدة أيام، ما أسفر عن إضرام المحتجين الغاضبين في 144 سيارة بينها سيارات شرطة، و15 مبنى شملت متاجر وبناية في طور البناء تضم شققا للمسنين، وإصابة أكثر من عشرين شرطياً، ونهب أكبر المراكز التجارية في المدينة حيث أظهرت الصور لصوص ينهبونها بدعوى الاحتجاج.

وكان في المقابل رد فعل السلطات الأمريكية حازماً؛ فقد ألقت القبض على أكثر من مائتي محتج، وأعلن حاكم ولاية ميريلاند الأمريكية لاري هوغان حالة الطوارئ في الولاية يوم الثلاثاء 28 إبريل ، فيما كشفت الجنرال ليندا سينغ المتحدثة باسم قيادة الحرس الوطني عن قرار إرسال قرابة 5 آلاف جندي سينتشرون بكثافة في شوارع المدينة لمساعدة الشرطة المحلية. وأشار حاكم الولاية إلى أن السلطات تواصل نشر القوات الإضافية من جميع أنحاء البلاد، فعلى سبيل المثال، أرسلت وكالة نيو جيرسي وحدة من الحرس الوطني يضم 150 شخصا. كذلك تعليمياً، أعلنت السلطات إغلاق مدارس بالتيمور يوم الثلاثاء خوفا على سلامة الطلاب، وأغلقت جامعة ميريلاند بالتيمور أبوابها بناء على تحذيرات من الشرطة، وتجارياً، أغلقت العديد من المحلات التجارية في بالتيمور.

ورغم أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وصف عمليات العنف هناك بالعمليات الإجرامية، إلا أنه أقر بوجود "أزمة ظهرت بشكل بطيء" في تعامل الشرطة مع المجتمع وخصوصا الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية؛ فهذه ليست المرة الأولى التي يتعامل فيها ضباط الشرطة مع أفراد خصوصا أميركيين من أصول إفريقية غالبا فقراء، بطرق تثير تساؤلات مقلقة".

محاولة أوباما للتخفيف من حدة "الغضب الأسود"، الذي يتفاعل كل فترة قصيرة من ولاية أمريكية إلى أخرى، فلم تكن تمضي مدة طويلة على مقتل رجال سود عزل في فيرغسون وميزوري ونيويورك سيتي وغيرها، حتى داهمت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الجريمة العنصرية الجديدة التي تجعل مصداقية الولايات المتحدة في مجال حقوق السود موضع اتهام وشك كبيرين من دول وشعوب أخرى.

كعادة أمريكا، حيث تغطي الولايات المتحدة وجهها بمساحيق تجميل؛ فإن فكرة المساواة فيها صارت على المحك، وحلم سيادة القانون تكسر على صخرة العنصرية، والنهب الذي كشف عن وجه قبيح أيضاً للأمريكيين "الغاضبين"!

منذ أربعة قرون، استجلبت عصابات البيض أفارقة مختطفين من قارتهم المنكوبة، لاستخدامهم كعبيد مهانين في بناء "الحلم الأمريكي"، ومع مرور القرون ظن أحفادهم أن ثمة ضوءاً في نهاية النفق، وأنهم سيرون قبل انتهاء العصر الأمريكي، مساواة في ربوعها، لكنهم لم يكونوا سوى حالمين؛ فالعنصرية لن تفارق الرجل الأبيض وعصابات الأنجلوساكسون.

وها هي أمريكا تعود تدريجياً لقبحها التي حاولت ستره، ليس من زمن بعيد، وإنما منذ حركة السود في الستينات من القرن الماضي فقط.. ظن أولئك أنهم مواطنون متساوو الحقوق.. أفاقوا في فيرغسون وميزوري ونيويورك سيتي، وأخيراً في بالتيمور على أن وهم المساواة لن يكون أبداً حقيقة.. ستظل هكذا أمريكا، وستظل تلقي مواعظها على العالم عن ضرورة احترام حقوق الإنسان حالما تريد استراتيجيتها أن تتدثر بها.