مقياس المراجعة الصادقة
11 شعبان 1436
د. خالد رُوشه

إذا اراد أحدنا أن يراجع نفسه مراجعة صادقة , فإن هناك مقياسا صحيحا يمكنه أن يقيس عليه حاله , فيرى صورته , ويدرك موقفه الحقيقي فيما يخص صدق قلبه ..

 

ذلك المقياس هو عمل الخفاء , واقصد به ذلك العمل الصالح الذي يقوم به المؤمن سرا , حيث لا يراه أحد إلا الله سبحانه , مجتهدا أن يكون خفيا , محتسبا فيه نية الثواب والأجر من الله وحده ..

 

أعمال السر هي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه , فيها نداء القلوب إلى استحضار لذة العبودية , وصدق اللجوء , وتجرد النية له سبحانه , حيث لاأحد يرتجى سواه عز وجل .

 

الواقع ينطق أن أعمال الخفاء لا يثبت عليها إلا قلة قليلة من الصادقين المخلصين المحتسبين , إذ يستشعرون بالمعنى الحقيقي للعمل الصالح , حيث الإخلاص لاتشوبه شائبة , والصدق لا يقربه الريب , ذلك أن الصادق هو الذي لا يبالي بالناس من أجل صلاح قلبه, ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله.

 

إنها مقياس صالح لقياس حال القلوب , إذا أراد أحدنا أن يواجه الحقيقة من نفسه , وإذا أراد أن يصدقها , فيتخلى عن الصورة المتجملة أمام الناس , والسمعة المعروفة المتأنقة بينهم , وأراد أن يتصف بالشفافية الإيمانية الحقة , فيعلم حاله إذا وافته لحظة لقاء الله سبحانه .

 

أعمال , كقيام الليل الآخر , والسجود بين يدي الله سبحانه , والتسبيح التحميد والدعاء في السحر , وصدقة الخفاء , والعطاء بلا دلالة , ومعونة المحتاج حيث لا تكون معروفا ولا مشهورا ..

 

صالحات كنية الخير للمؤمنين جميعا , وصفاء النفس للأصدقاء جميعا , وإدخال السرور على المهمومين والمكروبين بغير طلب منهم ولا استجداء ..

 

دمعة خفية عنذ ذكر الله سبحانه وعذابه وعقابه وحسابه , وخطوة خفية نحو باب فقير لتترك مما يسره الله لك من نعمة , وربتة على كتف حزين مصاب , ودعوة بالغيب لمؤمن مبتلى ..

 

أعمال القلوب كلها أعمال خفاء , لذلك فالمقياس الحقيقي هو مقياس القلوب , وإنما توافق الجوارح القلب في الصالحات عندما يكون القلب صحيحا سليما , وتخالفه عند مرضه , وقد يتأثر القلب سلبا فتتأثر به الجوارح ..

 

 

الشيطان يشق عليه عمل الخفاء كأشد ما يكون , إذ هي ابعد شىء عن الرياء , لذا فهو لا يزال بك حتى تظهر أعمالك الخفية , ويبحث لك عن ألف مبرر ومبرر !

 

 

إن كثيرا مما نراه من صراع على الدنيا سببه الشح الخارجي , والشح الخفي, فأما الأول فمعلوم, وأما الثاني فهو البخل بالطاعة في السر, إذ إنها لا تخرج إلا من قلب كريم قد ملأ حب الله سويداءه, وعمت الرغبة فيما عنده أرجاءه, فأنكر نفسه في سبيل ربه, وأخفى عمله يريد قبوله من مولاه.

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل" (1)

 

وقال الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: "اجعلوا لكم خبيئة من العمل الصالح كما أن لكم خبيئة من العمل السيئ".

 

والزبير رضي الله عنه هنا ينبهنا إلى المعادلة بين الأفعال رجاء المغفرة؛ فلكل إنسان عمل سيئ يفعله في السر, فأولى له أن يكون له عمل صالح يفعله في السر أيضًا لعله أن يغفر له الآخر.

 

وقال سفيان بن عيينة: قال أبو حازم: "اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك" , وقال أيوب السختياني: "لأن يستر الرجل الزهد خير له من أن يظهره" , وقال بشر: لا تعمل لتذكر, اكتم الحسنة كما تكتم السيئة.

-------------
(1) أخرجه الخطيب في التاريخ , والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة , وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"398