الدولة العربية الحديثة.. تدارك الثغرة الطائفية
7 شعبان 1436
ربيع الحافظ

في الإعلام العربي اليوم بصنفيه الرسمي والمستقل جهد لتطويق مشروع سياسي تسربل لعقود بثوب المظلومية لكنه وصل طورا أخذ يجاهر بالإساءة إلى حرمات الإسلام وكره العرب والعروبة وعدم الانتماء إلى الوطن ونجح في الاستيلاء على مجتمعات عربية بأكملها وتوغل في أخرى.

دوافع هذا الجهد متباينة بين مبدئية وظرفية لكن المشترك هو أن المادة الوثائقية التي يحملها تطرق مسامع المواطن للمرة الأولى وينصدم بحجم الكراهية المحتبسة في هذا المشروع الذي نشأ في محيط الوطن وعلى تربته وتغذى على خيراته وتعلم في مؤسساته، ويكتشف هذا المواطن أن بنادق الكراهية كانت مصوبة نحو رأسه من مسافة قريبة جدا دون أن يدري.

 

 

هذا المواطن يتساءل: كيف لمشروع بهذه الغايات والإعداد أن يقوم على رقعة سيادة الدولة؟ كيف يتوارى عن أنظار المجتمع وبين جنباته؟ كيف لا يكون لمؤسسة الأمن القومي مجسات إنذار مبكر تتحسس مثل هذه المشاريع في بداياتها؟ كيف لا تخصص الدولة لمشروع بهذه القوة التدميرية -وقد اكتشفته- أكاديميات ومعاهد إستراتيجية أسوة بالتي تعنى بالدراسات العبرية؟ كيف يبوب مشروع تقويضي كهذا تحت عناوين سطحية كاختلاف المذاهب الإسلامية؟ لماذا احتاج إعلام الدولة العربية سنوات طوال من استباحة مجتمعات عربية قبل أن يكتشف أو يكشف الحقيقة؟ ولماذا تجد الدولة نفسها عاجزة عن إدارة المعركة الفكرية لتلجأ إلى مؤسسات أهلية لسد الخلل؟

تمنيات المواطن هذه ما زالت بعيدة عن واقع الحدث، فالمشروع الطائفي اندفع في العمق العربي تحت عناوين ضللت الجمهور والنخب ونجح في هدم مجتمعات بأنماط مختلفة في مراحل: نمط الانقلاب السياسي الهادئ الذي قادته الأقلية النصيرية في 1970 وخطف سوريا العربية السنية على حين غرة وألحقتها بالمدار الإيراني، ونمط حزب الله المعتمد على الضوضاء السياسية والفوضى الأمنية وتعطيل الدولة من الداخل، ونمط الحرب الطائفية التي تفتح الباب لقوة طائفية خارجية كما في اليمن، ونمط تأليب الغزو الدولي وهدم الدولة والمجتمع بالكامل كما في العراق.

الجهد الإعلامي الجديد تحول إيجابي يستأهل المؤازرة لكن المشهد السياسي بحاجة إلى عناوين وأطر فكرية وتاريخية سهلة على مدارك المواطن تخرج الأمر من العواطف وتضعه في القوالب وتسد الثغرة.

الأنماط الأربعة المختلفة في النمط متحدة في مدخلها إلى المجتمع العربي وهو النفاذية العالية لأسواره الثقافية ونزعة الاسترخاء لدى المدرسة السياسية البانية لهذا المجتمع التي لم تحتفظ لنفسها بدور الناظم الفكري والأمني أو ما يسمى في علم الاجتماع دور "كبير المجتمع" الذي تكمن مصلحته -وحده دون غيره- في تعايش وتكامل مكونات المجتمع كافة. طوية العربي البسيطة وفطرة الصحراء -وسذاجتها أحيانا- التي اصطحبها إلى المدينة هي التي تبرعت بهذا الدور وجعلته حقا مشاعا لكل من يريد المزايدة فضاع العربي السني وضاع معه عياله (المجتمع).

 

 

الجهد الإعلامي الجديد متأخر لكن فرصة إنقاذ الموقف لم تفت تماما والسبب هو أن للمشروع الطائفي نواهض ثابتة لا تتغير ومآلات واحدة. أما نواهضه فهي الغفلة الثقافية للمجتمع، ومآلاته هي الافتضاح في خضم يقظة وتعافي المجتمع، فهو قوي زمن الضعف السياسي ضعيف زمن التمكن السياسي، ومع اقتراب الدورة من النهاية تكثر أخطاؤه ويتقهقر، وقد أصيب المشروع الطائفي بضربات في مواجعه ليس بأقلام النخب فقط وإنما بألسنة العامة. التحام حكايات العامة والجدات بنظريات النخب هي مرحلة غاية في الأهمية في صراع المجتمع مع عدو يريد استئصال شأفته.

لا بد في مثل هذه المعركة من التعرف على الذات، فبرغم ما كتب وقيل على الشاشات والمطبوعات والإنترنت فإن المدرسة البانية للمجتمع لم تتحرر من الأغلال الأدبية التي تقيد "كبير المجتمع" ولم تخرج عن سلوك "أم الولد" -الذي تمرد- وما زال في فمها ماء كثير يمنعها من قول الحقيقة الكاملة.

شكلت الأحداث الكبرى في مطلع القرن العشرين وانهيار النظام السياسي الإقليمي للمجتمع الإسلامي ممثلا بصورته الختامية (العثمانية) وقيام ما سمي بـ"الثورة العربية"، شكلت هزة عنيفة للشخصية العربية السنية التي مثلت خيمة عاش تحتها أتباع الأديان والمذاهب والأعراق المكونة لفسيفساء الشرق، ثم جاءت تقسيمات سايكس بيكو لتحدث إرباكا لجغرافيتها السياسية.

كانت "الثقافة الوطنية" التي وضعتها الدولة الحديثة مصادقة فكرية على الإرباك الجغرافي نقلت المواطن من سمته الثقافي الإقليمي إلى السمت القومي ثم القطري لينكمش الفكر بموازاة الجغرافيا ويصبح المفهوم القطري أبعد نقطة يصلها ذهن العربي السني.

رغم ذلك لم تتوقف الشخصية العربية السنية عن أدوارها السابقة وتطبيق نظرياتها الاجتماعية والسياسية وإليها يعزى فضل نشوء كيانات في حقبة اضطراب سياسي وتخلخل أمني وعوز معيشي آوت إليها الأقليات التي عاشت في كنف نظامها (الإقليمي) السابق قرونا طويلة، هذه الكيانات هي التي ستعرف فيما بعد بالـ"الدولة العربية الحديثة".

شكلت المفاهيم الاجتماعية والتكوين النفسي للشخصية العربية السنية مادة صمغية لأجرام ونيازك عرقية ودينية ومذهبية انفلتت من المدار السياسي لا تمتلك مقومات للتعايش في مجتمع واحد ولا تضمر لبعضها غير الشك والمكيدة، ولا ثقافة لها سوى تصفية حسابات التي أجلها وجود المجتمع السابق، ولا تعرف صيغة تعايش غير الكانتونات، ولا نمطا اقتصاديا سوى الابتزاز، وقد اجتمعت هذه الخصال في عراق الأقليات اليوم الذي يمثل فيه الاقتتال على النار والكلأ والماء صورة الحياة والذي هو الدرجة السفلى في السلم الاجتماعي لبني البشر ووصل كيان الأقليات بأغنى دولة إلى شفير الإفلاس.

ما من خلاف أن الدولة العربية الحديثة انطوت على ظلم وفساد فكري وخلقي، غير أن التكوين الفكري والخزان الاجتماعي لـ"كبير المجتمع" كان مرساة منع سفينتها من أن تنجرف إلى عرض البحر وأضفى عليها طبيعة ضمنت الأمن والحقوق والتعليم والخدمات العامة وفرص النجاح للجميع ولم تتحول الدولة إلى كيان يكون فيه الانتماء الطائفي والعرقي -عوضا عن الكفاءة- هو سلم الارتقاء.

كانت الشخصية العربية السنية هي من تحمّل فاتورة قيام الدولة الحديثة والثمن هو مفاهيمها الفكرية والحقائق التاريخية عندما قبلت بالعيش على قدم المساواة الثقافية والتاريخية مع أقوام لا تحس بالشراكة معهم في الجذور والرؤى والمصائر.

 

 

لم تكتفِ هذه الشخصية بهذا القدر من إطلاق النار على نفسها حتى راحت تشرعن للقسمة الثقافية الضيزى وتضفي عليها قداسة وطنية لتصبح "الثقافة الوطنية" ماء يملأ فمها -هي وحدها- أعجزها عن النطق وتوعية أتباعها ساعة الحقيقة وقد أعجزها وهي ترى خنجر الطائفية والشعوبية يغرز في أحشائها، وأعجزها مرة ثانية وهي ترى الأقلام الشعوبية تشوه تاريخها وأدمغة أجيالها الجديدة، وأعجزها مرة ثالثة وهي ترى دولا تسقط بكاملها في شراك الطائفية كسوريا التي اختطفت تحت لافتة القومية العربية، وأعجزها مرة رابعة وهي ترى الكيان النصيري يتحول إلى كيان إقليمي تحت لافتة الجامعة العربية ويسقط لبنان في قبضة إيران وقد كاد أن يسقط العراق إبان الحرب ضد إيران، وأعجزها عن النطق مرة خامسة وسادسة وعاشرة.

لقد أريد للثقافة الوطنية أن تكون رداء يستر السوءات التاريخية والشذوذات الفكرية لبعض الأقليات وصولا إلى مجتمع "أسنان المشط" الذي يتساوى فيه الجميع وزاد المسلمون على تلك الثقافة -في مصر في حقبة المد القومي- فتوى تجيز للمسلم التعبد بما يسمى بالمذهب الجعفري الذي هو لافتة للصراع مع المجتمع الكبير وديوان لتسفيه حرمات الإسلام.

 

 

مع ذلك فإن جزءا من الأقلية الشيعية أصرت على تمزيق الرداء وكشف السوءات المغلظة ورقصة التعري أمام أول جندي أميركي يطأ تراب العراق، وقد مزقته قبلها الأقلية النصيرية في بلاد الشام مع مجيء الثورة الإيرانية التي تحالفت معها ضد عرب العراق، ومزقه حزب الله على أرض لبنان العربي بإعلان تبعيته لولاية الفقيه وإطلاق أسماء قادة المجوس على مؤسساته.

بهذه الطريقة بنت الشخصية العربية السنية مجتمع الدولة العربية الحديثة وهكذا يتفكك هذا المجتمع اليوم عروة عروة ويتفكك معه مفهوم الوطن والمواطنة وتتفلت المجتمعات من أيدي بناتها ورعاتها. هذه الشخصية بصفاتها العروبية الوراثية والأخرى المكتسبة التي أكسبها إياها الإسلام لا تقدر على التفكير بغير طريقة الكبار التي تنقذ بها نفسها وتنقذ معها الصغار وما لم تفعل تعود المنطقة ساحة لتنافس الفرس والروم كما كانت ويكون الناس وقودا له.

ظلت هذه الملفات الثقافية حبيسة الصدور -المكان الطبيعي عند "كبير المجتمع" ما ضُمِنَ الحد الأدنى من المصلحة العامة والأمن القومي- أمَا وقد بيعت هذه المصلحة في المزاد العلني واستبيح الأمن القومي فقد آن لها أن تخرج، وهي إذ تخرج فإنها جرس إنذار لأهل السنة لمراجعة مسارهم وتحمل مسؤولياتهم تجاه مجتمعاتهم ومن يأوي إلى خيمتهم من الأقليات.

ما سبق يؤول إلى جملة أمور:
- كشف المد الطائفي ثغرات خطيرة في ثقافة الدولة العربية الحديثة مر منها المشروع الشعوبي، منها: المفهوم المتسيب للمواطنة وعزل المؤسسة الدينية عن آليات الأمن الإستراتيجي والقومي.

- مفهوم الأقلية والأغلبية في الحضارات مفهوم فكري وليس رقميا.
- للأقليات حقوق صانتها الأغلبية مجتمع الحضارة العربية الإسلامية.

- ضيق ثقافة الأقلية لا يضعها في مقام بناء وإدارة مجتمعات تتسع للآخر ويدفعها خيار التقسيم على أساس الطائفة والعرق أمام أول فرصة.

- في حقبة المد الطائفي برز دور المؤسسة الخيرية (القطاع الثالث) وغالبا الإسلامية في الدفاع عن الأمن القومي والتوعية الجماهيرية وبقي دورها عفوي الطابع مذبذب العلاقة مع الدولة.

- بروز مساحة عمل مشتركة بين دولة ثبتت عدم كفاءة مؤسساتها في مواجهة المشروع الطائفي وبين مؤسسات أهلية تفانت في الذود عن الدولة والمجتمع من فوضى وإسقاط يعمل باتجاهها هذا المشروع.

- تفعيل القطاع الثالث يعالج إشكالية الآصرة العضوية بين مؤسسة الدولة في الأعلى وبين الشارع وهي المساحة الشاغرة والمخلخلة التي يستغلها وينشط فيها المشروع الطائفي بكفاءة عالية.

- حاجة الدولة إلى مشاريع إستراتيجية مع القطاع الثالث على غرار الدول المتقدمة التي تطور فيها هذا القطاع وبات يضع عن الدولة أعباء مهمة ويحرر طاقات يمكن حشدها في مجالات أخرى.

- تمثل المشاريع المشتركة بين الدولة والقطاع الثالث زمن الأزمات مساحات توافق قطعي ما يفتح الطريق أمام مشاريع مشتركة في مساحات رمادية أقل قطعية، ونمو الثقة بين الطرفين ونشوء قطاع جديد هو القطاع (الحكومي الأهلي) وتكون الدولة العربية قد ذللت عقبة كأداء في علاقتها مع المجتمع وأشركته في إدارة الدولة بطريقة المقاولة كما في الدولة المتقدمة.

الأزمات محطات مهمة في تاريخ الشعوب لا تفوّت، فيها تراجع القناعات، وتصنع المعجزات، وفيها يُعاد رسم الشخصية الجماعية للمجتمع، وهي فرص نادرة الحدوث.

 

 

المصدر : الجزيرة